السيد يوري – قصتان قصيرتان

*حسان الجودي

1-السيد يوري

 

لنفترض أنك تريد الذهاب لزيارة السيد يوري الذي يسكن في الشارع الأسود. السيد يوري هو شخص افتراضي أيضاً، والشارع الأسود هو شارع افتراضي في مدينة افتراضية. لكنك تقود دراجتك الهوائية السوداء عبر الشوارع ، مستعيناً بخرائط غوغل، حتى تصل الشارع المنشود. لكنه ليس أسود مطلقاً. بل هو شارع أخضر ملون بالأشجار والأزهار، فيبدأ الشك يتحرك في أعماقك، وتسأل نفسك، لماذا افترض عقلك وجود شارع أسود، وهو في الحقيقة أخضر زاه؟
تسند الدراجة على السياج، فتلاحظ أن باب السياج حيث يقطن السيد يوري هو مفتوح بشكل مريب على اتساعه.

تدخل عبره ، فتلمح خلف نافذة غرفة المعيشة السيد يوري وهو يعزف على الأكورديون.
تلوح للعازف، فلا يبدو عليه الاهتمام. إنه يحدق نحو جهتك ، وهو يعزف النشيد الوطني لبولندا.
تشعر بالاستغراب من جديد، فأنت موجود في هولندا، فما يفعل هذا البولندي هنا؟

تذهب إلى الفناء الخلفي ، فتجد الباب مفتوحاً . تدخل عبره إلى حديقة رائعة شاسعة.
تلاحظ وجود كلب أسود صغير الحجم نائم على الأريكة مستمتع بأشعة الشمس. تشعر بمزيد من الارتياب، فالطقس بارد نسبياً، وقد ارتديت معطفك الأسود الثقيل قبل الخروج من منزلك. من أين جاءت هذه الشمس الجميلة إذاً؟

تخدع نفسك قليلاً، وتوهمها أن الشمس افتراضية ، والمنزل والحديقة والعازف هم افتراضيون جميعاً.
يخرج السيد يوري برفقة زوجته للترحيب بك. تجلسون متباعدين محافظين على مسافة الأمان المفروضة للحماية من الفايروس. يقدمون لك قهوة لذيذة، ثم تكتشف أنك تتحدث إلى أشخاص حقيقيين. الزوجة تدعى هانكه في منتصف الخمسينيات. تعمل مساعدة طبييب في البلدة. تكشف ابتسامتها المستمرة عن أسنان بيضاء مبالغ في الاعتناء بها، وتكشف أسئلتها المتنوعة عن فضول حقيقي لمعرفة كل شيء عنك . أما السيد يوري فيعمل في ملاحة الطائرات، وهو يبدو صغيراً بالعمر ، يرتدي ثياباً أنيقة، وقد شعر بالسرور حين بدأتَ تحدثه بالبولندية.
اكتشفتَ بعد مضي ساعة حوار مع هؤلاء الأشخاص الافتراضيين، أن الزوجة لا ترى سوى بعين واحدة، وأن غدتها الدرقية لا تعمل منذ سنوات طويلة. وأن السيد يوري لديه مشكلة في عظيمات السمع ، وأنه يشكو من حالة أرق مستعصية. فتشاركهم حينها الخلل الكامن في جسدك أيضاً.

لقد كنتم جميعاً أشخاصاً حقيقيين. ويبدو أن عقلك هو من صنع تلك الافتراضات العديدة.
تغامر وتسأل مضيفيك عن سبب تسمية الحي بالشارع الأسود.

ينظران إليك باستغراب شديد، ثم يقومان معاً إلى منتصف الحديقة، حيث نهض كتاب ضخم مفتوح الصفحات. يتعاونان على قلب الصفحة ، فترى حينها أنكم صرتم جميعاً عمال تنظيف مدخنة تدعى الحياة تطلق الهباب دون انقطاع.

ثم تتعاونون جميعاً على قلب الصفحة، فترى أنكم صانعو محتوى مشهورون ، تصنعون فيديوهات رائعة عن فوائد حقنة السواد الشرجية للصحة العقلية.

2-وجوه ذائبة

اكتشفتُ بعد طول تفكير أن سماكة المرآة تتعلق بعدد الوجوه التي رصدت نفسها في تلك المرآة.
إنه اكتشاف رياضي بحت. قادني إليه الحصار الطويل. فاستخدمت القدرات المتبقية لمعلم رياضيات متقاعد بدأ الزهايمر يغزو دماغه ، واستطعت إيجاد العلاقة الرياضية التالية:

تزداد سماكة المرآة مع ازدياد عدد الوجوه المحدقة فيها.

شرحتُ لزوجتي هذه العلاقة ، فضحكت من سذاجتي وقالت :

-أنا أعرف ذلك منذ زمن طويل!

هل تذكر بيت أهلي القديم؟ .كانت هناك مرآة كبيرة سميكة جداً في غرفة جدتي ، وكنت أدخل فيها أثناء لعبة الغميضة . وهناك رأيت مئات الوجوه المألوفة والغريبة.
فقدتُ حماسي لاكتشافي الجديد بعد سماعي ذلك. تظاهرت باللامبالاة . وأشرتُ إلى قطع مرآة بيتنا المتناثرة ، وقلت لها:

-تعالي ننظر إذاً في سبب نحافة مرآتنا.

اقتربنا منها ، وبدأنا بتجميع الشظايا ولصقها حتى عادت المرآة كما كانت. ثم بدأتْ زوجتي بتقشيرها ، كما تقشّر يقطينة قاسية. واستطاعت بعد جهد إزالة الطبقة اللامعة الأولى من المرآة ، فظهرت وجوه أحفادنا. ثم أزاحت الطبقة الثانية ، فظهرت وجوه أولادنا، ثم أزاحت الطبقة الثالثة ، فظهر السواد مشوباً ببقع بيضاء شاحبة.

فصرختُ باستغراب:

-وأين وجوهنا نحن؟

أمسكت زوجتي يدي بحنو، ونبهتني إلى أمرٍ فاتني؛ لقد أذابت المياه الساقطة من ثقوب سقف الغرفة ملامح وجوهنا، فتجمعت كتلة طين عشوائية فوق الشظايا.

*********

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *