جماليات الطبيعة عند وديع سعادة

( ثقافات )

سارة ميسـّر *

إن الطبيعة التي تحفل بها نصوص وديع سعادة هي طبيعة خلابة تتفاعل مع الواقع، طبيعة تمثل دورة حياة الإنسان في كل زمان ومكان فهي لا نهائية، عملت على إنتاج طاقات جمالية كبيرة تناوبت بعدة أشكال وتجلت في عدة نماذج جمالية. وهي تعبر خير تعبير عن مكنونات النفس البشرية وتصوير الحياة من زوايا مختلفة، فنجد المونولوج الداخلي مرتفع الصوت يشدنا إليه، فالطبيعة تحاور الإنسان والإنسان يحاور الكون والكل ممتزج ليقدم صوراً سحريةً فائقة الجمال.

 

مفهوم الجميل عند وديع سعادة:

 يحيط الجمال بالإنسان، بموضوعاته وعناصره التي تتفاعل مع الكون لتنتج جمالاً آخر أو لتنتج موضوعات تقوم عليه. إنّه الجمال؛ الذي لا يقبل الحصر والقيد والجمود. السماء التي تضم قمرها اللامع، الفضاء بألوانه المترفة، زنبقةٌ شقّت طريقها إلى النّور، زهر اللوز في بداية نيسان، صوت من نحب، رائحة الياسمين في شوارعنا القديمة، انعكاس ضوء الشمس على عيون من نحب…

 “الجمال يدهشنا بالآفاق التي يفتحها أمامنا ويحيلنا إلى وجودنا الذي ينبغي ألا يكون معاداً أو مكروراً أو محدداً بأطر ثابتة مطلقة تحدّ من الحرية والحيوية فينا.”(1) إنّ الجمال باختلافاته؛ المادي الطبيعي والمعنوي والإنساني هو ما يفتح آفاقاً جديدة ويجعل الإنسان في تجدد دائم إذ يفتح البصائر على الكون لتعيد خلق عناصره من جديد. ويشترط في الجمال: القوة والحرية والحيوية والتأثير في الملتقي؛ إذا لا جمال إن لم يجعل المتلقي يدخل في تجربة جمالية تخلق البهجة داخله.

 إن العناصر الجمالية في الطبيعة كثيرةٌ وبتعدد هذه العناصر تتعدد التجارب الجمالية التي تقوم عليها، وتتعدد الموضوعات التي تقوم على الجمال والتي يبتدعها الإنسان من فنون وآداب. فالفنون الجميلة والآداب تستطيع ببراعة أن تجعل الجمال مادةً، وتصوغه بطريقةٍ تجعل منه جمالاً جديداً وتؤثر في المتلقي تأثيراً جديداً، وذلك يكون إما بالجمع بين العناصر المتباعدة، أو بالاعتماد على الجمال المحض؛ وهذا يستوجب تمكّن الفنان أو الأديب من صنعته فتعبير الفنان عن الجمال الموجود في الطبيعة يعني فهمه لهذه الطبيعة وتماهيه معها وفهمه لدقائق أمورها،فكل مشهد طبيعي يحمل فيه دلالات متعددة “إنَ جمال المشهد أو المنظر الطبيعي غالباً ما يكون مرتبطاً بدلالته الإنسانية”(2) وعلى الأديب أن يكتشف هذه الدلالات ويختبرها.

 ويمكن القول “عملٌ أدبي هو شيء جماليٌّ لأنه، مع الوظائف التوصيلية الأخرى المحصورة أو المعطلة أصلاً يجذب القراء إلى التفكير في العلاقة المتبادلة بين الشكل والمحتوى”.(3) إذ إنَ الجمال هو المادة الأساسية التي يقوم عليها الشكل ويأخذ منها المحتوى ويتمكن الفنان أو الأديب ببراعته وأدواته أن يوصل هذا الجمال إلى المتلقي مما يجعله جمالاً ينطق ويتحرك ويتفاعل داخل النص الأدبي وخارجه.

وهذا يجعلنا نبحث عن عالم جمالي فهو يبرز الجمال أمامنا ويوضحه “إن الحديث عن الجمال يعني انطلاقنا إلى عالم أكثر رقياً”(4)، كون الجمال قيمة سامية فإنه يجعلنا نبحث عما يوازي هذه القيمة في النفس و الكون والفن فنتأمل للوصول إليه “التأمل يملؤنا بالدهشة و يدفعنا للبحث عن القيمة والمعنى”.(5)

بين الأرض والسماء

يقول الشاعر:

“سلمتنا المياه أسرارها أخيراً

لكننا كنّا على حافة الشلال

فانحدرنا رذاذاً

مرسلين للنبات نعومة سقوطنا”(6)

 هي المياه في حالتين مختلفتين وجدت في النص، الأولى المياه في حالة القوة والاندفاع، والحالة الثانية هي الماء في حالة الضياع والتشتت والضعف ولكن ومهما كانت حالة الماء تكون الحياة فيها موجودة كما الموت وهذا السر الذي أسرّت به المياه للشاعر وكأنه يريد أن يسرّ للمتلقي بذلك “حيث يتراوح الماء كونه عنصراً باعثاً على الضياع واليأس….. وكونه أملاً بالقادم الجميل والرغبة في دورة الحياة المستمرة”(7).

 الماء يتشكل بحسب شكل الإناء الذي يحتويه، وفي الماء الحياة والنجاة والخلق. من الماء تشكلنا كما الطين، وفي شعورنا بأننا ننحدر سقوطاً معه، وكان علينا أن نتعلم منه ما تعلمناه ونحن في أوج القوة، فيؤول السقوط إلى الرذاذ تنتعش منه النباتات فتحس بنعومة السقوط لا بالتهشم والانكسار.

نلاحظ في المقطع السابق الدفق الشعوري الذي استخدم فيه الشاعر تصوّراً تمثيلياً كان يتراوح بين القوة واللين، الارتفاع والانخفاض يعبر عن الانقلاب الشعوري والتغيّر المفاجئ والمياه هي الوحيدة التي تستطيع أن تكون مثالاً عن التغيّر والتدفق واللين والقوة والحياة. كل ذلك يجعل المتلقي يشعر بأنه واقف على حافة الشلال فيسمع صوته يهدر في الأذهان.

 في مشهد آخر عمقت فيه الصورة المعاني الجمالية، وحوّلت الموت إلى حياة وسلاسة ونعومة صاغها وعبّر عنها الماء أيضاً. حينها كان الشاعر شركاً لاصطياد العصافير رافعاً بندقيته نحوها وما إن رفعته الغيمة حتى تحول مطراً خفيفاً… مطراً يغني.

يقول:

“كنا في الحقل

نكمن لعصافير تطير وتحط

في غابات رؤوسنا

وحين رفعتنا الغيوم كنا أطلقنا رصاصاتنا

فأصبنا

وانحدرنا

نقاطاً

كنا تقريباً نغني”(8)

الجمال في النص ظاهرة جلية، والسمو والرفعة والرهافة كلها كانت عابقة، لذلك بالضبط تحول السقوط إلى انحدار لطيف، انحدار يحمل من الحياة أكثر مما يحمل من الموت والقباحة.

*

العلو، الاتساع، الارتفاع والبهاء هذا ما يتضمنه النص من جمالياتٍ عند إبداعه حيث قال الشاعر:

“علت يداه راسمتين

قمراً مشطوراً

لم يكمل دائرته

ترك فراغاً فوقه

لينفذ منه القلب

إلى فضائه”(9)

 إن الفنان الحقيقي هو الذي يستطيع أن يبني عالماً متكاملاً من العناصر المألوفة في حياته فيطاوعها حسب ما يريد والقصيدة التي اختلقها الشاعر في النص حين جعل الرسام يرسم قمراً ناقصاً كانت سبباً لاكتمال الإنسان.

فالإنسان من أهم الموجودات في الحياة، وهو المخلوق الذي يتفاعل مع عناصر الكون بأكملها، وهنا لم يكن منشغلاً بالفضاء الواسع الذي فوقه وإنما انشغل بفضاء قلبه الواسع فهو الغاية التي يسعى للوصول إليها وكلما تحقق فيها عرف أكثر وكان هذا الفراغ ممراً نحو العلو والاكتمال والرفعة والانطلاق ولذلك نلاحظ أن الشاعر استخدم مفردة “دائرته” التي توحي بالاكتمال ليؤكد على القيم الجمالية التي يريد، فلكل قلب فضاء خاص به يدور في مجرته ويسبح في سمائه وينير عتمة ظلمته وهذا الفراغ الذي تركه الشاعر أراد منه خلق مساحةٍ للقلب يصل منها إلى الحالة المثلى من الروعة والسحر.

ألفة النباتات

يقول سعادة:

“كانتا شبيهتين الحبقة في الركن وأمه”(10)

والشبيه يستعير من شبيهه صفاته حتى يصيرا متطابقين، ومن الطبيعي أن الحبقة فيها من الحياة والخصوبة والجمال ما يجعلها شبيهة لأمه خصوصاً أنها كانت مألوفة في الطبيعة لديه. عند قراءتنا الأولى لهذا النص نكاد لا نتبّين إن كان وديع سعادة يصف لنا أمه أم الحبقة وما ذاك إلا لبراعته في مزج عناصر الطبيعة الموجودة حوله بالعناصر التي يتعامل معها يومياً.

يقول:

“ما كان الناس يميزون بينهما

يقولون صباح الخير لأمه

ترد الحبقة

ترد أمه”(11)

إن وديع أضاف للحبقة صفات بشرية جعلتها تنطق ولكنها ليست إلا صفات من شخصية تشابهها في الجمال والأناقة والرهافة لذلك كانت أمه تجيب الناس عندما يحادثون الحبقة.

يقول أيضاً:

“كانت راحتاها ورقيتين

عيناها زهرتين

وحين تمرّ في الحي تفوح

كل الحقول من ثيابها”(12)

يشعل الشاعر حواس المتلقي لتدرك جمالية النص، فالفكر يتقد والذهن يتوهج والنفس تستعد لتلقي التأثير الجمالي الذي يتركه هذا النص. فنركض للمس تينك الراحتين ونلقي بنظراتنا على زهور عيني الأم وأنوفنا تتبع رائحة شذا عطر ثيابها. ويتركنا أمام سؤال كبير، هل هو يصف أمه فعلاً أم أنها الحبقة في حقيقتها وفي أوج جمالها؟

وفي حديثه عن الأب في النص ذاته يقول:

“كانا توأمين: والده والشجرة

يلقي ذراعه عليها وتلقي غصنها عليه

تخضر حين تراه

وتصغر حين يمرض

وإذا ضربته الريح

تصيبه رجفة”(13)

في المقطع نرى تفاعلاً كبيراً بين العنصرين الأول بشري والآخر طبيعي، الأب: القوة، السند، الأصالة، والربّ والمعين. الشجرة: القوة أيضاً والتجذر والتنعم والجمال والبهاء والخصب لذلك ربما انقسما وصارا توأمين من الأصل ذاته، والنوع ذاته وإن كان تجليهما في الكون مختلفاً وقد تجلت براعة الشاعر في المزج بين صفات الأب البشرية مع الصفات الطبيعية للشجرة ليخلق كائنين متقابلين يمرض أحدهما إن مرض الآخر ويبتهج أحدهما إن ابتهج الآخر.

*

 فيما يلي نتناول نصاً ذا تكثيف شعري فهو صغير الحجم واسع الدلالات الجمالية والمفاهيم الإنسانية التي تدخل في إطار الجمال والحياة، يقول الشاعر وديع سعادة:

“الذي قتلوه ودفنوه

لأنه أكل ثمرة

نبت هيكله العظمي

 وصار شجرة”(14)

في هذا الموقف يحضرنا القول: “الجمالية هي تسمية للسعي إلى رأب الصدع بين العالم المادي والعالم الروحي”(15) و”أن تطلب من الرياح الهبوب أوأن تطلب ممن لم يولد بعد سماع صرخاتك فهذا فعل الطقس الشعري.”(16)

وأيضاً يمكننا الاستشهاد بهذا القول لشرح ماكتبه وديع سعادة ضمن هذا النص الصغير فقد حاول الشاعر أن يجمع بين المتباعدات ضمن ماهيّة ويجعل الجسور بين الانسان وماحوله موصولة وممتزجة به. الثمرة والشجرة كانتا ضمن السياق الشعري أساسين جمعهما مع الانسان وتماهتا معه، فقد نتج عن عمل وديع سعادة رؤيا جمالية شعرية فإن الشاعر يتحدث عن النمو والتمسك بالحياة والأفكار فما وجد أمامه إلا تلك الشجرة بتجذرها العميق في الأرض.

وجد الشاعر في الثمرة حياةً ولذاذةً ولأن غيره رأى فيها سببا للقتل دبّ في هذه الثمرة مصل الحياة، فمن أكلها يصير شجرة واقفة تضرب جذورها في الأرض وترفع فروعها في السماء حاضرة لا تخفي وجودها ولا تهاب الرياح والمطر بل إنها تحيا بهما. قد أبدع الشاعر حين جعل الهيكل العظمي “ينبت” واستعار من الطبيعة والشجرة خاصةً مصاحباً لها وجعله من سمات الانسان فها هو ينبت ويكبر ليتحول شجرة.

*

منذ القدم استعان البشر بعناصر الطبيعة لتكون دليلاً لهم على مسار الطريق أو موعد غروب الشمس أو هطول المطر إنها فكرة قديمة أن تكون الطبيعة صديقاً للإنسان ومبيناً وهادياً ومرشداً له.

 النص الآتي الذي سماه الشاعر وديع سعادة “الطريق إلى البيت” يتناول عناصر الطبيعة التي تسكن في الذهن وتصادق الحواس حتى تغدو مألوفةً للشاعر أكثر من ألفة طريق بيته. فعلى الرغم من التقدم الحضاري والعمراني الذي نعيشه فإن الشاعر لم يستوضح طريقه من لافتة طرقية أو استخدم سيارة أجرة تكون بارعة في توصيله بأسرع وقتٍ ممكن فالقمر المضيء مرشده وماتزال ذكرى الدروب ورائحة الأزهار التي تسكن حواسه هي التي ستقوده وسيؤمن بها لأنّ الجمال لا يكذب والطبيعة لا تعرف الزيف إنها واضحة وضوح الشمس، ونراه قد استخدم عناصر طبيعية سهلة ممكن لكل قارئ أن يتذكر قمره الذي يطل من شرفته والزهور ذات الألوان المتباينة والدلالات المتعددة إنها طبيعية ومطبوعة في قلبه، يقول:

“يتبين خطواته من قمر بعيد

يتبين دربه من ذكرى

وأحياناً يشم رائحة زهور

كانت على جانبي الطريق إلى بيته”(17)

إن ضياع الشاعر واستقراره كانا مرهونين بهذه العناصر التي بدت في النص كأنها كون جمالي كامل يشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة، وما إن اختفت حتى تبدأ الحجب تغطي صدره، وتشعره بالضياع والتوتر، وكانت هذه الحجب هي الغيوم بضبابتيها وغباشها فحين تغطي القمر يضيع الشاعر ولا يكاد يعرف خطواته. يبحث في العالم حوله عن دليل آخر فتتداعى في ذاكرته رائحة الزهور فيكمل مشيته. وإن ختام القصيدة يدل على التتابع والسيرورة والاستمرار وهذا تأثير الطبيعة الجميلة فيه. يقول:

“حين يظهر القمر يخطو خطوة

وحين يحجبه الغيم يضيع

لكن هذه هي الدرب، قال:

ورائحة الزهور التي في ذاكرتي ستدلني”(18)

 

***

مفهوم القبيح عند وديع سعادة:

الموت والحياة، البقاء والزوال، القبح والجمال وثنائيات لا عدّ لها ولا حصر تقوم الدنيا عليها وتنمو على اصطراعها، وبهذا فإننا لا نستطيع أن ننفي الواقع عن ما فيه من قبحٍ وألم وعشوائية. إن وعي الشعراء والأدباء بالواقع يجعلهم يتخذون موقفاً جمالياً يناسب هذا الواقع.

فهم يعبرون عن الجمال والجميل ولابدّ للموقف من القبيح أن ينشئ وعياً جمالياً يوازي بالقبح ويحمل من سماته ما يجعل من موقف الشاعر وما يكتبه أكثر تأثيراً وتعبيراً عن الواقع. وإن جمالية القبيح هي من أكثر الجماليات تعقيداً فالشاعر يتعامل مع عناصر منفرّة لا تقبلها النفس الإنسانية ويجعل منها موضوعاً قابلاً للقراءة والتأثير ويفتح آفاقاً لنظرات جمالية أخرى. فإن: “جمالية القبح تعني التركيز على الطاقات الايحائية والتأثيرية التي يمكن أن يختزنها الموضوع القبيح أو يمكن أن ينكشف عنها في التشكيل الفني”(19) وبراعة الشاعر تظهر في اكتشاف هذه الأشياء، فلا شيء في الوجود لا يصلح ليكون موضوعاً فنياً تأثيرياً، وبراعة الشاعر تظهر في اكتشاف هذه الأشياء وصياغتها صياغةً تناسب الحالة الفنية والشعورية.

 عرُّف القبيح على أيضاً بأنه: “ما يثير تأمله الاستطيقي ألماً وكدراً”(20) إذن نحن أمام موضوع وذات متأملة تعي هذا الموضوع الذي يجعل الشاعر متجرداً من ذاتيته منخرطاً في ذاتٍ موضوعية مع بقاء أثر ذاتي في التعبير. وذاك لأن موضوع القبيح هو موضوع يلمس كل ذات إنسانية تماماً كالجمال والتراجيديا والجلال وبراعة الشاعر تظهر في كيفية استعمال هذه العناصر لتصل إلى المتلقي، فمن شروط القبيح أن يكون مؤثراً ومؤدياً لوظيفة “فلا مكان ولا وظيفة في الفن لما هو غير جميل”(21) ولو كان هذا التأثير يؤدي إلى ألم أو خذلان فإن هذا الألم هو ما يجعل من القبح قيمة جمالية ويميزه عن اللاجمال.

 إن النفس الإنسانية ذات التعقيدات تميل دائما إلى لمس أغوراها مهما كان، فليس الجميل وحده حاضراً في أذهاننا وليس التعبير عن المعذب هو الذي يفتح أبواب القلب المغلقة وإنما القبيح أيضاً يعرفنا بجمالنا، فنسعى للوصول إلى الاطمئنان والاغتباط مما يثيره من ألم وامتعاض واحتجاج على الواقع ورفضه له وهذا مايسعى الفنان للوصول إليه “لا شك أن رسامي المناظر الطبيعية يصورون لنا الموت والفناء في قلب الأشياء”(22) حتى في قلب هذه الأشياء نجد ما يلمس القلوب ويؤثر فيها “فحتى وإن لم نجد الجمال فإننا نجد على الأقل لمحة بعيدة عنه “أو يمكننا من خلاله أن نصل إلى ذواتنا المتعبة “نهيم في هذا العالم ونحن منعزلون ونشعر بالاستياء يملؤنا الشك وانعدام الثقة”(23).

المساء والوحدة

 الوحدة أيضاً بشعة، الوحدة التي تشعرنا بالاغتراب والتآكل الروحي فيدفق العقل في رأس الإنسان مفكراً، ويتوقف القلب عن شعوره. الوحدة قبيحة لذلك يمضي سعادة في نصه هذا ليبحث عن إخوة لأكثر المخلوقات وحدة ووحشة وغربةً وهو “المساء” يقول:

 “ليس للمساء إخوة

ومشى كثيراً

في الشوارع في الدروب المقفرة في الغابات

كي يجلب أخاً للمساء”(24)

إن العناصر بتأثيراتها الجمالية تتداخل لتشكل نصاً بهذه الروعة، العنصر الرئيسي وهو عنصر طبيعي حاول فيه الشاعر أن يعكس ذوات كثيرة من خلاله “المساء”. العنصر الذي جعلنا ننفر من الوحدة والألم هو معرفتنا بأن “ليس للمساء إخوة”، المساء مستوحش، وحيد، ليس له نظير لا أحد يشبهه إنه غريب، حتى في أكثر المناطق وحشة وغموضاً بحث له عن إخوة في “الغابات، في الدروب المقفرة” لم يجد إلا الفراغ. يقول:

“قال المساء بلا أخ ومشى

محدقاً في المارّة

محدقاً في الشجر

محدقاً في السماء الذي

نام وحيداً”(25)

مازالت رحلة البحث عن نظير قائمة ولكن النهاية البشعة هي هي إذ لا أخ له وهو في اغترابٍ ووحدةٍ دائمين. إن القبيح “هو الغياب السلبي المحض للجمال”(26) وإن قوله “نام وحيداً” كافٍ ليشعرنا بغياب الجمال وحضور اللؤم والقبيح لا يشعرنا بالراحة، إن الرحلة التي مشاها سعادة في البحث عن أخ للمساء كانت رحلة تائهة، مشتتة حول عينيه التراب والشجر لعلّ الأليف يكون فيها لكن لا جدوى فالنهاية أنه وحيد وحزين. إن سعادة يدعو إلى نفي القبيح من الحياة ليس عن طريق رميه بل عن طريق إعادة التفكير به. فحين ترفض رمي شيء وإن كان صداقة مهملة، فلا ترمها لأن قلبك قد يكون فيها، لا تنفها عن طريق رميها وإنما تملكها وانظر إليها مجدداً وأصلحها.

 كالعادة فإن سعادة يأخذ بقلوبنا إلى عوالم طبيعية تجعلنا نتألم ونفرح ونتخيل. الضآلة والافتقار في الشيء تجعلنا نهمله ونقبحه عن هذه الأشياء الضئيلة حدثنا، عن الروح النقية التي كانت فيها، لذا علينا إعادة النظر في الأشياء المنفرة علينا أن نكون جميلين لتكون جميلة.

***

مفهوم التراجيدي عند وديع سعادة:

 إن محاولة الإنسان لإبداع الفنون كان هروباً من واقع فرض عليه يخالف ما يرمي إليه وما يريده؛ لذلك فلا نستغرب أن أكثر الأعمال شداً لانتباه الذائقة تلك التي تترك في النفس ألماً وتستدر عطف المتلقي، فالقارئ يحتاج إلى يدٍ تساعده على النهوض من خلال تعريفه بآلامه وأوجاعه ليستطيع التغلب عليها.

 من هنا جاءت التراجيديا التي استطاعت أن تقدم شكلاً فنياً قائماً على المعاناة الإنسانية وعلى الصراع الذي وجد بدءاً من ذات الإنسان وصولاً إلى قوى الكون. ففي التراجيديا لا بد من مواجهة واصطدام ولا بد من حركة وتحولات وتغييرات تفرض على البطل الذي يقوم بمهمة التخلص من كل ما يتسم بالشر ولذلك “فإن بناء نموذج فني تراجيدي يتطلب تقنية فنية خاصة به، وهي التقنية الدرامية إن صح التعبير عنها ومن دون ذلك يصعب إنتاج نموذج تراجيدي متكامل وذلك بسبب أهمية الصراع في التراجيديا”(27).

 إذ لا بد من الصراع والانفعال اللذين يتسمان بالحركة الدائمة، التي تمثل حركة الكون والطبيعة والنفس البشرية وهذا ما يفسر ظهور التراجيديا في باكورة الأعمال الأدبية بدءاً من الملاحم وانتهاءً بنصوص الشعر الحديث. فعلى الرغم من ندرة تجلي سمات التراجيديا في الشعر القديم فإن الشعر الحديث جاء حاملاً لسماته كونه أكثر فاعلية وقدرة على التعبير. فالتراجيدي “لم يظهر في الشعر العربي عبر تاريخه الطويل بقدر ما ظهر في الشعر العربي الحديث”(28).

 إن الواقع العربي الصعب الذي يعيشه الفنان والظروف التي تحيط به والأزمات والآلام جعل من حضور التراجيديا أمراً ضرورياً، وكون البطل التراجيدي عنصراً مهماً في بناء العمل يجعل من تكوينه أمراً معقداً، فأحياناً نراه يقدم بصورة البطل القوي وأحياناً يقدم بصورة المعاني المشتكي من العذابات وهنا يكون الأديب قد دخل في صورة المعذب أي “قد ينزاح عن التراجيديا وإن بدا له أنه يسعى إليها فنياً وجمالياً ونرى أن هذا التشاكل الظاهر بين التراجيدي والمعذب”.(29)

 فالمعاناة واحدة لكن التلقي يختلف، هناك من يعاني وهناك من يجعل من سقوطه بطولة “وينبغي أن نشير هنا إلى أن الشعر الحديث قد طرح نوعين من التراجيدي الأول يحيل إلى معاناة الجميل في الحياة الاجتماعية بينما يحيل الثاني إلى سقوط الجميل البطولي في صراعه المصيري”(30) ونحن باتفاق مع الأديب حين يرسم صورة البطل ويحمله المأساة “البطل التراجيدي هو إنسان يذكرنا بشدة إنسانيتنا ويمكن القبول به ممثلاً لنا.”(31) ونلاحظ أخيراً أن الجمال عنصر أساسي في بناء النموذج الفني التراجيدي وأن سقوط الجميل وعذابه هو ما يشد المتلقي في تناوله للمادة الفنية “إن الناس يجدون مرة تلو الأخرى في البحث عما فيه هلاكهم أو مافيه قتل الشي الذي يحبون”(32).

 إن النصوص التي بين أيدينا مما أنتجه الشاعر تعتبر من أكثر النصوص الحداثية التي عبرت عن مفهوم التراجيدي من خلال الخطاب الدرامي. على الرغم من أن العنصر البشري كان نادراً في نصوصه إلا أن التميز كان جلياً وذلك باعتماده على عناصر الطبيعة ليسند لها دور البطولة. إن اعتماد سعادة على عناصر الطبيعة لتكون العنصر الأبرز يجعل الأعمال أكثر تأثيراً وهي طبيعة تذخر بالأصوات “فكل ما نراه لدى وديع سعادة يقدم نوعاً من الحوار المضمر”(33) وهذا يبرز براعته خصوصاً أن العمل التراجيدي مرتبط بالمجتمع وهو نوع أدبي يستطيع أن يشد القارئ ويجذبه من خلال موضوعاته و تأثيراته، إنّ “ما اتفقنا على تسميته بالتراجيديا جدير بأن يزيد من حدة تأثير العمل في حد ذاته.”(34)

الأرض والنفس

 إن البطل التراجيدي هو الذي ينهض بالعمل ويرسم الطريق التي ينحوها النص، كونه معذباً أو بطلاً تراجيدياً يدافع عن حلمه، وعلى عكس النصين السابقين اللذين يرسمان ملامح بطل يقاتل من أجل النهوض ويدافع عن أحلامه ضد واقعه المرير نرى هذين النصين مثالاً عن المعذب في الشعر التراجيدي ويتميز المعذب باستكانته للظروف وضعفه على عكس البطولي فهو “يرفض أن يقع في اليأس والقنوط”(35)

وعلى هذا فإن نص الألم يلمح إلى ذلك حيث جعل بداية التاريخ، بداية للألم الذي يعذب الإنسان حيث لا مكان لولادة الفرح، يقول:

“إنه تاريخ الألم…

ألم الفرد والجماعة…

ألم الناس وألم الأرض…

قامت الأرض على صرخته…

و كأن الأرض لو كانت فرحة لتبددت”(36)

 إن بداية النص حالة من العذاب الجماعي، التهلكة، التعب والألم ولكنه عذاب لا يقف أمامه شيء، إنه فاعل في الدنيا والكون كله دون أن يجد عائقاً أمامه لا يوجد من يعيقه لأنه حقيقة والحقائق لا تجابه حتى إنه “لا يقبل البراهين لأنه قدم البراهين بنفسه” كما يعبر.

وفي سرد الشاعر الطويل عن الألم وماهيته يتحدث عن حكم الألم للأرض ليأتي بفكرة الاستمرار الخاطئ فنحن لا نستطيع أن نجابهه ولانملك إلا ان نشتكي أو نعبر عنه تماماً كما يفعل الآن هو يقول:

“فالطموح ليس سوى إضافة ألم وإثم: ألم الذات وإثم الآخر”(37)

و يقول:

“الطموح يخض صفاء النفس ويعكر ماءها

تحريك المياه الراكدة، هذا ما يفعله الطموح

يوحل الذات، فتصير لا ماءً ولا تراباً”(38)

 يرى سعادة في تحريك المياه الراكدة زيادة للألم والعذابات لذلك فهو يرفض رفع الرأس إلى الأعلى، إنه يشوه الذات ويعكر صفوها فتتلوث ويصيبها الأذى فيبقى في حالة من التخبط والتشوش والشقاء وبذلك فعليه أن يبقى مستسلماً للقوى التي تحكمه خاضعاً لها فزيادة المقاومة تعني زيادة الألم.

*

“السقوط”، إذا أراد المتلقي أن يطرح اسماً آخر لنص أعشاش عالية فسيكون السقوط أو ما يدل على ذلك في اللغة، يقول:

“الذين ألفناهم شجراً باسقاً

صاروا قشاً حين حزنوا

ونزلت العصافير

ورفعتهم بمناقيرها”(39)

 إن كل ما في النص يوحي بالهبوط والنزول والغور إلى الأسفل حتى الفعل “رفعتهم” جاء في سياق جعله يحمل معنى معاكساً لما يقتضيه عموماً، إنه تحول وانحدار إلى الأسفل وهذا تأثير الحزن في الذات البشرية.

الشجرة القوية المتجذرة في الأرض الرافعة أغصانها إلى السماء الناشرة جمالاً وبهاءً ومتعةً وترفاً ونفعاً صارت قشة ضعيفة عديمة الوزن والقيم الجمالية والنفعية، آلت إلى الضعف والموات. الشجرة التي ذكرت في النص ليست وحيدة، إن الحياة بما تحتويه من أحزان جعلت العالم مليء بالأشجار المتحولة، الذابلة، الهزيلة، التي فقدت حسنها وصغرت حتى صارت ضامرة ضعيفة يستطيع عصفور صغير أن يتدخل في حياتها فيرفعها كيف يشاء بعد أن كان يحتمي بها وبظلها، فهو نص يصلح لكل زمان ومكان ونستطيع أن نسقطه على كل حالة إنسانية صعبة. يقول:

“الذين جرفهتم المياه إلى الوادي

ارتفعوا غيوماً

لم يمطروا”(40)

 مرة أخرى غيـّر السياق معنى الفعل رفع الذي ذكره الشاعر وكأن الشاعر يريد من المتلقي أن يميز بين حالات الرفعة التي يمر بها الإنسان إنه سقوط مرة أخرى ولكنه سقوط غير مجدٍ، إنه تحطم وتلاش. إن الإنسان الذي يصل إلى مرحلة من عدم الجدوى والنفعية والغاية يشعر باغتراب صعب في ذاته تجعله منكسراً وإن من غيرت المياه مجرى حياتهم انكسروا وتبخروا حتى صاروا غيوماً ولكنها غيوم غير ممطرة غيوم تحجب الشمس والجمال والنور ولا تنفع في شيء حبستهم السماء فيها ومآلهم أن يتبددوا.

***

 إن المتذوق للشعر الحديث والمعاصر عامة ونصوص سعادة على وجه الخصوص سيشعر بالتحولات التي أصابت الشعر العربي والتي بدا من خلالها أقدر على حمل المفاهيم الإنسانية وأصبح أكثر غنى ومرونة وتفاعلاً مع الواقع فاتسع ليشمل دقائق الأمور الحيوية باختلافات أشكالها المادية والمجردة، بل وجمع بينها واستطاع أن يعبر عن المادي بالمجرد وأن يكون فكرةً أكثر من كونه مادة لحفظ التاريخ أو الخطابة، فكان تعبيراً إنسانياً عن روح الإنسان وجوهره وما يراه في حياته من مختلف القيم الجمالية التي تؤثر به وبشخصيته. فقد كانت نصوصه عبارة عن لوحات تشكيلية ذات ألوان مختلفة قائمة على عناصر متناقضة مستوحاة من الطبيعة وتنتظر أن يفك لغزها.

***

الهوامش:

1- كليب، د.سعد الدين، وعي الحداثة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997، ص30

2– سكروتون، روجر، الجمال، ترجمة: مصطفى، بدر الدين، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى،2014، ص91

3– كالر، جوناثان، النظرية الأدبية، ترجمة: عبد القادر، رشاد، منشورات وزارة الثقافة، دمشق،2004، ص44

4 سكروتون، روجر، الجمال، ص88

5– المصدر نفسه، ص88

6– سعادة، وديع، الأعمال الشعرية الكاملة، دار أبابيل، 2016، ص 264

7– الداية، د.علياء، أسرار الماء وشجون الشاعر وديع سعادة، مجلة شرفات الشام، وزارة الثقافة، دمشق العدد رقم 109، تشرين الأول،2011

8– سعادة، وديع، الأعمال الشعرية، ص 264

9– المصدر نفسه: ص250

10– سعادة، وديع الاعمال الشعرية، ص203

11– المصدر نفسه: ص203

12– المصدر نفسه: ص203

13– المصدر نفسه: ص203

14– المصدر نفسه: ص407

15– كالر، جوناثان، النظرية الأدبية، ص 44

16كالر، جوناثان، النظرية الأدبية، ص93

17– سعادة، وديع، الأعمال الشعرية، ص526

18– المصدر نفسه، ص526

19- كليب، د.سعد الدين، جماليات القبح و شعرية الغرابة لدى سيف الرحبي، مجلة البحرين الثقافية، المنامة،2015

20- ستولنيتز، جيروم، النقد الفني، ترجمة: فؤاد، زكريا، دار الوفاء، الإسكندرية، 2007، ط1، ص 411

21- ستيس، ولتر، معنى الجمال نظرية في الاستطيقا، ترجمة: إمام، عبد الفتاح، إمام، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2000، ص97

22- سكروتون، روجر، الجمال، ص203

23- المصدر نفسه: ص202

24- المصدرنفسه: ص540

25- المصدر نفسه، ص540

26- ستيس، ولتر، معنى الجمال نظرية في الاستطيقا، ص 95

27- كليب، سعد الدين، القيم الجمالية في الشعر العربي الحديث، 1950-1975، رسالة دكتوراه في جامعة حلب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، حلب، 1989، ص 238

28-المصدر نفسه:237

29- المصدر نفسه:238

30- المصدر نفسه:239

31- ميرشنت، مولوين، الكوميديا والتراجيديا، ترجمة: محمود، أحمد علي، عالم المعرفة، العدد 18، الكويت، 1979

32- المصدر نفسه: ص176

33- ميرشنت، مولوين، الكوميديا و التراجيديا، ص131

34- كليب، د.سعد الدين، القيم الجمالية في الشعر العربي الحديث، 1950-1975، ص 231

35- سعادة، وديع، الأعمال الشعرية، ص8 (من مقدمة د.علياء الداية للديوان)

36- سعادة، وديع، الأعمال الشعرية، ص 356

37- المصدر نفسه: ص 357

38- المصدر نفسه: ص 357

39- المصدر نفسه: ص 246

40- المصدر نفسه: ص 247

***

* المقال جزء من بحث قامت به طالبة الدراسات العليا سارة ميسـّر، بإشراف الدكتورة علياء الداية، في السنة الأولى للماجستير في جامعة حلب.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *