نملة القراءة


*ميساء الخطيب

«نملة القراءة».. أحببت هذا اللقب الذي أطلقه عليّ صديق لاحظ شغفي بالقراءة، وانشغالي اليومي لساعات طويلة كنت أمضيها برفقة كتاب.

تذكر ذلك، أعادني إلى طفولتي وقراءتي الأولى، حين كنت في الحادية عشرة من العمر، وإلى غرفة في المخيم، كانت تفتقر إلى أي وسيلة من وسائل الراحة العادية، لكنها تفيض بالدفء والحب، وبمشاعر أمي التي كان همها الطاغي تربية أبنائها.
خالتي كانت مرشدتي الأولى ودليلي الذي لا يخطئ إلى عالم الكتاب، ويعود إليها الفضل الأول في تعلقي به. فقد كانت تحرمنا من الهدايا التقليدية في المناسبات، لكنها كانت تقدم هدايا أهم وأغلى وأثمن عشرات المرات.. الكتب.
في الحادية عشرة من عمري، قدمت لي خالتي «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران. كانت هديتها تلك أول كتاب اطلعت عليه، خارج الكتب الدراسية. لا أذكر عدد المرات التي أعدت فيها قراءة تلك الرواية، التي التصقت تفاصيلها بذاكرتي. وكان من الصعب على طفلة في مثل سني، أن تستوعب فكرة فقدان حبيب لحبيبته. فكنت أعيد القراءة، علّه يستعيد حبيبته ثانية.
ظل اسم «سلمى كرامة»، يلمع في ذهني كلما سمعت اسم جبران أو قرأت عنه أو مر بخاطري. وتعود إلي «سلمى»، أحيانا، عندما أزور مقبرة، أو أرى شجرة سرو، أو صنوبر، أو صفصافة، مما ارتبط بها في الرواية.
ومثل غالبية أبناء جيلي، كانت قراءة غسان كنفاني أشبه بممر إجباري، فنتاجه الأدبي لم يكن عاديا بالنسبة لي. وقراءة أعماله الروائية كانت قراءة لفلسطين نفسها ولتفاصيل الانتماء، حيث الإحساس بكل جزئيات المعاناة والذل والقهر، والعشق، حتى لهواء كدنا أن نحرم كلاجئين من تنفسه في مساكن الصفيح وأزقة التشرد، وكانت تعني كذلك الإحساس بالهزيمة ووجعها، والحاجة إلى تغذية الروح وتمكينها من المواجهة والمقاومة ولو بأبسط السبل.
كنفاني بالنسبة لي، هو مشوار العمر الذي أعيد قراءته مرة كل عام، وفي كل مرة أكتشف في أعماله الأدبية جديدا.
في مرحلة لاحقة، أخذت أغرف من الأدب الروسي، بداية بـ«الأم» لمكسيم غوركي، التي شدني فيها شبه عالمها بعالمنا نحن الفلسطينيين. في ذلك الحين، رأيت في الأم «بيلاجي» وابنها «بول» شخصيتين عاشتا بيننا.
يشدني عالم الكتب إلى درجة أنني أغار من البعض، أحيانا، إن تحدث أمامي عن رواية جميلة ومهمة لم أقرأها بعد. أبدأ رحلة البحث عنها للحصول عليها إن لم تكن متوفرة في مكتباتنا. وأعترف بأنني أبلغ ذروة سعادتي إن حصلت على إصدار جديد لم يسبقني إليه أحد، تماما كما حصل مع كتاب «أنا الموقّع أدناه محمود درويش»، قبل أشهر قليلة، فقد كنت أول من قرأه في فلسطين.
أصاب، أحيانا، بخذلان بعد قراءة كتاب لم يعجبني. لكني أتجاوز ذلك دائما بإيماني بأن الطريق إلى الكتب الممتعة، يمر أحيانا بما هو غير ممتع.
للشعر عندي أهمية خاصة.. قراءة من ديوان، أو استماع لصوت شاعر يلقي نصه ويرسم بالكلمات أجمل القصائد عشقا للإنسان والأرض. جبرا إبراهيم جبرا، توفيق زياد، محمود درويش، حسين البرغوثي، راسم المدهون، غسان زقطان، زكريا محمد، سميح محسن، وآخرون.. هؤلاء شعراء أضافوا الكثير لفلسطين وللشعر العربي. هؤلاء أمضي أوقاتا طويلة برفقة أشعارهم.
_________
* فنانة مسرحية فلسطينية مقيمة في رام الله/ الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *