“ملف” تيسير سبول: الكتابة حين تكون صرخة احتجاج

اعداد وتقديم: جعفر العقيلي*

 


ما حدثَ أقرب إلى مشهد سينمائي مرسوم بدقّة؛ لا مجال فيه للاجتهاد أو الخطأ أو الصدفة..
يغادر «البطل» عمله ويقفل عائداً إلى البيت قبل موعده المعتاد. الفصلُ خريف، الطقسُ مائلٌ إلى بعض برودةٍ منعشة، أوراقُ الشجر تسّاقط في كلّ مكان، البيتُ فارغ، الوقتُ ما قبل الظهيرة. يُلقي «البطل» علّاقة المفاتيح كيفما اتُّفق، يجلس على الأريكة، ينهض ويعود حاملاً زجاجة، يملأ كأسه بشرابٍ محلّي الصنع مرّ المذاق، يُخرج المسدس الذي استعاره من صديق من جيبه، يتأمّله، يصوّب فوّهته نحو رأسه دون أن يرفّ له جفن، يطلق الرصاصة بالتزامن مع سماعه صوتَ الباب، تندفع العائلة لمعرفة ما حدث، «البطل» قد فارق الحياة، تُسدَل الستارة.
هكذا اختار تيسير سبول؛ الروائي والقاص والشاعر والإعلامي الأردني، نهايته. وهي نهاية لم يتوقَّع أحد من رفاقه أو ممّن عرفوه من قرب أن تكون على هذه الشاكلة، لكنه على ما يبدو كان قد حسم أمره دون تشاورٍ مع أحد، خشيةَ أن يثنيه أيٌّ منهم عمّا ينويه.
قُبيل ظهيرة ذلك اليوم، الخميس، 15 نوفمبر 1973، وعلى إثر ظهور الخديعة التي تعرّض لها العرب في حرب اكتوبر وضياع النصر من بين أيديهم، رحل تيسير حين لم يعد بمقدوره المواجهة، وبعد أن استبدّ به حزنٌ مقيم كما يروي أولئك الذين التقوه عشية قراره الصادم غير المعلَن عنه. رحل وهو لم يؤسَّس بعد الجمعية التي أرادها أن تكون ضدّ الحزن، وقبل أن يرى حلمَه في إنشاء رابطة للكتاب الأردنيين يتحقَّق. وعزاؤه أن المشاورات لإنشاء الرابطة انطلقَتْ في مجلس عزائه الذي أقامه صديقه الروائي والقاصّ (الراحل) عدي مدانات في بيته، فتحقّق الحلم في صيف 1974، في غياب صاحبه!
وإذا صدقتْ على بعضِهم مقولةُ «يَترك معظم المنتحرين رسالةَ احتجاج أخيرة.. وقبل ذلك ما من قارئ»، فإن تيسير سبول يُمثّل استثناء؛ صحيح أنه ترك رسالة، بل رسائل احتجاج كثيرة؛ لكنّ القارئ لم يكن بحاجة إلى أن ينتظر هذه الرسائل ليتعرَّف إلى صاحبها، ذلك أنّ «تيسير» بلغ من الحضور الإبداعي في حياته شأواً جعله محطَّ أنظار الجميع.
ويمكن في حالة تيسير وهو يسير خُطاه الأخيرة إلى بوابة الأبدية، استعارة ما قاله الشاعر الروسي فلاديمير مايكوفسكي قبل انتحاره في سن السابعة والثلاثين: «كما يُقالُ، لقد تحطَّمت زوارق الحب على صخور الحياة اليومية، فلا لي ولا عليّ مع الحياة. كونوا سعداء». وهو ما تتصادى معه قصيدةٌ وداعيّة لتيسير لم يعنونها، جاء فيها:

«أنا يا صديقي
أسيرُ مع الوهم نحو تخوم النهاية
نبيّاً غريب الملامح أمضي
إلى غير غاية
سأسقط لا بدّ، يملأ جوفي الظلام
نبياً قتيلاً وما فاه بعدُ بآية.
وأنتَ صديقي،
وأعلم، لكن اختلفت بي طريقي
عُذَيرك بعدُ
إذا ما التقينا بذات منام
تفيقُ الغداةُ وتنسى
لَكَم أنت تنسى
عليك السلام».

الطريق نحو الفاجعة:

اختار تيسير نهايته الفاجعة وهو في سن الرابعة والثلاثين؛ وكان ذلك بُعيد حرب أكتوبر 1973؛ وكان ذلك صرخةَ احتجاج على كل شيء؛ فالهزائم تتتالى؛ صغيرها وكبيرها؛ على جميع الأصعدة؛ والذاتي يشتبك بالموضوعي، والخاص بالعام؛ ولا أمل في نهايةٍ لنفق الواقع العربي كما تبدّى لتيسير وهو يعدّ العدّة لرحيلٍ سيظل مثار نقاش ويطرح المزيد من الأسئلة.
وقد كُتب عن انتحار تيسير الكثير، وظلّ الربط بين مضامين نصّه الإبداعي وخطوة الانتحار التي أقدم عليها حاضراً بقوة عند تناوله نقدياً، ما جعل من البديهي قراءة روايته اليتيمة «أنت من اليوم» ومجموعته الشعرية التي صدرت بعد رحيله «أحزان صحراوية» مشتبكتين مع مسيرته الحياتية والمآل الذي انتهت إليه، وكذلك الحال بالنسبة لمن رغب في تناول حياته، فأصداؤها ماثلة في نصّه ومدونته الأدبية ولا تخطئها عين.
وكان تيسير قد انتهى من كتابة «أنت منذ اليوم» بعيد هزيمة حزيران التي حلّت بالعرب بعد حربٍ مفصلية مع الكيان الصهيوني، لهذا تُذكَر فيها الحرب صراحةً وتُعرَض مقدماتها وإرهاصاتها بدءاً من النكبة في عام 1948.
وقد عرّى تيسير في روايته التي فازت بجائزة صحيفة «النهار» لأفضل عمل روائي عربي (1968)، الفسادَ وأدواته التي أودت بالأمة إلى المهاوي. والتقط صوراً قلمية تؤشر على خراب المشهد الثقافي وهشاشة نُخَبِه، وكذلك الممارسات المشينة للمشتغلين في السياسة والعمل الحزبي ورجال الأمن على حدٍّ سواء، وعلى مدى جغرافيا عربية واسعة دارت فيها أحداث الرواية. وربما يمكن عدّ هذه الرواية إعلاناً مبكراً عن رغبة صاحبها في الانتحار؛ ذلك أن ثيمة الرواية وأول عبارة فيها والأكثر تكراراً هي «ما لي نِفْس».
أما قصائد تيسير في مجموعة «أحزان صحراوية»، فتتسم بالرومانسية؛ وهي ذات نزعة غنائية؛ يحضر فيها الفراق والبكاء واللوعة والحزن والمشاعر الجيّاشة لغياب الأحبة أو للشعور بعدم جدوى الحياة وعبثيتها، وعلى الأرجح أنها نتاجُ مرحلة اليفاعة والشباب قبل عام الهزيمة 1967. ولا يمكن القول إنها تضاهي في «الحداثة» ما وصلت إليه القصيدة العربية حيئنئذٍ، وحسبُها أنها سارت على خُطى رواد الحداثة.
من قصائد تيسير نقرأ:

«هو لا يذكر شيئاً عن عذابات الليالي الماضية
تمت الرحلة
والقمة لاحت دانية
لحظة
طرفة عين
هي ذي القمة تبدو
ويرى
لم يكن ثمة شيء ليراه
لم يكن ثمة شيء ليمسه
فإذا القمة خاوية
لم يعد يحتاج إنساناً
ولا شيئاً
ولا يحتاج حسه
واحداً يمثل لا يدري إذا كان وحيداً
واحداً يسمع لفظ الريح
والصحراء في عينيه تمتد وتمتد بعيداً
ضجراً كان وما كان تعيساً أو سعيداً
أو لعل الأمر لم يحدث
لعل الرحلة الموما إليها لم تكن
والمسألة
حلم مر طويلاً وبليداً
كان في القمة والقمة جداً باردة
وإذا ما ارتجّت أوصاله قد يتذكر
خبراً عن رحلة هابطة
أو صاعدة».

شهادات المقربين

وفقاً للكاتب عدي مدانات في حوار مع كاتب هذه السطور؛ «كان تيسير أكبر من أن يتنازل عن الحياة لفشل عاطفي، وأقوى من أن يتنازل عن الحياة لاحمرار زائد في عينيه أو ضعف في بنيانه الجسدي، وأكثر إدراكاً لصعوبة المرحلة، مما يجعله شديد الأسف لبلوغ الأمة هذه الحال وليس أكثر. وسأدلل على أن الأمر لديه، مع كل تشوه وكل هزيمة، لم يترك بنفسه إلّا الأسف، قد يشتدّ وقد يضعف، لكنه في النهاية لا يزيد على كونه أسفاً».
ويضيف مدانات: «المصائب وسيئات الدهر وفواجع العربيّ بقياداته وخيبات آماله بأصدقائه واضطهاد السلطة له، تكالبت على تيسير من كل صوب. انتقل عددٌ من أصدقائه المقربين إلى موقع السلطة، وخاب أمله في كثير مما كان يجري في الساحة، وانقلب انتصار العرب في حرب 1973 إلى هزيمة، وعُرّض هو للاضطهاد في وظيفته… وتعيّن عليه أن يتحمل وحده وزر ذلك التاريخ الصعب والشقي».
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الرسائل المتبادلة بين تيسير والروائي العراقي فؤاد التكرلي؛ ففيها يفصح تيسير عن فقدانه معنى الحياة، وعجزه حتى عن الكتابة، إثر التراكمات سابقة الذكر جميعها.
ربما تُلخّص هذه الكلمات أيّ حالٍ كان عليها تيسير وهو يضع نقطة آخر السطر. ولأن ذكراه متجددة؛ وما كان يهجس به ما زال هاجسَ كثرة كثيرة من المبدعين العرب، جاء هذا الملف التعريفيّ والاستعاديّ والتكريمي، بمبادرة طيبة من الشاعر سيف الرحبي؛ رئيس التحرير في مجلة «نزوى»، وبمتابعة حثيثة من مديرة التحرير الروائية هدى حمد. وقد رُوعي فيه أن يضيء جوانب متنوعة من سيرتَي تيسير الإبداعية والحياتية، وإن كانت روايته «أنت منذ اليوم» وحادثة انتحاره حظيتا بالبطولة في الملف؛ وهو أمر متوقَّع ومفهوم، بالنظر إلى الاشتباك بينهما، وارتباط كلّ منهما بالآخر.

* * *

* نبذة مختصرة عن تيسير سبول (1939-1973)

وُلد تيسير سبول سنة 1939 في بلدة الطفيلة جنوب الأردن. أنهى دراسته الابتدائية في بلدته، وارتحل سنة 1951 إلى مدينة الزرقاء بصحبة شقيقه الأكبر «شوكت». حصل على الشهادة الثانوية من كلية الحسين في عمّان سنة 1957، وكان من الأوائل في محافظة العاصمة، فأُوفد في بعثة إلى الجامعة الأميركية في بيروت، لكنه ترك بعثته واتجه إلى دمشق لدراسة القانون حيث تخرج في جامعتها سنة 1962.
عمل في دائرة ضريبة الدخل، وترك العمل الحكومي فتدرّب في مكتب المحامي صليبا الصناع، ثم قطع تدريبه وسافر مع زوجته «مي اليتيم» إلى البحرين للعمل هناك، ثم انتقل إلى السعودية، ثم عاد إلى الأردن عام 1964 وأكمل تدريبه في مجال المحاماة.
فتح مكتباً للمحاماة في الزرقاء، ثم أغلق مكتبه وعمل في الإذاعة، واستمر يقدّم برنامجه الإذاعي «مع الجيل الجديد» إلى أن انتحر بطلق ناري يوم 15/11/1973 في أعقاب حرب تشرين ولقاء المصريين والإسرائيليين عند «خيمة الكيلو 101».
كتبَ الرواية والشعر، والقصّة القصيرة، والتمثيلية المصوّرة، والنقد، والمقالة الصحفية، وترك مخطوطاً فكرياً في العروبة والإسلام.
نال جائزة الرواية العربية من دار «النهار» اللبنانية عن روايته «أنت منذ اليوم» سنة 1968، مناصفةً مع أمين شنار عن روايته «الكابوس».
استحدثت رابطة الكتّاب الأردنيين جائزة باسمه منحتها لعدد من المبدعين في مجال الرواية.
* المؤلفات الأدبية:
1. «أحزان صحراوية»، شعر، دار النهار، بيروت، ط1، 1968.
2. «أنت منذ اليوم»، رواية، دار النهار، بيروت، ط1، 1968. ط2، وزارة الثقافة، 2007. ثم صدرت في طبعات عدة لاحقاً، وتُرجمت إلى اللغة الفرنسية في أواخر عام 2011، وقُدمت للقارئ الغربي قبل ذلك من خلال دراسة نقدية (2001) بعنوان «أنت منذ اليوم في إطار نظرية ما بعد الحداثة» أعدّها أحمد مجدوبة، ونُشرت في مجلة «الأدب العربي» المحكَّمة (باللغة الإنجليزية)، كما صدرت باللغة الإنجليزية بترجمة د.نسرين أخترخاوري.
3. «الأعمال الكاملة»، دار أزمنة، عمّان، بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، ط1، 1998.
4. الأعمال القصصية الكاملة، البنك الأهلي الأردني، عمّان، 2005
5. «السيرة الغائبة: رسائل تيسير السبول إلى صادق عبد الحق»، رسائل، تيسير النجار، أمانة عمّان الكبرى، عمّان، 2007.
* صدرت كتب ودراسات عن حياته وتجربته الأدبية، منها:
1. «تيسير السبول: دم على رغيف الجنوبي»، سليمان عرار، جاليري الفينيق للثقافة والفنون التجريبة، عمّان، 1995.
2. «تيسير سبول، الرواية والقصة والشعر والدراسات والمواقف»، سليمان الأزرعي، (تقديم)، دار ابن شهيد، بيروت، 1981.
3. «الشاعر القتيل»، سليمان الأزرعي، اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1983.
4. «دراسات في القصّة والرواية الأردنية»، سليمان الأزرعي، دار ابن رشد، عمّان، 1985.
5. «العربي الغريب»، فايز محمود، دار الكرمل، عمّان، 1985.
6. «تيسير سبول شاعراً مجدداً»، د.عبد الفتاح النجار، مطابع «الدستور» التجارية، عمّان، 1993.
7. «السياسة وأثرها في روايات تيسير السبول وجمال ناجي ومؤنس الرزاز»، عوني صبحي علي الفاعوري، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنية، عمّان، 1995.
8. «أمواج على الأثير»، نصوص حلقات برنامج إذاعي ثقافي أعده وقدمه تيسير سبول عبر أثير الإذاعة الأردنية، إعداد ودراسة وتوثق: فوزي الخطبا، دار الينابيع، عمّان، 1997.
9. «آراء تيسير السبول النقدية ومدى اتساقها مع أدبه»، زياد محمد جميل بني عمر، رسالة ماجستير، جامعة آل البيت، المفرق، 2006.
10. «التحولات في الرواية العربية»، نزيه أبو نضال، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2006.
11. «تيسير سبول.. من الشعر إلى الرواية»، د.إبراهيم خليل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005.


تيسير سبول..«بطل من ذلك الزمان»

محمود الريماوي*

(1)
لطالما تبدّى تيسير سبول لكاتب هذه الكلمات بطلاً روائياً، يندفع وسط الأنواء في زورق أثيري سريع يشقّ عقدَ عشريناته ثم السنوات الأربع من العقد الثالث، بسيماء شابّ حنطيّ/ أسمر، نحيل رقيق البنية بعينين وسيعتين وثاقبتين على شيءٍ من الجحوظ والاحمرار فيهما، وقد حفرَت الحياةُ أخاديد مبكرة على محياه.
وإذ انتمى الشاب اليافع إلى أسرة متوسطة الحال، ولم تكن تنقصه أسباب العيش أو مستلزمات رفاه الطبقة الوسطى في ذلك الزمان، إلا أن صاحبنا بمزيجٍ من الشغف بحياة نوعية.. روحية، وحساسية مرهفة ونوازع عبثية في دخيلته، كأنما اختاره الشقاء صنواً له، واختار بدوره شقاءَه الخاص، شقاء الوعي والحساسية والبحث الممضّ عن المعنى والقيمة في الأشياء، وفي بيئة محافظة يتواصل الناس فيها بحياة جماعية مرسومة ومنضبطة، وقلّما يحفلون أو يرتضون بالفرد المتفرّد، مما أورثه شعوراً أولياً بالغربة النفسية لم يلبث أن تفاقم حتى اتسع الخرق على الخارق.
ولتكبير الحياة الضيقة كما بدت له، ولإضفاء معنى جديد وقيمة مضافة عليها، ولج تيسير عالم السياسة والأحزاب، ليس من أوسع الأبواب، إذ لم يُعرف عنه النشاط الحزبي اللافت والفعال، هذا رغم محاذير المنع والملاحقة السائدة منذ النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، وقد اختار الانضواء في خط قومي عربي (بعثي)، ولم يلبث -وقد تفتّح وعيه الأدبي- أن تعرّف على الوجودية عبر مجلة «الآداب». بهذا انطلق من «الطفبلة»، المدينة الصغيرة في جنوب الأردن، إلى الزرقاء (المدينة الكبيرة)، ثم العاصمة عمّان، ثم إلى دائرة «الوطن العربي» على جناح الحزبية، ومنها إلى الإنسان الكوني عبر المذهب الفلسفي/ الأدبي.
خلال أقل من عشر سنوات هي الأخيرة في حياته (توفي عن 34 عاماً)، تقلّبت الظروف على تيسير وتبدّلت أحوال الدنيا من حوله وأمامه. وقد تلقّاها بحساسية فائقة وذهن متوقد وتفاعل عميق.. لقد شهد ثلاثة حروب: حرب عام 1967 التي هَزمت فيها «دويلةُ العصابات» مصرَ وسوريا والأردنَّ واحتلّت ما تبقى من فلسطين بالإضافة إلى الجولان وشبه جزيرة سيناء، ثم حرب عام 1973 وما تلاها من مفاوضات استعيدت فيها سيناء مقابل أن تجعل مصرُ تلك الحربَ آخرَ حروبها في سياق الصراع العربي الإسرائيلي، وبين الحربين برزت المقاومة الفلسطينية على أرض الأردن بما أظهرته من بروز خيار المقاومة الشعبي ومقارعة العدو بعد أشهر قليلة على الهزيمة، جنباً إلى جنب مع خلخلة النسيج الاجتماعي ومخاطر تفكيك الدولة الأردنية، وما تخلل ذلك من صراع عسكري دامٍ مفتوح أقرب إلى حرب اتخذت من شوارع المدن وبقاعاً أخرى في الديار مسرحاً لها.
ولا شك أن معايشة ثلاثة حروب تحمل بقدر أو بآخر طعمَ الهزيمة وخلال ست سنوات فقط، لم تكن بالأمر الهيّن أو المعهود على شاب مرهف الإحساس، متفتح الذهن، مقبل على الحياة: الدراسة والشعر والأدب والحب. لقد تكسّرت نصالها على نصال روحه، ولم يعرف الاستقرار ولم يصادف نفسه في أيّ مكان، سوى مع أصدقاء يشاطرونه بتفاوتٍ بين واحد وآخر الاهتمامات والصبوات، وفي بيته العائلي الذي أقامه على علاقة حب مثمرة، غير أن الحب على أهميته ومركزيته لم يطفئ بقية الحرائق في نفسه وفي ذهنه الذي بات مكدوداً. لقد اصطدمت مشاريعه ومطامحه الشخصية، بانكفاء الأحوال العامة وهزالها، وهو ما فاقم مشاعر العبث لديه.
وقد تراكمت هذه الظروف والأحوال وتراكبت، ومنها تنقُّله بين عمّان وبيروت ودمشق والمنامة والقاهرة والرياض، في العمل والزيارات والدراسة الجامعية (كان الناس قلّما يتنقلون في ذلك الزمان)، ومعايشة بيئة تلك البلاد ومجتمعاتها التي كانت تضطرم أولاً بالتطلع نحو مفارقة حياة الريف والبداوة، والاستواء مدناً عصرية، وعقب حزيران 1967 بوعي الهزيمة وهشاشة مشروع النهضة والتحرر، والتماس الوسائل والمداخل لـ»تحرير الإنسان والأرض».
لم تكن تلك الأحداث الكبرى (تُضاف إليها التجربة المُرّة للوحدة بين مصر وسوريا، وقد عاش تيسير فصولها في أثناء إقامته للدراسة في دمشق) سبباً مباشراً بالضرورة، أو ربما لم تكن دافعاً رئيساً للانعطافة الحادة في مزاجه، غير أنه وبما لديه من انشغال حميم بالشأن العام، وبما نُسب إليه من شعور بالصدمة الشديدة إزاء الاندفاع إلى المفاوضات عقب حرب أكتوبر 1973 في وقت كان فيه العقل السياسي القومي آنذاك يؤثِم التفاوض مع العدو، فإن هذه التطورات المفصلية بما لها من انعكاس على عالمه الداخلي الصاخب والممزق، قد أفضت إلى الضغط على جهازه العصبي. ينقل الكاتب سليمان الأزرعي في مقدمته للأعمال الكاملة لتيسير سبول الصادرة عن دار ابن رشد (بيروت، 1980)، أن تيسير في الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته نُقل من مكان عمله في الإذاعة، إلى مكتب معزول ومن دون أيّ مهام وظيفية، بينما كان يعاني من آلام في عينيه ويرفض في الآن نفسه تلقّي العلاج.
بهذا تجمعت الظروف المهنية والشخصية تحت سقف من اكفهرار الجو العام، وقد أدت بتيسير إلى قراره الأليم بمغادرة الدنيا ومَن وما فيها. وقد اختار لذلك أن يخرج من مقر عمله في دار الإذاعة الأردنية صباح 15 نوفمبر 1973، تماماً مثلما يبرح شخص مكان عمله إلى موعد خاص شديد الأهمية، لا يسعه التخلّف عنه، فكيف إذا كان هو نفسه مَن تَخيّر لقاء الموعد، وحدّد له الزمان والمكان؟
ولأن الموعد ذو طابع شخصي محض، لم يُحِط تيسير أحداً من أصحابه أو زملائه أو أفراد عائلته به، ولهم أن يعرفوا بعدئذ ما جرى في ذلك الموعد، وإلامَ انتهى. ولا شك أنها لحظة إبهار روائي تتوِّج رواية مفترضة، فقد أمضى تيسير في بيته بعض الوقت ضُحى ذلك اليوم منفرداً بصحبة شراب لا يستسيغه. وعلى الأغلب في غير مواعيد الشرب المعهودة له، ولم يكن الرجل مُدمناً أبداً حتى يعاقر بنت الكرمة قبل الظهيرة. وقد بدا ذاك الشراب المحلي غير المرغوب به، نظيراً وتكثيفاً لحياةٍ لم تعد تروق لصاحبنا ولم يعد يطيقها. وقد شاء أن يتجرع من ذلك الشراب الأحمر ذي الرائحة النفاذة، كيما يقف بصورة حسّية لا مراء فيها على طعم الحياة –حياته- غير المستساغ له. ويبدو أنه سرح كما هو متوقَّع مع تلك الرشفات الصعبة ولم يعد يشعر بجريان الوقت، أو أنه ذهب مع نفسه إلى مستهل غيبوبة الانتقال إلى العالم الآخر، فلمّا تناهى إلى مسامعه وسط شروده واضطراب مشاعره صوتُ حركة مفتاح في باب البيت، بما ينبئ بأن أحداً من أفراد العائلة قد آب إلى المنزل، فقد تنبّه (وليته لم يتنبه) إلى أن الموعد المضروب قد امتد به وطال بعض الشيء، وأنه على وشك نسيان الهدف من الموعد، فسارع إلى حمل المسدس الذي أعدّه لهذه الغاية ورفعه، وقام بتوجيهه إلى رأسه، وإطلاق النار على صدغه.
ربما كانت تلك أول رصاصة يطلقها الرجل الحالم وشديد الانفعال، وبالتأكيد هي آخر رصاصة. وقد بدا الأمر واضحاً لمن دخل البيت ورأى إلى الدم النازف. فقد كان الأبُ والزوج منفرداً بنفسه. كان هو القاتل والقتيل بغير لُبس. وقد سُمع دوي الطلقة القاتلة منذ هنيهات. وها هو الرجل في هيئة مروّعة فظيعة لم يبدُ بمثلها من قبل، ولن يعود منها (الكاتب عدي مدانات مستذكراً تيسير سبول في حوار مع جعفر العقيلي، صحيفة «الرأي» الأردنية، 19 نوفمبر 2016).

(2)
في رسائل نشرتها مجلة «نزوى» (عدد أكتوبر 2006 ) من تيسير سبول إلى صديقه صادق عبدالحق، يَذكر الأخير في مقدمة التحقيق الصحفي الذي أعدّه تيسير النجار، أن تيسير سبول أُدخل المستشفى في دمشق وكان آنذاك يدرس الحقوق في جامعتها، إثر محاولة انتحار وذلك في أعقاب صدمة شخصية. وهو ما ينبئ عن مدى حساسية الرجل، وسويدائه المقترنة بصلابته وبانفتاحه الشخصي، إذ لم يكن يحمل صفات الشخصية المنطوية التي تعاقر الأحزان والخيبات الذاتية وتنقطع عن الناس ولا تجد فيهم سلوى أو عزاء، بل كان شخصاً فكهاً وتواصلياً، مع ميل إلى المزاج الحاد.. والراجح والغالب أن تيسير رأى مبكراً إلى الانتحار فعلَ شجاعة وخياراً ذاتياً جسوراً ورسالةَ احتجاج قوية، كما هو الحال مع المفهوم الياباني لقتل النفس بعَدِّه قرينةً على أعلى درجات الكبرياء، لا الانكسار. والرسائل مفعمة بترجيعات التوتر الذي كانت تزخر بها نفس تيسير في وقت مبكر منذ أواخر الخمسينات ومطالع الستينات، وكان في مقتبل العشرينات من عمره. مع تساؤلات حرّى عن جدوى الكتابة وغائيتها الغامضة، وعن جدل الكتابة والواقع.
غير بعيد عن ذلك تحدث الروائي والقاص فؤاد التكرلي في مقالة له في صحيفة «الشرق الأوسط» عن مراسلات متقطعة نشأت بينه وبين تيسير سبول بين الأعوام 1969 و1973. وكانت المراسلات الخطية آنذاك بين الأدباء أقرب إلى لون أدبي قائم بذاته، ويكتبها كاتبها وهو يستبطن الشعور أن الرسالة عُرضة للقراءة لاحقاً من آخرين ومن الأفضل أن يقرأوها، ويتم فيها بسط الآراء والتعليقات على أمور ثقافية وعامة وشخصية. وعليه تجري العناية بتدبيجها، وبقدر من التنافس الودّي بين الكاتبين المتراسلين على فن الصياغة والسبك والصقل والنحت وبسط الآراء والاجتهادات بطريقة رشيقة وذكية. ولعله من المفيد في هذا الباب التذكير بأن مجلة «الأديب» اللبنانية كانت تفرد في الصفحات الأخيرة من أعدادها باباً لرسائل متبادلة بين الأدباء مما يمكن تصنيفه بالرسائل المفتوحة.
وقد نشأت المراسلات بين سبول والتكرلي، إثر لقاء وحيد جمعهما في القاهرة، وتعاهدا -كما يبدو- على التراسل في ما بينهما. وكان التراسل آنذاك مصداقاً للمحبة ومن آيات الاحترام والرغبة في صداقة ثابتة مستدامة.
كتب سبول إلى التكرلي يقول في رسالة مؤرخة 14 /7/ 1969: «هل تتساءل معي ما جدوى حياة الإنسان الذي خبر لذة الكتابة ثم يجد نفسه عاجزاً عنها. ليتك تساعدني في بحث هذه القضية. ماذا سنكتب؟ إن الكتابة أولاً وآخراً وجهة نظر شاملة! ما حقيقة وجهة نظر الإنسان في ألف قضية مطروحة؟ هب أنه افتعل موقفاً إيجابياً، ما قيمته إذا لم يكن سلوكه إيجابياً؟».
وينقل التكـرلي عن رسالــة من سبـول مؤرخـة 16 /1 / 1970: «لا أكتب، ولا أستطيع التفكير في الكتابة.. إن شعوراً حاداً بعدم الاستقرار يستولي علَيّ، وعبثاً أحاول في مثل هذه الظروف النفسية ما يسمى: الخلق».
الذات الممتلئة التي لا تطاوعها الذات الكاتبة دائماً، هي أحد مصادر شقاء العيش وشقاء الوعي لدى سبول. وقد عبّر عن ذلك في قصيدته المريرة الأخيرة أجلى تعبير:
«أنا يا صديقي
أسيرُ مع الوهم، أدري
أيمّمُ نحو تُخوم النهاية
نبيا ًغريبَ الملامح أمضي
إلى غير نهاية
سأسقطُ لا بدّ، يملأ جوفي الظلام
نبياً قتيلاً، وما فاهَ بعدُ بآية».
ينبئ هذا المقطع الشفيف والكثيف عن:
– استشراف النهاية القريبة لرحلة الشاعر والشخص، وبلوغ المعاناة الذاتية أوجها، لدرجة التصريح بالسير نحو تخوم النهاية، بما يجعل من حادثة الانتحار المريعة، تتويجاً لعذابات روحية كابدها سبول، ولا سبيل إلى تهدئتها أو إطفائها إلا بوضع نهاية للرحلة، وذلك كما تمرأى الأمر لصاحبه. وعليه، فإن فعل الانتحار لم يكن على غرار صاعقة في سماء صافية، إذ سبقت الصاعقةَ رعودٌ وبروقٌ وغيومٌ داكنة مدلهمة. وفي ذلك يقول عدي مدانات: «أما وقد انكشف المستور وقد أقدم تيسير على فعلته، فقد أدركنا جميعاً أننا كنا مقصّرين وقصيري النظر وأنانيين وآثمين في النهاية، ولا عذر لواحدٍ منا، وأخصّ نفسي بهذا الكلام أكثر من غيري، فقد أخذتُ من تيسير أكثر مما أعطيت». وهي شهادة أليمة وجارحة تنم عن مدى نزاهة صاحبها.
– يتكرر نعت النبوّة في هذا المقطع الدالّ، فالشاعر يستشعر نبياً في إهابه، والكتابة لدى صاحبنا مهمة رسولية يجترحها «نبيّ غريب الملامح،» في دلالة فائقة على نموذج المثقف الرومانتيكي الراديكالي المفعم بالأحلام الكبيرة القصوى، وصاحب الكبرياء القومي الجريح.. هل في الأمر مبالغة؟ أجل، غير أن الشاعر والكاتب المرهف مُعتنق المشروع التحرري والنهضوي الفضفاض، يمتلك حساسة مضاعفة، وأحلاماً أكبر من غيره، وترتدّ عليها الخيبات بكثافة أعظم، وهو إلى ذلك كله في عجلة من أمره ويضرب صفحاً عن مفهوم المراحل، وسُلّم الأولويات، ونضوج الظروف «الموضوعية»، فتلك ربما هي عدّة السياسي وبضاعته، وليست ديدن «نبيّ غريب الملامح».
– يستلّ الشاعر من ذات نفسه ناقداً وفاحصاً ومحكّماً على صنيعه الإبداعي، لدرجة يندفع فيها إلى تبخيس الإنجازات، والقسوة على الذات بما يضارع قسوة النسّاك على جسومهم وأرواحهم. فهذا المبدع يتبدّى في مرآة ذاته «نبياً قتيلاً» (الوصف لا يخلو من غرابة، وملتبس الإيحاء) و«لم ينطق بعد بآية».
(3)
في رحلته بحثه عمّا يروي غليل روحه، انفتح تيسير سبول على التصوف، قارئاً ودارساً. ثم، مبرهناً على حيويته العقلية والروحية وعزوفه عن الأدلجة، حاول أن يعايش تجربة التصوف وينخرط فيها إنْ وسعه ذلك، لائذاً بالشاعر أمين شنار الذي تقاسم معه جائزة صحيفة «النهار» عن الرواية عام 1968 (وشنار إلى جانب فايز صياغ وتيسير سبول من رواد الحداثة الشعرية في الأردن، وأصدر في القدس مجلة «الأفق الجديد» الرائدة في أواسط ستينات القرن الماضي، وقد استغرق الزهد والتصوف النصفَ الثاني من عمره، ورحل عن الدنيا عام 2005 عن 72 عاماً). غير أن تجربة سبول في هذا المضمار لم تفلح، وظلت روحه تكابد النفي والقلق الممضّ.
(4)
من المفارقات أن تيسير سبول كان معجباً بالشاعر خليل حاوي بين شعراء قلة آخرين، ويرى فيه أستاذاً ورائداً. حاوي الذي يبشّر بمخاض النهوض العربي، ويعدّ من علامات الشعر العربي الحديث. ومع ذلك، لا شيء يدل على أنه نشأت بينهما صداقة أو علاقة، أو أن التعارف الشخصي تم بينهما، رغم أن سبول كان يتردد على بيروت بعد هزيمة حزيران 1967 حيث يقيم حاوي. هذا مع عدم استبعاد ذلك بصورة قطعية. على أنه بعد تسع سنوات من مغادرة سبول للحياة منتحراً، أقدم حاوي على الفعل نفسه. أقدم الأستاذ على ما فعله «تلميذه» بنفسه، بإطلاق النار على رأسه، وبغير مقدمات ظاهرة تنبئ بذلك. فهل نشأ بينهما تراسُلٌ روحيّ مكتوم؟
(5)
تيسير سبول بطل من ذلك الزمان. بطل تراجيديّ. لم تسعفه مواهبه وألقه الشخصي في النجاة من المصير الذي اختاره ورسمه لنفسه.


السرد الروائي المكتنز
عنقود الحكايات فـي رواية «أنتَ منذ اليوم»

محمّد صابر عبيد*

فـي إشكاليّة الفضاء السرديّ
تُختَبَرُ الرواية في مرتكز أساس من مرتكزاتها بآليّتين جوهريتين هما: اللغة والصنعة.. اللغة الروائيّة التي تستجيب لطبيعة الصنعة، والصنعة التي تستثمر اللغة لتحقيق رؤيتها وطريقة معالجتها السرديّة، وتبقى تفاصيل أخرى تُستخدَم لقياس مناطق فنيّة وجماليّة وبنائيّة ثانويّة في النصّ الروائيّ تنحو على الأغلب نحواً خاصّاً بالشكل الفنيّ العام للرواية، ولاسيّما بعد تطوّر الفنّ الروائيّ وانفتاحه على آليّات أخرى تحدّد نوع الرواية مثلاً، بما يجعلنا بحاجة دائمة لتطوير أدواتنا كي تستجيب لآفاق التطوّر في فنّ الرواية على وجه الخصوص، بوصفه الفنّ الأكثر رواجاً في حاضنة الأدب العربي الحديث.
إذ صار التقسيم العام للأنواع الروائيّة ينحو هذا النحو: (الرواية القصيرة «نوفيلا»، الرواية، رواية الأجيال)، مع كلّ ما يثيره التفريق بين النوعَين الأوّلَين من التباس في عدم وجود معايير حاسمة تقود إلى وصف دقيق للنوع الروائيّ بينهما، فإلى أيّ مدى «مكانيّ» -على مستوى الحيّز الذي يحتّله عددُ الكلمات مثلاً- يمكن تحديد ما يندرج في نوع الرواية القصيرة أو الرواية، ونحسب أنّ الاستقرار على تحديد مصطلح «الفضاء السرديّ» وتوضيح آليّات عمله هو الكفيل بحسم هذه القضية.
رواية تيسير سبول الموسومة «أنتَ منذ اليوم» لا تحتاج إلى تأمّل عميق وكبير لحسم انتمائها الظاهر للرواية القصيرة (نوفيلا)، بحكم قِصَرِها الشديد الذي يبدو حتّى أكثر ممّا يجب لرواية قصيرة بحيث تنشأ إشكاليّة جديدة في قضيّة التحديد، لتمضي باتجاه حسم إدراجها ضمن الرواية القصيرة أو القصّة الطويلة، وهنا علينا من جديد أن نستعين بمصطلح «الفضاء السرديّ» للتأكد من حقيقة انتمائها للرواية القصيرة لا للقصّة الطويلة.
يدلّنا منطق الفضاء السرديّ على أنّ رواية «أنتَ منذ اليوم» بما انطوت عليه من شخصيّات وأحداث وأزمنة وأمكنة ومقولات كثيفة، هي أقرب إلى الرواية القصيرة منها إلى القصّة الطويلة، وستحاول قراءتنا هنا أن تجيب على أسئلة الفضاء السردي في توكيد منطق السرد الروائيّ وتغليبه على منطق السرد القصصيّ، ولعلّ أبرز معالم هذا التوكيد والتغليب هو طبيعة الراوي السرديّ الذي اضطلع بمَهمّة قيادة السرد في النصّ، وهو راوٍ بوسعنا أن نطلق عليه «الراوي المثلّث»، فهو أولاً راوٍ ذاتيّ، وثانياً راوٍ موضوعيّ، وثالثاً راوٍ مؤلّف، في تشظٍّ يقوم على هندسة سرديّة متقَنة تقدّم شخصيّة «عربي» (وهي الشخصيّة الرئيسة في الرواية) بوصفه راوياً ذاتياً مرّة، ومرّة أخرى يظهر بصيغة الشخصيّة التي تخضع لرواية الراوي كلّي العلم (الموضوعيّ)، ومرّة ثالثة تلتبس هذه الشخصيّة بشخصيّة المؤلّف الحقيقيّ (تيسير سبول) في مشهد مركزيّ من مشاهد النصّ.

الراوي المثلّث: تشظّي المشاهد
يتأكّد حضور الراوي المثلّث داخل جسد رواية «أنتَ منذ اليوم» في أضلاعة الثلاثة: الراوي الذاتيّ، والراوي كليّ العلم، والمؤلّف الحقيقيّ. ويسهم هذا عميقاً في تشظّي المشاهد السرديّة على شكل لقطات غير معنيّة تماماً بالأنساق الروائيّة المتعارَف عليها، ويظهر أوّل ما يظهر نموذج الراوي الذاتيّ حين تظهر شخصيّة «عربي»، بوصفها الراوي الذي يروي الحدث من وجهة نظره الذاتيّة الحاضرة في ميدان السرد:
«صباح اليوم التالي، استُدعيت إلى دائرة المباحث العامة. أتى رجل قميء الحجم يعرفني ولا أعرفه وأخذني من فناء الجامعة قائلاً إنّهم يريدونك هناك. استقبلني رجل وسيم ناعم الشعر أسوده. كان يبدو مهماً. صرفَ القميءَ بإشارة من رأسه ورحّب بي مؤكّداً أنّ معلوماته عني مشرّفة. زهوتُ قليلاً إلا أنّ توقعاً خائفاً منعني من استكمال سعادتي.
– هل تعرف هذا؟
مدّ لي جواز سفر مفتوحاً على صورة عرفتُها للتوّ: صديق قديم يدرس الطبّ في بلاد أخرى حيث يصنعون من الجماجم منافضَ للسجائر.
– نعم أعرفه.
– هل هو شعوبيّ؟
أُطبق عليّ ولم يعد هناك شعور بالزهو.
– أستاذ عربي، اسمعني جيداً.. لا مجال للتردّد في قضية كهذه. نحن واثقون من شعوبيّته. عذّبناه ولم يعترف. شعوبيّ حقير. استشهد بك فعرفنا أنك صديقه. لكنّ معلوماتنا عنك مشرّفة. فقبلنا أن نكسر رأسه بشهادتك.
ومضى يشرح:
– مصلحة الوطن قبل الصداقة. هل هو شعوبيّ؟
– نعم، شعوبيّ».
فالحوار إذاً هو بين الراوي الذاتيّ (عربي) ورجل المباحث الذي يطلب منه توكيد صحة انتماء صديقه للشعوبيّة، ولعلّ هذا الصديق (الغائب/ الحاضر) الذي أُرغم «عربي» على الإقرار بشعوبيته هو الوجه الآخر لشخصيّة «عربي»، حيث لم يمنحه الراوي اسماً أو لقباً أو كنية، مع أنّ رجل المباحث عرض عليه جواز سفره وهو يتضمّن حتماً هذه المعلومات كاملة، لكن ما يهمّ هنا في هذا الرصد التأويليّ هو النموذج الأوّل للراوي، وهو «الراوي الذاتيّ» مقترناً بشخصيّة «عربي».
أمّا النموذج الثاني فهو الراوي الموضوعيّ «كلّي العلم»، حين تتحوّل بموجبه شخصيّة «عربي» إلى شخصية غائبة «مَرْويّة» تظهر على لسان الراوي كلّي العلم، فتحدث فاصلة واضحة بين موقع الراوي وموقع الشخصيات التي يروي الراوي حكايتهم:
«استيقظ عربي ذات صباحٍ على موسيقى عسكريّة:
– مَنْ ذبحَ مَنْ؟ مَنْ يريد أن يحكم مَنْ؟
جسمه مرهَق بفعل كوابيس البارحة. فليأخذهم الشيطان كلّهم. عمّا قليل سيعرف الحكاية. لم يحلق ذقنه بل ارتدى ملابسه وهبط الدرجات الخشبية. قبل أن يتمنّى لأمّ عليّ صباحَ خيرٍ أجشهت بوجهه:
– انقلاب يا سيّد عربي.. الله يخرّب بيوتهم.
– انقلاب أين؟
– ضدّنا يا سيّد عربي، يا خراب بيتنا يا ذلّنا».
تغادر شخصيّة «عربي» موقع الراوي الذاتيّ لتكون مع الشخصيات الأخرى في الرواية جزءاً من «المروي»، ويتبادل الراويان (الذاتيّ والموضوعيّ) مواقعهما على طول الرواية في معادلة سرديّة متوازنة تجعل من شخصيّة «عربي» أداة سرديّة لبناء جدل الفعل وردّ الفعل، وثمّة صورة ثالثة تظهر في هذا المثلّث هي صورة المؤلّف الحقيقيّ (تيسير سبول) على نحو من الأنحاء، بحيث يتساوى أو يعادل شخصيّة «عربي» ليصبح الضلع الثالث من أضلاع مثلّث الراوي، فقد ظهر المؤلّف الحقيقيّ في مشهد يحيل على هذه الراوية القصيرة «أنتَ منذ اليوم»، على النحو الذي يجعل من شخصيّة «عربي» هي نفسها شخصيّة المؤلّف الحقيقيّ، في التفاتةٍ تقتضي منّا هذا التأويل:
«سرتْ شائعة بين الشباب في المقهى أنّ المواطن عربي يكتب رواية، فأتى بعض عرفائهم ووقفوا على عربي وسألوه عن صحّة الأقاويل. خجل قليلاً وأكّد أنه يكتب شيئاً غامضاً لا يدري ماذا يسميه.
قال: أكتبُه لأنه يزعجني.
فأقبلوا يفتّشون مخطوطته الصغيرة وأتوا عليها بسرعة ثم تحلّقوا حوله.
– جميل، جميل، ولكن هل تلاحظ عدم التماسك في بناء روايتك؟
– نعم، هذا الشيء غير متماسك.
– أعد النظر، ثمّ.. إنك تقسر التاريخ قسراً عليها».
حين نريد أن نفحص هذا المشهد على وفق هذه الرؤية التأويليّة، لا بدّ لنا من محاولة رصد بعض المفاصل والإشارات والعلامات الواردة فيه، على نحوٍ يسير ضمناً إلى هذه الرواية نفسها (أنتَ منذ اليوم) ويصبّ في نهرها، وهي:
1. عربي يكتب رواية.
2. يكتب شيئاً غامضاً لا يدري ماذا يسميه.
3. أكتبه لأنّه يزعجني.
4. مخطوطته الصغيرة.
5. عدم التماسك في بناء روايتك.
6. نعم، هذا الشيء غير متماسك.
ابتداء من الملاحظة الأولى يمكن تطبيق رؤيتنا التأويليّة عليها حين نضع بدل شخصيّة «عربي» شخصيةَ المؤلّف الحقيقيّ (تيسير سبول)، والملاحظة الثانية حول غموض النصّ وعدم تجنيسه تقود إلى نصّ رواية «أنت منذ اليوم»، وقد أثارت منذ نشرها كثيراً من اللغط حول غموض انتماء النصّ إلى النوع السرديّ الروائيّ، وهي إشارة تحيل على هذه الرواية في هذا المستوى من مستوياتها، أمّا الملاحظة الثالثة «أكتبُه لأنّه يزعجني» فهي ملاحظة مضمونيّة يؤكّدها المرويّ السرديّ في رواية «أنتَ منذ اليوم»، بما قدّمه النصّ من مجموعة ضاغطة وكثيفة من الخيبات والفقدانات والخسائر التي قد لا يتّسع لها الشعر أو أيّ فنّ آخر، وحتى ما سجّله هذا النص وصُّنِف على أنّه رواية ظلّتْ مثار جدل وسجال وتنازع اصطلاحيّ ومفهوميّ، بحيث أراد الروائيّ إخراج هذا القلق والإزعاج الداخليّ تجاه ذاته وتجاه ما يحيط به من أحداث وكوارث وطنية وقومية نحو مسرح الكتابة من دون أن يُعنى بالتجنيس، فالأولى والأهمّ هو الخلاص الكتابيّ وليس الإبداع التقانيّ الأجناسيّ بحسب رؤية المؤلّف الحقيقيّ هنا داخل أسوار النصّ.
تؤكّد الملاحظة الرابعة بِمعيّة ما سبقها من ملاحظات انتماء الراوية المقصودة داخل جوّ النص إلى رواية «أنت منذ اليوم» خارج النصّ، فالوصف «مخطوطة صغيرة» ينطبق تمام الانطباق على «أنت منذ اليوم»، إذ هي رواية قصيرة جداً تحدّث كثير من النقاد والمعنيين عن هويها الأجناسية وقابلية انتمائها لجنس الرواية، فهذه الصفة دالّة دلالة أكيدة بوصفها علامة بارزة على تطابق وصفيّ بين الرواية التي كتبها «عربي» داخل الرواية ورواية تيسير سبول «أنت منذ اليوم».
تنتمي الملاحظة الخامسة إلى ما جرى من حوار تقانيّ حول رواية «أنت منذ اليوم»، إذ رأى بعض مَن قاربوها خصيصة عدم التماسك فيها، وتؤكّد شخصيّة «عربي» في تعليقها على الموضوع بقولها: «نعم هذا الشيء غير متماسك»، تعبيراً عن موضوعات الرواية التي يستحيل أن تكون متماسكة، فهي هجاء مرّ وقاسٍ لأحوال المنطقة العربية ما بعد هزيمة 5 حزيران 1967 وحواشيها وما آلت إليه من هزائم أخرى، سياسية واجتماعية وثقافية وإنسانية عامة وخاصّة ليس لها حدود ولا نهايات.
بهذا المعنى يمكن القول إنّ مثلّث الراوي «الراوي الذاتيّ/ الراوي الموضوعيّ/ المؤلّف الحقيقيّ» يشتغل بأضلاعه الثلاثة كي يقدّم رواية مبكّرة، على قدرٍ كبير من الجرأة في ممارسة التأليف الروائيّ وهو يستجيب لخاصّية عدم التماسك التي تطال كلّ شيء بلا استثناء، وتجيب على شبكة من الأسئلة الشائكة والمعقّدة والملتبسة إجابة مشتّتة لا تعكس حَلّاً، بقدر ما تسهم في جلد الذات العربية المهزومة وخرق ثوابتها وتوسيع حجم تحدّياتها.
السرد الكثيف واكتناز المشهد
تَبرز خاصيّة السرد الروائيّ المكتنز في رواية «أنتَ منذ اليوم» بوصفها الآليّة الأولى الفاعلة في تشكيل الفضاء السرديّ، إذ ينأى النصّ عن التفاصيل التي غالباً ما يُعنى بها السرد الروائيّ لتشييد البنيات الأساسيّة الكبرى المؤلِّفة للرواية، فالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل مادةٌ جوهريّة شديدة الأهميّة للعمل السرديّ الروائيّ، غير أنّ تيسير سبول في روايته الوحيدة هذه يستخدم أداة تنقيب شعريّة بالغة الرهافة في البحث عن الجوهر، فيركّز على اللقطة السرديّة ويترك مهمة التفاصيل لتخييل المتلقّي، إذا ما أرادَ أن يتوسّع في رصد تفاصيل اللقطة بما تنطوي عليه من طاقة تخييل سرديّة.
سننتخب إحدى اللقطات التي سردها الراوي بقدرٍ عالٍ من العفوية الحكائيّة في حين تتحمّل هي تفاصيل كثيرة، يمكن أن تغوص في باطن المكان والشخصيّات الأنثوية وحتّى شخصيّة الراوي نفسه حين يكون جزءاً من هذا المكان:
«هاجمَتني روائح المكان الكريهة حالما عبرتُ البوابة الخارجية. رأيتُ زاوية المأكولات أوّل ما رأيت.. بسكويت، فواكه، معلّبات، إلخ.. اختبطت معدتي فأسرعت أمرّ بنساء الطابق الأول. إنهنّ الأرخص والأقذر. في الطابق الثاني الروائح أقل والنساء أقلّ ضجيجاً. لكنهن يمضغن اللبان أيضاً ويضربن أمكنة خاصة في الجسم. اخترتُ واحدة على وجهها معالم بثور ولكنها ليست من اللواتي يضربن أمكنةً خاصةً. قالت لي إنها لا ترغب في التعرّي التام وأنه يجب ألّا يهمني تمام التعرّي. ولم أناقشها أكثر، فحاوَلَتْ أن تطيّب خاطري بإصدار بعض الأصوات الخاصة أثناء العمل، فرجوتُها أن تكفّ. فصرخت بوجه شيطاني:
– فاكر نفسك (دون جوان)؟
عبثاً حاولت إقناعها بأن تقبل النقود هبةً، وظلّت تصرخ في وجهي. وأخيراً قدرتُ أن أهرب تاركاً المبلغ على حافة المغسلة».
يتّسع المكان لسرد شاسع يمكن أن يأتي الراوي فيه على شبكة لا تنتهي من التفاصيل تكشف عن طبقة مهمة من طبقات النفس البشريّة، فضلاً عمّا ينطوي عليه المكان من فضاء إيروسيّ باذخ بوسعه أن يحكي الكثير، ولو أنّ الراوي وسّعَ فقط من لقائه وحواره مع المرأة التي على وجهها معالم بثور وكشف عن طبقات معيّنة من شخصيّتها، لأنجز كثيراً من التفاصيل السرديّة التي قد تُثري الفضاء الروائيّ وتأخذه نحو محاور أكثر خصباً، غير أنّ الروائيّ شاء أن يشتغل على آليّة التركيز البلاغيّ المُقتصِد في اللغة والصورة والصنعة. وثمّة مشاهد كثيرة أخرى يمكن استثمار حيويتها لولوج بؤرها السرديّة وفتح بقعها الأرجوانيّة على مساحات سرد تروي تفاصيل شاسعة.
إنّ الدخول في صلب البنية السردية للرواية يكشف لنا الطبيعة الكثيفة التي تمخّضت عنها الرواية على مستوى تعاضد عناصر التشكيل وتعاشقها، من دون الاستجابة القَبْليّة لاشتراطات المسطرة السرديّة وأكاديمية الأنساق السرديّة المتعارَف عليها، ولا شكّ في أنّ حضور عامل «الوعي» مضافاً إليه عامل «الإحساس» ثم «المعرفة» وأخيراً «الجرأة» مَنَحتْ الروائيّ طاقة سرديّة فائقة على وصول نُظُم الصوغ إلى أعلى مراحلها، وهي نُظُم صوغ مبتكَرة لا ترتهن بما سبقها من تقاليد راسخة في بناء الرواية العربية، إذ شاء تيسير سبول أن ينجز عمله الروائيّ المكثّف القصير بعيداً عن الإذعان لأيّ مشيئة روائيّة سبقتْ عمله، أرادها صرخة سرديّة -شكلاً ومضموناً- تعبّر عن أقصى حالات الرفض، لذا أثارت هذه الرواية جدلاً وسجالاً على غيرِ صعيدٍ وغيرِ مستوى ما يؤكّد خصبها التشكيليّ والتعبيريّ والجماليّ.


استراتيجيا السرد
في «أنت منذ اليوم»

محمد معتصم*

يتميز الخطاب الروائي بخاصيتين أساسيتين، هما: السرد، والتركيب.
ويحدد السرد خاصيته النوعية، ويُدخِلُهُ في زمرة النصوص التي تقوم على «تتابع الأحداث، التي تقع لشخصية واحدةٍ أو لعدد منَ الشخصياتِ أو توقِعُها الشخصيات بعضها على بعض في حالة تفاعلها، في لحظة زمنية ومكانية (آنية أو مسترجعة أو متخيلة)، بواسطة ساردٍ أو مجموعة من السُّرَّادِ، يتناوبون على رواية الوقائع والأحداث (أو الأفكار والمشاعر) كلُّ مِنْ زاويةٍ تحدِّدُ وضعيتهُ في التلفُّظِ ووِجْهَةَ نظرهِ الخاصة به، سواءٌ أ كانت وجهة نظرٍ فردية (شخصية) في حال السرود الذاتية- كتابة الذات (كالسيرة الذاتية، واليوميات، والمذكرات، والرسائل، والرواية بضمير المكلم، وأدب الرحلة ودفاتر السفر)، أو وجهة نظر جماعية (كتدوينِ المواقف، والأعراف، والخطابات المسكوكة المتوارثة). والسردُ ليس فقط تتابع الأحداث، بل هو أيضاً بناء طريقة السرد، بناءً منسجماً ومتماسكاً، لهُ هدف ومعنى ومقصد (أو مقاصد)، يفهمها القارئ (المتلقي)، أو بغاية التأثيرِ في سلوكه وتغيير وعيه وتنمية ثقافته. إذن، للسردِ بنيتان متوازيتان، هما؛ الخطابُ والقصةُ.
والخطابُ الروائيُّ يتميَّزُ عن غيره من النصوص السردية، والسرد كما يقول «رولان بات»، أنواعٌ لا حصر لها، «وهي قبل كل شيء تنوُّعٌ كبير في الأجناس، كما لو أن كلَّ مادةٍ صالحةٌ لكي يضمّنها الإنسان سروده، فالسردُ يمكن أن تحتملهُ اللغة المنطوقة شفوية كانت أم مكتوبة؛ والصورة ثابتة كانت أم متحركة… والسرد حاضرٌ في الأسطورة، وفي الحكاية الخرافية، وفي الحكاية على لسان الحيوانات، وفي الخرافة، وفي الأقصوصة، والملحمة، والتاريخ، والمأساة، والدراما…» (1)، يتميَّزُ ببنيته المُرَكَّبَةِ، أي أنه يتكون من عدد من المحكياتِ التي تحاكي حياة الناس في الواقع، تحاكي طبيعة الإنسان، التي تميل إلى اختزال التجارب وتدوين المواقف في سرود قصيرة سهلة الحفظ والخزن في الذاكرة، وتسهِّلُ عملية التواصل، من قبيل «الخبر» و»المثل» و»الحكاية» و»الموعظة»، وهكذا دواليك، أي تلك النصوص السردية القصيرة المميزة بتكثيف المعنى، وتثبيت الفكرة والموقف في لحظة زمنية ضيقة، وبأقل الكلمات اقتصاداً، وأغلب الظنِّ أن المرحلة الشفهية للبشرية، هي العامل الأساس وراء ذلك. ومن بين الآراء ما جاء في رسالة لجبران خليل جبران إلى إميل جورجي زيدان -وذلك باعث آخر في مرحلة الكتابة والنهضة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية- يقول فيها:» إن الشرقيَّ يميلُ بطبعه إلى سرد الحكايات، بل هو الذي ابتدع هذا الفن. ولكن الشرقي في أيامنا هذه لا يتحول إلى كاتب أو شاعر حتى ينسى أفضل مواهبه. إن الحكايات أو الروايات هي التي سببت الانقلابات الاجتماعية أو السياسية في أوروبا وأمريكا. وعندي أنه يجب علينا إيقاظ هذا الميل وهو وضعيّ في الشرقيين لأنهُ أفضل وسيلة لإبراز ما تكنّه الغريزة الفنية» (2).
وأكثر ما يدعمُ هذه المحكيات القصيرة، ما نجدهُ من قصص وحكايات قصيرة النفس، شديدة الاقتصاد اللغوي، قوية الإحالة والإيحاء، سهلة التداول والانتقال واختراق الحدود الأجناسية والجغرافية والعابرة للثقافات، وفرتها النصوص الدينية (القرآن الكريم، والعهد القديم، والأناجيل، ناهيك عن الأحاديث والشروح والتفاسير والرسائل).
إنّ المحكيات وتنوع بنياتها ومستوياتها، في رأيي، أساس بناء الخطاب الروائي، سواء على مستوى الخطاب، التركيب النحوي للروية، أو على مستوى القصة، أي تركيب المتن، أي المحتويات والمضامين والمواقف ووجهات النظر. ومع ذلك ينبغي ألّا ينسينا الحديثُ عن المحتوى وعن المرجع الواقعي الذي يحيل عليه، أن النَّصَّ ليس سوى لغة، أي أن المحتويات والمضامين والأفكار ليست انعكاساً للواقع مباشرة، ولكنها صورٌ تنقلها اللغة، مما يجعل من حضور موقف ووجهة نظر القائل (الكاتب أو السارد) ضروري في إنتاج النص والمعنى، ثم إن النص، كما هو واضحٌ، وكما يؤكد ذلك «يوري لوتمان»، ليس سوى «علاقات لسانية» (3) داخلية، ومن ثمة وجبَ دراسته على أنه إعادة إنتاج للواقع كمتخيل، أو كتخييل وصور ذهنية.
اعتماداً على هذه المفاهيم؛ السرد والتركيب، والمحكيات (القصيرة)، سنقوم بتحليل بنية النص الروائي القصير (النوفيلا) (4)، لدى الكاتب الأردني الراحل تيسير سبول، والوقوف عند بعض مظاهر الكتابة السردية القصيرة وجماليتها الفنية.
تتألف الرواية من تسعة فصول تتوزع على إحدى وستين صفحةً، وأغلب الصفحات تتخللها جمل قصيرةٌ، مستقلةٌ، وحوارات مقتضبة، وكثيرٌ من «البياضات» والفواصل بين «المقاطع السردية»، وبذلك لا تتجاوز الرواية حدود عشرة ألف كلمة. هذا العدد من الكلمات يضعها ضمن الروايات النموذجية للنوفيلا الإيطالية (La novella italienne) (5)، التي انتشرت في إيطاليا منذ زمن بعيد، ومن نماذجها كذلك «الديكاميرون» (le Décameron) لبوكاشي (Boccace)، في العام 1353م. «وقد ظهرت في فرنسا في القرن الثاني عشر مع ماري دو فرانس، وهو الجنس الذي وُلدَ في فرنسا حقيقةً في القرن السابع عشر ضمن مجموعة قصصية بعنوان (مائة قصة) في سنة 1462م». ويحيلنا هذا العنوان (مائة قصة) على النصوص العربية القديمة، وخاصة «ألف ليلة وليلة»، ولا شك عندي في أن كل شعوب المعمورة قد عرفت هذا النوع من الكتابة القصيرة، المتطورة عن الخَبَرِ والمَثَلِ والحكاية والحجاية والخرافة (الرمزية).
فما الذي يميز الرواية القصيرة عند تيسير سبول؟
أول ملمحٍ يميِّزُ رواية «أنتَ منذُ اليوم»، أنها لا تراهِنُ على إنشاءِ سردٍ «تامّ»، وإن كانت «تُوهِمُ» به القارئ، في مفتتح السرد: «مشهد عنيفٌ، يحاصرُ فيه [الأبُ] القِطَّةَ، ويضربها حتى الموت». كان من الممكن أن تتطور هذه «المتوالية السردية» وتتحوَّلَ إلى «نواةٍ» لإنتاج سلسلة من المتواليات السردية، عبر مسارات متعددة، مثلاً، يمكن بناء مسار سردي ارتدادي، يعود إلى الوراء ليكشف عن دوافع «قتل القطة»، ومن الدوافع يمكن خلق العديد من «الأفعال» الإنجازية لتطوير السرد نحو «حبكة» محددة. إنّ «المشهد العنيف الأول» يحتوي على عناصر السرد: الفواعل (الأب، والابن «عربي»، ثم القطة)، وإنجاز عملي (محاصرة القطة وضربها)، ونتيجة (القتل)، وآثار ذلك على «عربي»، التي لم يبرزها «عربي» في حينها، بل احتفظ بها لإنجاز وظيفة أخرى سردية، تحدد أهم ملامح السرد في النوفيلا، وخاصة في رواية «أنتَ منذ اليوم».
فما هو ذلك الملمح؟
إنه «التكرار». يساهم التكرار في ترسيخ فكرة أن السارد (الكاتب) لا يرغب في بناء سرد متنامٍ متماسك، لأسباب غير معلنة صراحة، بل يوحي بها، ويحيل القارئ عليها عبر استنطاق البياضات، ومما يؤكد على الإنجاز الواعي والقصدي، ما جاء في المتن نفسه، على لسان المخبر/ المحقق، مرة، وعلى لسان الشخصية الروائية «عربي» (هكذا بدون «أل» التعريف)، ولذلك أيضاً دلالته الإيحائية والقصدية، يقول السارد:
«سرتْ إشاعةٌ بين الشباب في المقهى أن المواطن عربي يكتب روايةً، فأتى بعضُ عرفائهم ووقفوا على عربي وسألوه عن صحة الأقاويل.
خجل قليلاً وأكد أنه يكتبُ شيئا غامضاً لا يدري ماذا يسميه.
فحققوا معه حول السبب الذي يدعوه لكتابة مثل هذا الشيء ما دام غامضاً» (6).
ويضيف:
«فأقبلوا يفتشون مخطوطته الصغيرة وأتوا عليها بسرعةٍ ثمَّ تحلقوا حولهُ.
– جميل، جميل. ولكن هل تلاحظ عدم التماسك في بناء روايتك؟
– نعم.. هذا الشيء غير متماسك» (7).
في مثل هذه الحالة يتحدث النقاد عن عملية «تقعير» السرد (La mise en abyme) (8)، وذلك عندما يتحدث الكاتب عن عمله داخل العمل، وهي في الوقت نفسه «وقفة» تشبهُ الوقفة التي كان يقوم بها كُتَّابُ الرواية الواقعية والطبيعية، عند الوصف، حتى يستريح القارئ والسارد كذلك من اللهاثِ وراء تتابع الوقائع والأحداث، ومن وظائفها السردية كذلك، «الطفرة» السردية أو التحول في «الوظيفة»، بمعناها عند فلاديمير بروب (9)، أي الانتقال من مستوى/ مسار سردي إلى آخر، دون الحاجة إلى تقديم تبريرات منطقية للقارئ. وفي هذه «الوقفة» نجد ظاهرتين؛ الأولى تتمثل في تدخل الكاتب في توجيه وتفسير وشرح «القصديَّةَ» (L’intentionnalité) من وراء فعل إجرائيٍّ اختاره بوعيٍ، ويتقمص هنا دورَ «الناقد»، وفي الآن نفسه، يبرز قلقه تجاه ما يقدمه، وحرصه الشديد على «أن يصلَ ما يرومه من معنى وموقف واضحَيْنِ بلا غموض أو تشوش»، والثانية، صعوبة الكتابة عند تيسير سبول، إنهُ لا يسترسل في الكتابة ولا يثق فيها كثيراً، بل، وهذا أغلب ظني، يكتب بألم وبصعوبةٍ، ومن ثمة جاء النص متقطِّعاً، مليئاً بالبياض.
لم يكن «التكرار»، بغاية التوكيد كما يقال عند النحاة، بل كان للتكرار وظيفةٌ سرديةٌ، مهمة جداً، تتمثل في بناء السرد على المحور العمودي وليس على المحور الأفقي، حيث تتنامى الأحداث وتتطور لتشكل ذروة الحبكة، وتتسارع نحو الحل والنهاية، في البناء التقليدي المعروف في الروايات التقليدية. إنما يقوم «التكرار»؛
1. بتوقيف «الزمن» السردي، ليعكس حالة خارج نصية، شديدة الدلالة، قويتها، تحيل القارئ على مرحلة تاريخية وتحثه على المقابلة، بين بناء النص وبنية المجتمع. والتأويل الممكن يقول الآتي: [إن الزمن العربيَّ (بالتعريف هنا)، زمن متوقفٌ منذ هولاكو، حتى الهزيمة والخيانة والخدعة الإعلامية العربية والنفسية في العام 1967م]. يقول السارد:
«لقد عفنا… حقاً إن الأمور متأزمة… كأنها ستظل متأزمة» (10).
ويضيف لاحقاً:
«شعبٌ نحن أم حشية قشّ يتدربُ عليها هواة الملاكمة منذ هولاكو حتى هذا الجنرال الأخير»
(11).
وإمعاناً في التنكيل بالجثة يتابع:
«وما الذي يسمونه جيش الدفاع؟».
حتى في هذا يطأوننا. ويا لها من سخرية. غثاثة وكذب. كل ما يقال غثاثة وكذب، ولا أريد أن
أراها ولا أن أسمعها» (12).
2. يقوم «التكرار» بخلق مساحات كبيرة من «البياض»، ولكنه بياضٌ ناطقٌ، بحكم أن النص الخفي، والمرجع الذي يحيل عليه النص، هو في ذهن الكاتب «مشترك جمعي» أي «متخيل» مرحلة عربية بكاملها لا يسْلم ولا يستثنى منها عربيٌّ من الماء إلى الماء، وهي الشغل الشاغل؛ «الهزيمة» التي ساهم فيها الإعلام العربي، بل تظهر أنها مدبّرة بإحكامٍ لخلق الشرخ النفسيِّ وكسر الطموح العربي في تحقيق ثلاثة أمور كانت ملحّة وقتذاك: «تحرير فلسطين» من الاستيطان، و»عودة اللاجئين» إلى بيوتهم، وتحقيق «الوحدة العربية».
ثلاثة مطامح عربية ملحّة، اثنان متلازمان، والثالث يحمل راية «القومية» العربية. يقول السارد، بتكرار اللازمة الآتية: «إلا أنهم لم يشرحوا بالتفصيل» (13). يتعلق الأمر بقضية فلسطين. شباب الحزب تكلموا كثيراً، لكنهم لم يشرحوا، أي لم يتخذوا موقفاً واضحاً، فبقي الكلام معلّقاً في هواء المقهى. والمذيعون لم يشرحوا بالتفصيل، أيضاً.
إن الكاتب/ السارد هنا يؤكد أن ما ينتجه الحزب والإعلام الرسمي ليس سوى فقاعات كلام وخطابات حماسية، غثة وخادعة وكاذبة. لقد تم تدبير «الهزيمة» الصغرى في الميدان، لأجل تحقيق «الهزيمة» الكبرى (النفسية)، وتحطيم أحلام التحرير والعودة والوحدة. ولكن للأسف الشديد، لم يكتفِ تيسير سبول بقول ذلك مثل الجميع، أي كتابتهُ في رواية غامضة بسرد مشهدي متقطع، مليءٍ بالثقوب والبياض، بل أقدم على الإنجاز الفعليِّ: «الانتحار». وقد وقع في الفخ نفسه، الذي وقع فيه المتنبي، وخليل حاوي، وغيرهما. ورغم الحرص الشديد الذي بينّاه واستنبطناه من عملية السرد لدى تيسير سبول، إلا أنه لم يكن حرصاً لغوياً ولا هوساً بالكمال، بل كان رغبةً ملحّة في الصراخ عالياً، في محاولة التغلب على استسلام واستكانة بطل غسان كنفاني (14)، الذي لم يحاول حتى الضرب على صفيح الحاوية، ليقول: «لماذا لم يدقّوا جدران الخزان» (15). لقد كان تيسير في كل ما فعله رومانسياً حالماً كما وصفه صديقه الكاتب الصحافي (الراحل) رسمي أبو علي، في قوله: «كان حالماً عظيماً، وشاعراً عظيماً، ورومانسياً كاملاً… ومأساته التي قادت إلى انتحاره هي مأساة الروح العظيمة الحساسة إذ تصطدم بالواقع المبتذل. وكان يريد أن يعيش الحياة شعراً، ولكنه كان يرتطم بالزيف والكذب في كل مكان».
يقول تيسير سبول في روايته «أنت من اليوم»: «تفحصت جميع حبات الفستق فوجدتها فاسدة» (16).
من ملامح «التكرار» نجد التكرار الأسلوبي والسياقي، ومنه؛
1. «ما لي نفس… ما لي نفس» (17).
2. «لم يكن لي نفس» (18).
3. «كنت أفكر أن الفستقَ المخزون طويلاً يعفن. وبحثت في رأسي عن جواب فوجدت. كل الفستق كان متعفناً» (19).
4. «كله بقر، بقر» (20).
بعض هذه الأساليب تأتي في سياقات مختلفة، لكنها «بلاغية»، فيها السخرية، مثلاً عندما تطلب «عائشة» من «عربي» أن يغير هديته وأن يستبدل الشكولاته/ البقرة بالغزالة، يجيبها هو بما يملك عليه حسه وانفعاله: «كله بقر»، في حين كان يمكنه القول إن مصنع الحلويات لا يصنع إلا قوالب «بقر». لأن الصدى الوحيد الذي «يتكرر» في ذهنه وفي نفسه: «إنَّ الأُمورَ تسوءُ تماماً. أكد عربي لنفسه» (21).
ومما تدلّ عليه «البياضات» في المتن الروائي عند تيسير سبول، ما نختزله في هذه المفاهيم- التقنيات الكتابية؛
1. الحذف: ليس البياض في نص «أنتَ منذ اليوم» بلا معنى، أو ترف، ولكنه بالإضافة إلى كونه اختزالاً واقتصاداً لغوياً وحدّاً للتدفق السردي المتسلسل والتقليدي والسرد المتماسك والمترابط، يقوم بعملية الحذف، حذف الكلام وتشذيبه، حتى يخالف «ثرثرة» الشباب في الحزب والمقاهي، و»ثرثرة» المذيعين والإعلاميين، المخادعة والكاذبة والغثة. البيانات والبلاغات المتواطئة ضد الشعب وطموحه في «التحرير» و»الحرية» و»عودة اللاجئين إلى بيوتهم»، وتحقيق نداء «الوحدة العربية». إذن، فالحذف قيمة بلاغية لجأ إليها الكاتب لمطابقة «المقال لمقتضى الحال».
2. الإحالة: إن الغاية من البياضات التي يتركها الكاتب بين «المقاطع» السردية، جعلُ النص خلفية للمرجع الخارج نصّي، لأن الظرفية التاريخية التي يعالجها الكاتب «شديدة الحساسية»، إنها ضربة مزدوجة؛ ضربة عسكرية، تحولت بقدرة قادرٍ من «هزيمة» إلى انتصار، وضربة إعلامية، تكشَّفَتْ انتصاراتها الكلامية عن «هزيمة» نكراء، كان فيها العدو داخلياً، لذلك يعبّر البياض عن فجوات يَسمح فيها الكاتب للمرجع الخارجي في تأثيث الفراغ ولا جدوى الكلام، ربما هي محاولة منه للقول إنه ينبغي الانتقال من الكلام إلى الفعل، بل ينبغي الجمع بينهما، لأجل الانتصار.
3. التلميح: الجمل القصيرة، والجمل المبتورة التي تكملها علامات الترقيم؛ نقط الحذف الثلاث، الفواصل المتكررة، حصر الكلام بين قوسين، علامات الاستفهام والتعجب، والشخصيات التي لم يسعَ الكاتب إلى إنشاء وبناء محكياتها الخاصة، شخصية «عائشة»، شخصية «عيسى» و»صابر» وزميلاه في الجندية: «عبد الكريم النحيل ذو الوجه الأبرص، وحمد القصير السمين غليظ القول» (22). هذا الابتسارُ جعل الشخصياتِ الروائية المذكورة في النص الروائي، رموزاً يمكن قراءتها قراءات متعددة، وتعددها باختلاف «المتخيل المشترك» للقراء، أو باختلاف وتنوع «المرجعيات» و»المرجع» كذلك لديهم. فكلمة «عربي» النكرة، صاغها الكاتب لتوسيع الدلالة، ولتشمل كل من يدخل تحت هذا الجنس من البشر، ولكنه في الوقت نفسه اختار الجانب «القوميَّ» وقدمه على المشتركات الأخرى، الدين والمعتقد والتاريخ.
4. التأويل: لم يطور تيسير سبول أيّ «نواة» سردية، ولم يفعِّل أيّ «حافز»، لأنه كان يرغب في توقيف الكلام عند حد فاصل بين الموضوع والمحمول، بين المتخيل والمرجع. على الخطاب أن يقول ما هو مسموح له وما هو في إمكانه التصريح به، وهذا من شدة حرص الكاتب، وهو حرص «طَبَعِيّ» (أي من طبيعته الشخصية). إن تيسير سبول، ومن خلال نص رواية «أنتَ منذ اليوم»، وكل التقنيات التي وظفها، يحمِّلُ الكلمات فوق طاقتها، يريدها أن تقول الحقيقة، فإذا كان التأويل يحمل معنى «إعادة المعنى إلى أصله»، فالكاتب يريد من القارئ أن يقرأ «الواقع» و»التاريخ» و»المرحلة» قراءة لا تقبل تعدد المعاني، يريد أن يتعرَّفَ على الحقيقة: حقيقة «الهزيمة» العربية. هذا الحرص الدقيق والشديد لاحظه صديقه رسمي أبو علي، وهو يقول عنه: «تميّز ككاتب وشاعر وقاص ومتحدث بإجادته التامة والعميقة للّغة العربية، علاوة على قدرته الفذة في دقة التعبير الكاملة بحيث يستحيلُ أن تضيف كلمة أو حرفاً على ما يكتب» (23). هل هي مغالاة من رسمي أبو علي؟ ليس مهماً الجواب بالإثبات أو النفي، ولكن الأهم أن كلماته تصف لنا حالة الكاتب، مع نفسه، ومع الآخرين، وكذلك مع الكتابة. إنها المعادلةُ الصعبة. حلُّها يكون دائماً على حساب مشاعر صاحبها و»أعصابه». وينبغي التأكيد هنا أن التأويل لا يخص الكاتب ولا ينتجه السارد، فالذي ينتج التأويل هو «القارئ». من هنا حرص تيسير سبول على التعبير الدقيق، والاقتصاد اللغوي، وتكثيف المعنى، بدل الإطناب في الشرح والتعليل والتفسير، الذي يؤدي إلى «تعمية» المعنى.
هناك ملمح آخر برز في رواية «أنتَ منذ اليوم»، إنه «غياب التفاعل» بين الشخصيات. فقد ذكر ذكر الكاتب عدداً من الشخصيات، منها العائلية (الأب، الأم، الأخ الأكبر الجندي)، والأصدقاء (صابر وعيسى)، وعائشة وعائلتها (الأب والأم والأخ علي)، ورفيقا الجندية (عبد الكريم وحمد)، ثم المخبر/ المحقق، إلا أنه لم يسعَ نحو بلورة «نواة» واحدة منها، من أجل بناء سرد مركب، تتفاعل فيه الشخصيات لبلورة حبكة «قصة» محددة، والسبب أنه لم يكن يسعى نحو كتابة رواية تروي ما جرى، وتنتج خطاباً يضاف إلى الخطابات التي لا تقول شيئاً، خطابات لا تشرح ما وقع، مثل خطابات الشباب الحزبي وخطابات المذيعين العرب. يريد من الكلمات أن تكون شفافة، وتقول الحقيقة كما هي، يريد من الكلمات أن تكون أفلاطونية، يقول أفلاطون: «الكلمات تكشف عن الواقع». لكن هيهات، فالكلمات تصف الواقع ولا تقوله كما هو.
والملمح الأخير في كتابة «النوفيلا» عند تيسير سبول، التطابق أو «التكرار» التلازمي، فقد فسر الكاتب أحداثاً بحكايات، ومنها:
1. حالة العربي بين عنف الاحتلال وعنف الداخل، بالمشهد الأول، المشهد «النواة»: محاصرة الأب للقطة، وضربها حتى الموت، في النهاية، لا تعلم (ولا نعلم) لِمَ قُتِلَتِ القطة، والأغرب أن عربي سيعثر على القطة نُكِّلَ بها، لقد سَلخ أحدٌ جِلدَ رأسها، فتساءل: «ولكن مَن الذي سلخ جلدها عن رأسها؟». سلخه الذي لم يُشْفِ القتلُ غليله، شخص مليءٌ بالأحقادِ، وهذه الحالة تطابقها حالة أخرى، يمثلها مشهد ضرب الأب المبرح لابنه (عربي) ومن بعده (زوجته أم عربي)، متهماً ابنه بسرقة النقود، ليكتشف في النهاية أنه أخطأ في عدّها. وليس في عُرْفِ الأب الاعتذار أو مواساة الابن، لأن الابن والزوجة مِلْكِيَّةٌ خاصة.
2. حكاية العصفور والمدفأة. يقول: «حاول عربي أن يوضح لهؤلاء السادة أنه ما أحبّ القسر أبداً. وحكى لهم قصة عصفور صغير دخل عبرَ بَواري الصوّبة (مدخنة المدفأة) حتى اسْوَدَّ ريشه تماماً» (24)، لطرح قضية اللاجئ المكسورة قدمه. وهي محكيات «إحالية» و»تلميحية» كذلك.
3. ولتصوير الصدمة والفاجعة التي أحدثها الإعلام الخائن والكاذب، الذي يصور الهزيمة نصراً، قبل أن يكذبه الواقع، يقول عربي لصديقه (حمزة) مندهشاً:
«- طائراتهم أم طائراتنا؟
– طائراتهم.
– غير معقول» (25).
كيف تحلّق طائرات العدو فوق رؤوس الناس الذين هزمهم الإعلام وخطابات المذيعين قَبْلَ جيش العدو، جيش الجنرال الأخير.
إنّ رواية تيسير سبول «أنتَ منذُ اليوم»، وهو عنوان قابل لأكثر من تأويل، نظراً للبتر الموجود في معنى الجملة، أنتَ منذُ اليومِ (ماذا؟)، حُرّ أم مقيَّد، مواطنٌ أم حشيةٌ مليئة بالقشِّ، حيٌّ أم ميتٌ، موجودٌ أم فضلَةٌ؟ أو (هذا ما أنتَ عليه منذُ اليوم)، حالة ثابتة مستمرة في الزمان: منذ هولاكو حتى الجنرال الأخير. إنها رواية نموذجية لدراسة «تقنيات واستراتيجيات المحكي القصير» (النوفيلا)، وقد سعيتُ هنا، إلى إبراز بعض أهم ملامحها، مع التأكيد على التوافق بين بنية الحكاية وبينية المجتمع، ومنها كخلاصة تركيبية مختزلة:
1. تغييبُ الكاتب لتقنية السرد المتسلسل عبر التنامي والتطور والتماسك.
2. اعتماد الكاتب على التراكم والتكرار من أجل بناء سرد متقطع ومشهدي.
3. تجميد الشخصيات وعدم السعي وراء بناء مسارات سردية خاصة بها، على مستوى المحور الأفقي.
4. تغييب التفاعل بين الشخصيات للحد من إنتاج الأفعال الوظيفية.
5. العمل على إبراز أوصاف وسلوك وحالات الشخصيات، لتعميد البنية الثابتة، على المحور العميق.
6. الانتصار للفكرة والقصد، أي الإخبار والتنوير والتوعية.
7. التركيز على موضوعة واحدة، وتسخير كل المقومات لخدمتها وتأكيدها في ذهن المتلقين.
8. التنقل والتحوُّل في السرد عبر تكرار المشاهد والمقاطع (المحكيات الصغرى غير التامة).
9. إعادة الاعتبار للبياض كأيقونة نصية، حاملة لقيم ومعانٍ موحية وملمِّحة ومحفزة على التأويل.
10. إعادة الاعتبار للقارئ (المتلقي)، وإشراكه في «إنتاج المعنى» و»بناء النص الروائي السردي».
11. إعادة الاعتبار لمفهوميِ «القراءة» و»التأويل»، والقراءةُ فعلُ تأويلٍ، كما أن التأويل إرجاعُ المعنى إلى أصله الأول (مهمة القارئ الأساسية).
12. دعم بلاغة «البياض» على الصفحة بـ «الحذف» و»الاختزال». مثال ذلك:» هنا مات أبي» (26). هذه ليست جملة، إنها فقرة، وحدة دلالية، متوالية سردية، تحتل فضاء خاصاً بها بين الفقرات. فقرة مختزلة ومستقلة وضاجّة بالمعاني، مفتوحة التأويل.
الهوامش
(1) التحليل البنيوي للسرد، رولان بارت، ترجمة حسن بحراوي وبشير القمري وعبد الحميد عقار، ضمن كتاب «طرائق السرد الأدبي»، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط- المغرب، ط1، 1992، ص9.
(2) القصة في الأدب العربي الحديث 1870-1914، د.محمد يوسف نجم، منشورات دار الثقافة، بيروت- لبنان، بدون تدوين، ص284.
(3) La structure du texte artistique, Iouri Lotman, Editions Gallimard, 1973, P: 33.
(4) أنت منذ اليوم، تيسير سبول، ضمن الأعمال الكاملة، منشورات دار ابن رشد، بيروت، 1980.
(5) Dictionnaire de critique littéraire, J. G-Tamine, M. C. Hubert, Editions Cérès, Tunis, 1998, P: 198.
(6) أنت منذ اليوم، مرجع سابق، ص43-44.
(7) المرجع نفسه، ص44.
(8) Dictionnaire de critique littéraire, Op. Cit, P: 177-178.
(9) مورفولوجية الخرافة، فلاديمير بروب، ترجمة وتقديم إبراهيم الخطيب، منشورات الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط1، 1986، ص35، «إننا نفهم من الوظيفة فعل شخصية قد حدد من وجهة نظر دلالته في سيرورة الحبكة». انظر كذلك: ص39.
(10) أنت منذ اليوم، المرجع السابق، ص47.
(11) المرجع نفسه، ص58.
(12) نفسه، ص58.
(13) نفسه، ص43.
(14) رجال في الشمس، غسان كنفاني، منشورات دار الرمال، ط1، 2013.
(15) نفسه، ص108-109.د
(16) الأعمال الأدبية، رسمي أبو علي، منشورات دار مجدلاوي، عمّان-الأردن، ط1، 2008، ص499.
(17) أنت منذ اليوم، المرجع السابق، ص14.
(18) المرجع نفسه، ص51-52.
(19) المرجع نفسه، ص27-28.
(20) المرجع نفسه، ص34.
(21) المرجع نفسه، ص34.
(22) المرجع نفسه، ص16.
(23) الأعمال الأدبية، رسمي أبو علي، مرجع سابق، ص497.
(24) أنت منذ اليوم، المرجع السابق، ص44.
(25) المرجع نفسه، ص49.
(26) نفسه، ص43.


«أنت منذ اليوم» لتيسير سبول:
«إبِستيميّة» الخروج

يوسف رزوقة *

 

حدّث تيسير سبول، قال: تمّت الرحلة والقمةُ لاحت..
ما الذي يعنيه تيسير سبول في روايته اليتيمة «أنت منذ اليوم»؟
هل يعني ضمن ما يعنيه إبِستيمية العزلة قطعاً معرفياً ووجودياً مع السائد والموروث؟ ما السائد والموروث إلّا الأب في سلطته القامعة، الرادعة، المانعة. السائد والموروث أصلُ الجرح في الثائر تيسير سبول، وهو في ثورته لم ينجُ من كلّابتي «سلطعون» الوعي فيه: وعيه الجارف بالوضع ولكن أيّ وضع؟ وضعه في الأمة-الأم تعاني، وهي قيد القيد، ذلَّ الاحتلال الهمجي، في غيابٍ فادح للطرف المعني بالرد وبالحد من استهدافه أرضاً وشعباً.
في تمادي «عربي»، البطل المعضل، في غربته، يشكو أذى منفاه، إِرهاص بمشروع انسحاق العرب. الأمة في غمّة: ذلك ما زلزل تيسير سبول وهو يستيقظ كي يوقظ بالرمز الإشاري ضميراً عربياً.. قالها في سرده الموحي، بعنوان كهذا: «أنتَ منذ اليوم! « عنوان يشي بالشيء في مضمونه: لحظةَ فصل وضميراً هادفاً، مستهدفاً، يشقى بما أُوتي من وعي عظيم.
«عربي» يرفض الواقع بالسخرية الحنظل، أي بالضحك المرّ..
ولا يرضى بوضع المنحني منكسراً.. زلزله الوضع الحزيراني في عام 1967.. وضْعٌ خلخلَ الثابت فيه..
أنت منذ اليوم، ذاك اليوم تيسير سبول = أنت منذ اليوم، هذا اليوم تيسير سبول: بين الـ 1967 والـ 2020، تيسير سبول هو تيسير سبول بـ «صياح الديك» فيه.. وعلى علّاتها، ظلت أماني «عربي» أو «أماني العربي»، لم تدر طاحونة الحلم كما ينتظر الحالم منها.. لم تدر إلا على جعجعة يسمعها السامع طحناً وهي في واقعها جعجعة لا غير.. ظلت دار لقمان على علّاتها، ملعب ريح.. ظلت الثورة ثوراً عربياً ليس يُرجى حَلْبه أو جرُّه وهو خَصِيّ للنِّطاح..
ذاك ما أجّج في لا وعي تيسير سبول حممَ البركان.. حتى إنه لم يرَ إلّا ما يراه الحالم الثائر في رؤياه: أن يفعل شيئاً عوضاً عن شعبه النائم مغلوباً على الأمر الذي من شأنه أن يقلب الضعف انتصاراً.
صيحة الديك و/ أو منتهى الوعي
حكى حمدان غرايبة، أحد مجايلي تيسير سبول، قال: «نجوت في حزيران 1967 من الموت، ولكني لم أنجُ من الحزن والقهر والهزيمة. كنت صغيراً لأتحمل هزيمة كبيرة ومدوية وأنا الحالم بتحرير فلسطين..كنت أحلم بتحرير فلسطين واسترداد نصفها الأول فأصبحت مثقلاً بإضاعة النصف الثاني منها. واكتنفني شعور بأنني المسؤول الأول والأخير عن هذا الضياع…كان كل ما أسمعه وأقرؤه يزيدني حزناً وكآبة: أغاني أم كلثوم، التحليلات البائسة عن الهزيمة والنصر، كل شيء أصبح مغشوشاً. كنت شاهد عيان، فقد تلقفتها وكأنها منقذي من الضلال».
«سرت إشاعة بين الشباب في المقهى أن المواطن (عربي) يكتب رواية، فأتى بعض عرفائهم ووقفوا على (عربي) وسألوه عن صحة هذه الأقاويل. خجل قليلاً وأكد أنه يكتب شيئاً غامضاً لا يدري ماذا يسميه. فحققوا معه حول السبب الذي يدعوه لكتابة هذا الشيء ما دام غامضاً. قال: أكتبه لأنه يزعجني» (من رواية «أنت منذ اليوم»).
«إذن -يضيف حمدان غرايبة- نحن أمام عمل أدبي قال كاتبه بأنه ليس رواية، وإنما كتب عن شيء أزعجه. ولكن هذا العمل فاز بجائزة عام 1968.كما أن هذا الشيء الذي أزعجه هو الذي كاد يدمرني، وكان للراحل تيسير سبول الفضل في إخراجي من هذه الحالة، فأنا مدين له. لكوني الآن أتحدث عن روايته».
شهادة كاتب-قارئ (حمدان غرايبة حافّة بميلاد رواية (أنت منذ اليوم) ينكرها مؤلفها (تيسير سبول، فلا يخلع عليها صفة الرواية وإن جاءت مستوفية لمقومات العمل الروائي، وهو بذلك لا يُنكر عليها، في قرارة نفسه، صفتها، وإنما يلوِّح ضمناً وتواضعأ بمدى جدارتها وهي (الرواية) التي أرادها على غير منوال مجايليه، إن وُجدوا..
أنت منذ اليوم» باكورة سردية ناطقة باسم مرحلة مفصلية، عكست عصراً في أزمته، ووعياً جمعياً كاللاوعي في تشظّيه إزاء فعل احتلالي، داهم رصدَهُ تيسير سبول سرداً، رصداً بانورامياً و/ أو ميدانياً بعين ناقدة ثلاثية الأبعاد، تصف ولا تقف، فلا خط أحمر يثني المؤلف عن تشخيص ما يجري، وما يجري في الرواية وخارجها شيء شائك بله شائن، مُخْزٍ ولا يرقى، فعلاً، في كفتي ميزان القوى، إلى ندّيّة وازنة بين مهيمِن غاشم ومهيمَن عليه، لا يُعتدُّ بقوته..
من هنا، جرح تيسير سبول.. جرح بلا ضفاف.. فضلاً عن وعي جارف يعذبه وهو في حرية، حدَّ البكاء: «الحرية هي أن تكون خارج الخوف، وأن الخوف هو الحرام…لم أكُ غاضباً أصرخ، ولكني كنت ذليلاً أبكي»، ليسأل نفسه وهو في واقع غير الواقع، السؤالَ التالي: كيف له أن «يحمل وشم دولة عظمى» وهو يرزح تحت ثقل الهزيمة الطاغي وكأنه «يرشّ على الموت سكّراً».
إزاء يأسٍ كاسر كالذي يكابده، لم يرَ ما يشي بصلاح حال الأمة.. و»لم يصْحُ أيّ ديك في العالم»، فلم يجد تيسير سبول وهو يتماهى مع «عربي» بطله المعضل، إلا السخرية من واقع لا يسرّ إلّا عدوّاً.
في سرده، تلويحٌ بلوائح لومٍ لأناه ضميراً جمعياً.. وما (عربي) إلا صورته منظورٌ إليها من تحت ومن فوق:
«عبثاً فتّش (عربي) عن حبة فستق جيدة، فلم يجدها في الصحن كله. كان الفستق معفناً»، ليضيف -محبطاً أو كالمحبط-: «عندما طلبت عائشة غزالاً بدل البقرة، أكد لها (عربي) أن المصنع لا يتنج إلا بقراً». ولا يملك في خاتمة التطواف إلا إدانة شعبه.. شعب طاعن في حزنه حد الغرق.. ليسأله وهو منه وفيه، مستنهضاً، وعلى نحوٍ شكسبيريّ، لافت: «شعبٌ نحن أم حشية قشّ يتدرب عليها هواة الملاكمة منذ هولاكو حتى هذا الجنرال الأخير؟».
«أنت منذ اليوم»: رواية الجرح المفتوح، كتبها تيسير سبول بحرفية الروائي، على بخْسِه إياها، غمزاً.. لم يشوش عليه الشعر، وهو الشاعر أصلاً، متعةَ السرد ومسوغاته.. بالتوازي، عاش طقسه الشعري، في «أحزان صحراوية» (مجموعته الشعرية الوحيدة، نُشرت بعد رحيله) على حدّة، وطقسه السردي في «أنت منذ اليوم» على حدة.. عاشهما دون خلط بينهما.. خلط قد يذهب بصفاء النوع الأدبي لكليهما والقائم عادة بخصوصيات كل جنس على حدة.
الشعر لدى تيسير سبول حالة وتداعيات، بينما الرواية آلة بمجمل ميكانيزماتها: سرداً، حواراً، وصفاً، تحليلاً، واستنطاقاً لشخوص ولأقنعة، وتغذية مرتدّة على أن يصار إلى صياغة كلّ ذلك بما يكون به النسيجُ رواية. وهذا ما خبره تيسير سبول، باكراً.. خبره وأبدع فيه ليكتب رواية كالتي نحن بصددها، كتبها بعبقرية العارف بمجاهلها ومفاتيحها… وكان يمكن، لولا الغمط النقدي، أن يُحتفى به في زمانه، احتفاءَ النقاد بنظيره الطيب صالح الذي جاء بعده وعدّه رجاء النقاش «عبقريّ الرواية العربية».
مرايا متعاكسة
فضلاً عن «الديالوغ» المبثوث في تلافيف «بَيْضَة الديك» (روايته هذه)، وفضلاً عن تقنية الاستدعاء والالتفات فيها، يبدو تيسير سبول في «أنت منذ اليوم» كلفاً برصد التفاصيل الصغيرة بعين ناقدة، واصفة، بأسلوب برقيّ لا يشوبه ثقل، وبلغة سهلة، موحية ومكثفة.
من مناخات الرواية، هذه النُّبذ الدالّة: «الحقيبة بارزة من تحت السرير. سطحها مغبَرّ. الخزانة الصغيرة مفتوحة. وعلى حافة بابها بنطال يتدلى. الغبار متوافر على الأرض».. أو قوله: «غادر غرفته هابطاً المدينة. التقى بالأضواء والحركة. لكنه ظل هناك بعيداً. وراء الزجاج رجل سمين يشتري كنافة. شابان يشتمان فيلماً. امرأة غير جميلة تعبر الشارع. إلى أين تمضي؟».
حدّثت نهال عقيل، قالت: «ستظل (أنت منذ اليوم) فتحاً روائياً عظيماً في الرواية الأردنية والعربية».
بورتريه
الطَّفِيليّ (نسبة إلى بلدة الطفيلة جنوب الأردن) الذي لم ينتحِرْ إلا ليَحيَا، لم يكن ينوي انتحاراً كالذي أنهى به شبهَ وجودٍ هو في مضمونه كاللا وجود..
الطَّفِيليّ الروائيّ أو الشاعرُ تيسير سبول..
كان في حُسْبانه أن يخرج الأمة من غمّتها بالشعر أو بالسرد أو حتى بتسليط عصا موسى على البحر وما جاوره..
من أجل ماذا؟ سأل الراعي وأجرى الرِّيقَ في النَّاي فناحَتْ صخرة داخله حتى تلاشت..
كان في حُسْبانه ما كان من خُسْرانه: هل خسر الحرب؟
حزيناً كان حتى إنه فكّر فعلاً مَع مَن فكّرَ في «جمعية للفرح».
الفكرة لم تنضج ولم تمهله كي ينهض «ضدّ الحزن» إنساناً ككل الناس، تستقبله زوجته «مَيّ»، «عُتبة» الابن، و»صَبا» البنت، وأشياء المكان..
رأسه مالت كثيراً تحت عبء الفكرة الأم وما فكرته الأم؟ – النجاة.
ذلك اليوم، خلا المنزل من زوجته.. منه: أباً جِدًّا لطفلين جميلين، فماذا سيكونون إذا عادوا فلم يلقوه حيّاً؟
ذلك اليوم، خلا الجَوُّ له وهو إلى مشروبه. -لا بد من اللوتس للنسيان!-، مستعمرة النحل تغلي في فيافي نفسه، في رأسه الملأى طنيناً ودوياً: العرب – النكسة: هل من مخرج؟ هل من خلاص؟ أيّ جدوى من وجود عربي مفرَغ من أيّ معنى؟
ماياكوفسكي، أينه لحظتها تحديداً فيه؟
كان يا ما كان: تيسير سبول.. كان في حالة حلم.. حلم أن تنتصر الأمة في وحدتها لكنها ما انتصرت. من هنا، كان عذاب المنتمي فيه ومن غربته في وطن كان وما عاد، رأى نجمته في طور الأفول..
طَلْقة واحدة أنهته.. أنهته حياةً، وانتهى الأمر ويبقى اللغز: مَن زين للشاعر تيسير سبول مثل هذا الانتحار؟
والجواب في قصيدٍ لم يعنونه، تداعى فيه، قال:
«أنا يا صديقي
أسيرُ مع الوهم، أدري
أُيَمّمُ نحو تخوم النهاية
نبيّاً غريبَ الملامح أمضي
إلى غيرِ غاية
سأسقطُ، لا بدّ، يملأ جوفي الظلامْ
نبيّاً قتيلاً، وما فاهَ بعدُ بآية
وأنت صديقي، وأعلمُ… لكن
قد اختلفت بي طريقي
سأسقط، لا بدّ، أسقطُ..
يملأ جوفي الظلامْ
عذيرك، بعدُ، إذا ما التقينا
بذاتِ منامْ
تفيقُ الغداةَ، وتنسى
لكَمْ أنتَ تنسى
عليكَ السلامْ».
* وبعد؟
يفلسف تيسير سبول خاتمة مطافه في «أحزان صحراوية» بالتالي:
«واخيبةَ المسار!
ألِلُذباب منتهى المطاف..
يقتات ذوبَ مهجتي..
وتسألين: لِمَ أنا حزين؟».

* هو منذ اليوم: حياة أخرى..
تيسير سبول ( 1973-1939) الطَّفِيلة – الأردن
حدّث جعفر العقيلي، قال: 15 نوفمبر، يومٌ بوَقْعٍ مختلف لأولئك الذين عرفوا تيسير سبول، إنساناً وأديباً. ففيه قرّر الروائي الشاب أن يضع فاصلةً منقوطة في منتصف السطر ويمضي. أطلق على نفسه رصاصة تكفّلت بإنهاء أنفاسه، لكنه ظل عصيّاً على النسيان..


تيسير..
أبي

صَبا تيسير سبول *

 

نحن ميتون على قيد الحياة..
أيها الحيّ على قيد الخلود
لو لم تكن أبي لتمنّيتُ أن تكون..
فسلامٌ عليك يوم وُلدتَ ويومَ شقيتَ ويوم كتبتَ على نفسك الموتَ دون غياب..

***
كلّ فتاة بأبيها معجبة.. هل تنطبق هذه المقولة عليّ؟ أنا التي يخلو ألبوم صوري من صورة لطفلة تعانق أباها بحب وترمقه بإعجاب.. هل غيابُك من الصورة منعكَ أن تكون لي السندَ والجدار، وأنت الجدارُ لكل شابٍّ يحمل في قلبه وطناً ولا يحمله ذاك الوطنُ.. أوَليس ما ينقصنا أحياناً هو تماماً ما يجعلنا مختلفين، جميلين وأقوياء!
تيسير هو الأب في الذاكرة، وفي الصور التي تسكن أغلفةَ الكتب وترافق المقالات، وفي الكلمات التي تحمل فكره وروحه، التي تروي عنه وعلى لسانه فصلاً قصيراً مكثفاً من رواية لا تحتمل إلا نهاية واحدة، اختار أن يكتبها بدمه لتبقى في ذاكرة مَن بعده.
كان الوضع العربي بالنسبة لتيسير أحجية، ظاهرها بسيط وقابل للفهم، وباطنها لا يمكن إدراكه ولا الرهان عليه. وطبيعة تيسير المنحازة كلياً إلى المشروع القومي وفكرة الوطن، والرهان على اليقظة والصحوة العربية، قادته إلى المقامرة بكل ما يملك من قلب وروح وفكر وشاعريّة على ذلك المشروع.. وعندما شهد انهيار المشروع أدرك بفطنته أن الانهيار ليس مرحلياً فخسرَ الرهان، ووجد نفسه غريباً وسط الجموع التي تتغاضى عن خراب متكامل، وتفتعل كل شيء لترسم من الوهم رموزاً وأحزاباً وعلاقات.. لم تستطع روحه الشفيفة تحمُّل الحقيقة، ولم يجد الطريقة لتغييرها أو تجميلها، وأصبح الحملُ أثقلَ من أن يحمله قلب الشاعر، فاختار الانسحاب الدامي على أن يعيش السقوط.
غادرَنا بكل فجاجة، ليس لأنه غاضب منا، بل لأنه يائس وحزين. انزوى في غرفته ذلك اليومَ المشؤوم واتخذ قراره بالابتعاد..
سكن تيسير، ولكنه لم يصمت، فما زال صوته عالياً تشجَن به حارات دمشق والطفيلة وعمّان وأركان البيوت، كل البيوت التي سكنها ومرّ بها. وصورته ما زالت تسكن عيون الأصدقاء فلا يغيب. وإن كان لا بدّ من موت فلا بد من استثناء في الغياب..
تيسير؛ كم نحن بحاجة لك الآن، وفي وقت مضى، وفي الوقت الذي سيمضي، أنا وباقي الأبناء..


الخروج
من اللعبة

غالب هلسا *

 

تبدأ رواية كامو «الغريب» هكذا:
«اليوم ماتت أمي، أو ربما ماتت الأمس، لا أدري، تلقيت برقية من مأوى العجزة تقول:
توفيت والدتك، الدفن غداً، لك أصدق مشاعر الأسى. ومثل هذا القول لا يدل على شيء، ربما حصلت الوفاة يوم أمس».
وعندما استأذن «ميرسو» رب عمله للحصول على إجازة لمدة يومين، تصور أن رب العمل «لم يكن بادي الرضا»، فأردف «ميرسو»: «ليست تلك غلطتي!». وعندما سُئل في المحكمة عن سبب قتله البدويَّ، قال إن ذلك يعود لضوء الشمس المنعكس على خنجر البدوي، ثم انعكس على عينيه.
كيف نصف رؤية «غريب» كامو للعالم من حوله؟
نقول إنها رؤية تلغي المنظور، أو البعد الثالث، من الواقعة الاجتماعية، فتصبح ذات بعدين، أي مجرد صورة بصرية غير محالة إلى عمقها الاجتماعي، إلى بُعد التقاليد والقيم والمفاهيم التي صاغت العلاقات بين البشر وأقامت المؤسسات (العائلة، الدولة، القانون.. إلخ) التي تشكل بمجموعها الرؤية الكلية للذات وللمجتمع.
لذلك يعيش «ميرسو» حالة (العبثي-المضحك)، وأعتقد أن كلمة (absurd) التي تترجَم إلى العربية بـ «العبثية» فقط، تعني الكلمتين معاً. ويرى كامو أن هذه الحالة التي يخرج بها الإنسان من القيم والمواضعات ليصبح فيها كل شيء بلا معنى، يصبح –هذا الإنسان– أمام خيارين: الانتحار أو الالتزام.
ومع كل أسف، فقد اختار تيسير سبول الانتحار. قد يعود ذلك إلى كون افتقاده للمعنى لم يكن ينبع من الذات، بل من الظرف المحيط به، كان يريد لشعبه الكبير أن يتب،ع أو حتى يطيع، صورة رسمها له في ذهنه. وعندما سار الواقع في مسارب غير متوقعة اعتبر ذلك نهاية العالم، وضياع المعنى منه إلى الأبد، وبذلك فقدنا موهبة كانت تَعِدُ بالكثير.
* * *
سيقتصر حديثي على رواية تيسير سبول الوحيدة «أنت منذ اليوم»، وسوف ندرس تقنية هذه الرواية الصغيرة المهمة.
الرواية عبارة عن لوحات قصيرة متتالية، لا يربطها زمن واحد، أو مكان واحد، تواليها يأخذ شكل المعلقة الجاهلية حيث يتم الترابط بين الأجزاء خلال التداعي، فتثير كلُّ صورة أخرى ترتبط بها لا عبر الزمان والمكان الواحد، بل عبر الذاكرة الخاصة بالشاعر.
يعني هذا أنها لا تلتزم مفهوم أرسطو عن الوحدة العضوية، التي تحتوي في داخلها وحدة الزمان والمكان والحدث. والرواية، بهذا، من الأعمال الأدبية القليلة التي تشكل خروجاً عن نمط الكتابة العربي السائد.
وللتداعي بين المشاهد دينامية خاصة، ما يُعاش في اللحظة، ما هو عياني ومباشر، يستدعي ذكرى قديمة. أي أن الوعي لا يجيء على مستوى واحد، فهو الحاضر، وهو التاريخ. والرابط بين المستويين عند تيسير، ينبثق من عنصرين: المفارقة والانفعال، فالعياني والمباشر قد يستدعي نقيضه في الصورة، كما يستدعي انفعالاً مشابهاً.
يعني هذا أننا أمام عمل أدبي يعتمد اللحظة الحية، المعاشة عبر تداعياتها التي تنفتح أمامنا على أكثر من مستوى.
ولا تقتصر هذه الدينامية؛ دينامية التداعي، على العلاقة بين المشاهد، بل تقوم أيضاً داخل المشهد نفسه، وعلينا أن نتأمل هذه التقنية جيداً، لأنها أهم ما قدّم تيسير سبول في تاريخ إبداعه الموجز والواعد.
لنورد مثالاً يسهّل علينا الحديث عن هذه التقنية، أو ربما كان علينا أن نستعمل مصطلح «الدينامية»:
كان على الراوي أن يسكن مع شاب غريب الأطوار في حجرة على السطح في فندق.
«صعدنا الدرج، وقدّمني إلى المجنون: أسمر، أصلع الرأس مع أنه شاب.
(الأخ من أين؟)، سألني. أجبت: (أنا بدوي).
فَهَشّ مرحّباً:
– الله يحييكم البدو، فيكم أصالة.
شكرته، وأخبرته أن الأصالة معدومة لدينا كما لدى غيرنا، وفهم أنني أتواضع فحسب».
المؤلف، هنا لا يتقمص الراوي، فالراوي جزء من اللحظة المعاشة، والمؤلف يستشرف الموقف كله. رغم هذا، فهنالك السخرية من الذات التي يستعملها الكاتب كثيراً، وهذا نادر، بل شديد الندرة في الرواية العربية. الروائي العربي، في العادة، يلجأ لتبرير الذات، وتزيينها عندما يختار شخصية أو شخوصاً ناطقين باسمه، أي أنه لا يستشرف اللحظة أو الموقف، ولكنه يغرق فيه.
هنالك عبارة بالغة الأهمية في هذا المجال لـ «غاستون باشلار»، يقول فيه إن المبدع الحقيقي هو ذاك القادر على أن يسْخر من ذاته، لأن ذلك يعني، أولاً، التجاوز. إن السخرية من الذات هي القدرة على محاسبة الذات بتجرد وموضوعية، وسمة الأدب العظيم هي الموضوعية، ولا أدل عليها من أن يسخر الإنسان من نفسه.
دعونا نقرأ هذه الفقرة:
«قال –أي الراوي– للرفاق إنهم عانوا من نقص الكراسات العقائدية هناك وإنه يعترف بنقص ثقافته ويريد المزيد فطمأنوه وامتدحوا رغبته».
علينا أن نلاحظ أن الجملة خالية من النقاط والفواصل، وأن الأخيرة قد استُبدلت بها واو العطف. إنها بهذا تخرج من أسلوب الكتابة الأدبية وإيقاعها، وتتبنى أسلوب الكلام اليومي وإيقاعه. إن للسخرية من الذات ومن الآخرين، إيقاعاً داخلياً، يكشف عن رغبة في استجداء المديح، وقد تحققت هذه الرغبة: «فطمأنوه وامتدحوا رغبته».
أسلوب السخرية هذا يبلغ أحياناً مستوى جارحاً عندما يستعمل المؤلف فنية أخرى، ابتكرها، رغم أن «جون دوسبا سوس» قد سبقه إليها، لكنني متيقن من أنه لم يقرأ «دوسبا سوس».
يصف الحال بعد انفكاك الوحدة بين مصر وسوريا:
«ففرح بعض الشعب وابتأس بعض الشعب، وصمت كثيرون، غير أن المذيع طالب الناس ألاّ يحزنوا، ووعد بوحدة صحيحة تقوم بين كل العرب.
إلا أن هناك من لم يُصدّق، فبكى ما استطاع البكاء، ووُجد أفراد لزموا الفراش مرضاً، ثم أبلوا بعد يوم أو اثنين..».
السخرية هنا، تتولد من وضع سياق في القول بدلاً من سياق آخر. إن عبارة «وُوجد أفراد لزموا الفراش مرضاً، ثم أبلوا بعد يوم أو اثنين» ذات نكهة جسدية خالصة، واستعمالها يكون في العادة لإنسان أرهقه العمل، أو أصيب بالزكام، فلزم الفراش يوماً أو اثنين حتى يستريح أو يشفى.
هكذا، فإن إحالة مشاعر وطنية وقومية، إلى حالة جسدية خالصة، يجعل هذه المشاعر مضحكة إلى الحد الأقصى. يشبه ذلك أن نقول عن إنسان إنه كان شجاعاً، سميناً. إن اقتران الصفتين، المعنوية والمادية، يجعل وصفنا له مضحكاً.
نجد الشيء نفسه في فقرة أخرى:
«كفّ خطيب مسجد الجامعة عن مهاجمة الاشتراكيين والملحدين وكرّس خطبه لمهاجمة ملابس النساء القصيرة، وأمور أخرى تخصصية».
ان الانتقال من مسألة مهمة إلى مسألة تافهة وفي جملة واحدة، يجعل هذا الانتقال مضحكاً. هذا أولاً. والوسيلة الثانية التي يلجأ إليها الكاتب، هي تحويل الحديث المباشر إلى قول غير مباشر.. مثال ذلك قوله:
«غير أن المذيع طالب الناس ألاّ يحزنوا، ووعد بوحدة صحيحة تقوم بين كل العرب».. ثم يضيف: «إلا أن هناك من لم يصدّق فبكى ما استطاع البكاء».
المذيع، هنا، يُصدر أوامر لا يمكن أن تطاع، فطالب الناس ألا يحزنوا، وكأن الحزن يأتي بأمر، وينتهي بأمر مضاد. إن ذلك يشبه الملك الذي كان يحكم كوكباً صغيراً جداً لا يتسع لغيره في رواية «الأمير الصغير» لـ «أنطوان دو سانت-إكزوبيري»، فعندما تثاءب الأمير الصغير «أمره» الملك ألا يتثاءب، وعندما قال له الأمير الصغير إنه لا يستطيع الامتناع عن التثاؤب، أصدر الملك أمره بأن يتثاءب، فقال الأمير إنه لا يستطيع ذلك أيضاً، فجاء الأمر الملكي: «تثاءب أحياناً».
كما أن المذيع يَعِدُ بما لم يكن قادراً على تحقيقه، وذلك بقيام وحدة صحيحة بين كل العرب. إنه يضحك في أوامره ووعوده، كما أن استجابة المستمعين كانت أشد إضحاكاً، فبدلاً من اكتشاف حماقة المذيع استجابوا بحماقة أشد، فكل منهم بكى «ما استطاع البكاء».
عندما نتأمل هذه الفقرة جيداً، نكتشف أن حماقة المذيع اتضحت لنا بسبب استعمال أسلوب القول غير المباشر. يكفي أن نعيدها إلى أصلها، أي نقل خطاب المذيع كما قاله، حتى يتضح لنا أنه فقدَ طابعه المضحك، وأصبح مجرد مادة إعلامية عادية لا تثير سخرية. هنا تكمن أهمية هذه التقنية-الاكتشاف، بجدتها في الأدب العربي، وفي قدرتها على التعبير عن موقف يثير الاستنكار.
إن كل خطاب يفترض مستمعاً، كما يقول «باختين»، أي أن القول لا يكتمل إلا بأخذ هذا الافتراض في الاعتبار، فما الذي فعله المؤلف؟ لقد ألغى هذا الافتراض، فبدا الخطاب مجانياً.

* * *
ربما كانت أهم هذه التقنيات وأكثرها كشفاً لموهبة المؤلف، هي تلك التي يستعملها في إقامة العلاقات بين المفردات التي تشكل المشهد. إن تلك المفردات تحال لا إلى بناء ذهني، ولا إلى الحبكة التي تقوم عليها الرواية، بل إلى رد الفعل الأول والمباشر: «ورغم أنني سمعت دائماً من يتحدث عن صفرة الوجوه الخائفة، لم يحدث أن رأيت وجهاً صغيراً كهذا مصفراً تماماً كقشرة ليمونة دون رداء القشرة».
كان يتحدث عن امرأة عجوز تحاول أن تعبر الجسر الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية إلى الضفة الأخرى.
المؤلف، هنا، يقيم علاقة بين الذاكرة وبين الواقعة العيانية: صفرة الوجه الخائف، كما ترسخ في الذاكرة، وهذا الوجه الأصفر الصغير. إن لهذه العلاقة التي يقيمها المؤلف وظيفة أبستمولوجية (معرفية) محددة، فكل الأفكار المسبقة تحال إلى واقع محدد ليتم تأكيدها أو نفيها. إن قصاصاً مثل يوسف إدريس، مثلاً، يحاول دائماً أن يحطم قبْلِيّاتنا، أي أفكارنا الثابتة عن العالم، فالسفاح الرهيب في رواية «الغريب» نراه ينتحب لأن زوجته تخونه، ونشهد القاضي الوقور في «قاع المدينة» وقد تحول إلى مراهق يختلس النظرات إلى فخذَي الخادمة وهي تمسح البلاط.
هذه وظيفة أبستمولوجية، لأنها تكشف أن المعرفة ليست معلومات يُحشى بها الذهن، بل هي اقتراب تدريجي نحو الحقيقة، من خلال تحطيم أطر معرفية قديمة، انسلخت عن معطياتها الواقعية، واستبدال أطر جديدة انبثقت من الواقع لتوّها بها، وبعيارة أخرى إن المعرفة عملية متصلة تستمر إلى ما لا نهاية.
سوف نأتي بمثال آخر، يكشف زاوية جديدة من هذه التقنية التي تحكم العلاقات بين مفردات المشهد:
«على المصلّبات ترتفع لافتات الدعاية الانتخابية.
– صوت الإسلام تحت قبة البرلمان، انتخبوا..
– إليكم مرشح العمال والفلاحين، ممثل الكادحين..
– من أجل القضاء على الاستعمار والصهيونية، انتخبوا..
رأيت ملابس النساء في الفترينات، ألوانها عديدة وكلها معروضة بشكل خلاب».
إننا، هنا، أمام انطباعات أولى: اللافتات وملابس النساء، حاسة البصر أقامت العلاقة بين الاثنتين، يضاف إليها التشابه في الدعاية الصاخبة للمرشحين، والعرض الصاخب والحسي لملابس المرأة، وكذلك المبالغة في الاستعراض.
تستمر الفقرة هكذا:
«ورأيت مزيداً من اللافتات..
– من أجل حياة برلمانية ديمقراطية سليمة انتخبوا..
وتذكرت عائشة. لقد أضعتها إلى الأبد».
هنا أيضاً يتبع المؤلف توارد أفكاره، فضياع الحياة البرلمانية ذكّره بضياع عائشة.
نرى ذلك في حديث الشاب غريب الأطوار:
«شرح لي أن الزعيم لم يجبن، ولم ترتجف خلجة واحدة فيه حين واجه الموت، وأفاد في أن الزعيم أُعدم نصفَ واقف على ركبتيه، فدهشتُ، وكنت أعتقد انهم يُعدَمون واقفين».
ألا تذكّرنا هذه الاستجابة باستجابة «ميرسو» في رواية «الغريب»، حين أهمل المسألة الأساسية وهي موت أمه، وصرف انتباهه إلى اليوم الذي ماتت فيه، فهو يعلّق على البرقية التي تحمل نبأ وفاتها بقوله: ومثل هذا القول لا يدل على شيء، فلربما حصلت الوفاة يوم أمس».
فما دلالة هذا الانحراف عن الموضوع الأساسي؟
في السيرة الذاتية لـ «غوركي»، يشهد الطفل دفن والده. يراهم يهيلون التراب في القبر المفتوح، فيأخذ في البكاء، وعندما يسألونه عن السبب يقول إنه يبكي لأنهم جرفوا الضفدعة مع التراب، فدفنوها، فأنّبته جدته وقالت إن عليه أن يبكي لموت أبيه، لا لموت الضفدعة.
الطفل، هنا، هو صوتنا الداخلي والحقيقي، لأنه يدلنا على الارتباط الواقعي لتداعياتنا. إن الضرورة التي تحتّم الارتباط بين موت الزعيم والإعجاب بشجاعته، وبين معرفة «ميرسو» بموت أمه والتفجع عليها، وبين موت الأب وبكاء الطفل، هي عملية خداع، يتم فيها إخضاع تداعيات تلقائية للقفص الحديدي للمواضعة الاجتماعية. عبر هذه المواضعة يصبح ما يحدث واجبَ الحدوث، أي أننا نلغي تلقائية الحياة، لمصلحة القيم الاجتماعية الصارمة.
هكذا يصبح السؤال المطروح: هل يعبّر الأدب عن التجربة كما عشناها، أم هل تتم مصادرتها خضوعاً للطقوس الاجتماعية؟
إن تهمة «ميرسو» بقتل البدوي تجد رافداً لها في ملاحظات مدير مأوى العجزة حول سلوك «ميرسو» في جنازة أمه:
«ورداً على سؤال آخر، قال إنه فوجئ بهدوئي، يوم دفْن والدتي، ولقد سُئل عما يعنيه بقوله (هدوء)، فنظر المدير إلى طرف حذائه، وقال إني لم أُبْدِ الرغبة في مشاهدة أمي، ولم أبكِ ولو مرة واحدة عليها، وإنني ذهبت فوراً إثر دفنها دون أن أنحني بكل حواسي فوق قبرها..
وقال إن شيئاً آخر فاجأه أيضاً: فقد ذكرَ له أحد مستخدمي مراسم الجنازة، أنني كنت أجهل كم تبلغ أمي من العمر..».
وتستمر هذه الاتهامات حداً جعل المحامي يتساءل:
«أخيراً، نريد أن نعرف ما إذا كانت التهمة الموجهة إلى موكلي هي دفن أمه، أم إنه قتل رجلاً؟».
فيصرخ المدعي العام:
«نعم، إنني أتهم هذا الرجل بأنه دفن أمه بقلب مجرم».
إن خطيئة «ميرسو» الكبرى التي تم تضخيمها إلى أقصى حد، هي أنه لم يُخضع تداعياته للمواضعة الاجتماعية.
عند تيسير سبول، لا تقيم التداعيات اعتباراً للمواضعة الاجتماعية ولا للمنطق الاجتماعي الذي نطلق عليه صفة «الحس السليم». دعونا نقرأ هذه المقاطع من الرواية:
«ولاحظ عربي أن الخادمة التي يحشرونها تنام معه في الغرفة.. كانت غائبة عن حسه لفترة ثم عرّاها ورأى أن جسدها الداخلي نظيف جداً، فجاس بلذة.. ويبتئس حين يرى أن وجهها بعد أن تضع ملابسها، وسخ جداً».
«ولأن الخادمة ظلت وسخة الوجه، أحب من بعيد صبية سمراء تغدو لمدرستها كل صباح في الميعاد نفسه».
إننا أمام الانطباعات الأولى التي تخضع لتداعيات الراوي، ولا يربطها رباط منطقي، وبالتالي عقلي.
هل نستطيع أن نضع هذه الملاحظات المتفرقة في سياق مفهومي موحد؟ سنحاول ذلك..

* * *
نستطيع أن نكتشف أهمية التقنيات التي تحدّثنا عنها عندما نقيم رباطاً بينها وبين مسألتين: وظيفة الأدب وجماليته.
إحدى وظائف الأدب، وأخطرها، أنه يجعلنا نعيش تجارب حياتنا اليومية مرة أخرى، ولكن برؤية وفهم مختلفين. إن تجاربنا اليومية مستلبة، لأنها محالة دوماً إلى إطار مرجعي متكلس، فقد مضمونه الواقعي وأصبح شكلاً فارغاً، أعني به المواضعات الاجتماعية. يكفي أن نطرح على المواضعة سؤالاً منطقياً واحداً حتى ينكشف فراغ هذا الشكل الميت.
مثال ذلك أننا نوافق أن تعمل الفتاة موظفة، وقد تكون هي وأحد زملائها في حجرة واحدة مغلقة. ذلك مقبول تماماً. ولكن حين يدعوها هذا الزميل إلى شرب فنجان قهوة في مكان، فإن موافقتها تصبح فضيحة. هذا هو منطق المواضعة الاجتماعية: الخلوة مع رجل أمر مقبول، والجلوس في مكان عام، أمام مئات الأعين، شيء مستنكَر.
بهذا تصبح ردود أفعالنا، وأفكارنا وانفعالاتنا مقننة. إننا نلغي أبعادها، كلها، أو معظمها، ونقتصر على ردود الفعل التي حددتها الطقوس الاجتماعية.
من هنا تبرز أهمية الأدب. إنه يعرض تجاربنا المفرغة من الحياة والمعنى ليشحنها بطاقة معرفية هائلة، فعندما نقرأ في رواية «أنت منذ اليوم»، أن الراوي سئم الخادمة لأن وجهها يكشف عن وساخته عندما ترتدي ملابسها، فإنها –الرواية– تجردنا من مفهوم اجتماعي طبقي، وتكشف لنا رغباتنا الحقيقية.
كذلك، فإن عادات العقل الذي دفعه العرف الاجتماعي إلى الخمول، هي التي تجعلنا نقْبل خطبة المذيع الحمقاء: «لا تحزنوا فسوف أحقق لكم وحدة صحيحة»، لكننا بمجرد أن نفاجئ العقل الخامل بهذه الخطبة وقد صيغت بشكل خطاب غير مباشر حتى يكتشف هذا العقل أنه خُدع.
عندما نقرأ في هذه الرواية:
«وقال لنفسه: أحب أن أحمل وشم دولة عظيمة، أنا متأكد من هذا.
غير أن الكراسات الحزبية تضجره، لقد عرف أنها متشابهة ولا معنى لتوزيعها كل أسبوع. يسقط الاستعمار. نعم، لكن كيف؟ لم تكن الكراسات مفصلة، ولم تحمل له الاكتفاء».
عندما نقرأ هذا، فإننا ندرك أن الحزب، الذي ادّعى لنفسه تمثيل مستقبل الأمة، وأنه الشكل الملائم للمضامين الجديدة، الحاضرة والمستقبلية، قد أصبح شكلاً فارغاً، تكراراً لطقس، أي أنه أصبح إعادة إنتاج للمواضعة الاجتماعية، وآية ذلك قولٌ مبهم وتكرار. وهاتان هما سمتا الطقس الاجتماعي الذي لا يحيلك إلى واقع، بل إلى ذاته.
لذلك، كان مفهوماً أن يقدم البطل استقالته من هذا الحزب. إنه بذلك يحتج على فراغ الشكل، ويدعونا إلى الاحتجاج عليه، وبهذا تصبح الحياة عملية تجاوز مستمرة عبر الأدب. إن الإنسان من خلال الأدب، ينفتح على حقل معرفة لانهائية، وهذا ما وصفناه قبل قليل بأنه «عملية»، تمييزاً عن تكديس المعلومات.
وأدب تيسير –روايته هذه بشكل خاص– لا يكتفي بأن يعيد صياغة حياتنا اليومية بشكل جديد، لكنها تمنحنا الحرية، وعلينا أن نحدد، هنا، ما نعنيه بالحرية.. إنها تحريض لنا على حرية التداعي، إذ تتوقف تداعياتنا بالتدخل المستمر لما نسميه «الحس السليم»، والذي هو في حقيقته مجموعة من الكوابح لتداعياتنا وتفكيرنا.
عندما تطْلق هذه الرواية حرية دفع الواقعة العيانية المباشرة إلى ترابطاتها بكاملها، فإنها تحرك آلية أخرى.. إنها تدرب العقل على المضي في محاكماته حتى النهاية. إنه يفعل ذلك بعد أن يكون قد امتلأ بمضامين حية، تخلصت من عبء الأشكال المتحجرة، الكاتمة لأنفاسها.
هذا عن علاقة هذه التقنيات بوظيفة الأدب، التي حددناها بوصفها وظيفة معرفية، فماذا عن علاقاتها بالمعطى الجمالي؟
إن التفريق بين وظيفة الأدب وجماليته ليس قائماً بالفعل، لكننا نلجأ إليه لأسباب منهجية. إن العلاقة بين وظيفة الأدب وجماليته هي العلاقة بين المعرفة وأساليب توصيلها، فالمعطى الجمالي يعني بالتحديد الوسيلة التي ينقل بها المؤلف تجربته إلى المتلقي.
إن استعمال تيسير، في روايته، التقنياتِ التي ذكرناها، كان بهذا المعنى جميلاً. إن كشف الجوانب الغريبة للواقعة العيانية يسهّل ايصالها للمتلقي، فالجهاز العصبي لا يستقبل، إلا وهو نصف نائم، الخطابَ المكرور والعادي. إنه يستيقظ فقط أمام الجدة. والغرابة التي ذكرناها لا تعني غير الطبيعي والخارق، بل تعني اكتشاف الوجوه الجديدة وغير المتوقعة لحياتنا اليومية.
بكلمات أخرى، فإن جمالية هذه الرواية تكمن في طزاجتها، في كشف حقيقة أنفسنا، حقيقة نعرفها لكننا نهملها.. وهذه الطزاجة تجعل من القارئ مبدعاً..


تيسير سبول شاعراً
اللغة والرؤيا في مجموعة «أحزان صحراوية»

مها العتوم *

 

لقد كان تيسير سبول شاعرا حقيقيا، لأنه امتلك رؤيا للعالم وموقفاً منه لم يتبدل، وتظهر آثار هذه الرؤيا في شعره وفي لغته وفي حياته، وهو وإن عاش حياة قصيرة، إلا أنها اكتظت بالكتابة والمواقف التي تعبّر عن رؤاه الواضحة، وتجلي ملامح هذه الشخصية الإبداعية الإشكالية التي لم تجد حلّا لصراعها مع الذات ومع العالم إلا بالانتحار.
لقد نال سبول شهرة واسعة على المستوى العربي، وأثبت حضورا أدبيا لافتا، وحصل على جائزة مهمة في تلك المرحلة، إذ تنوعت كتاباته بين الشعر والرواية والمسرح والمقالة النقدية، وكان لديه الكثير من المشاريع التي لم يمهله العمر لإنجازها، والتي جُمع بعضها ناقصا في أعماله الكاملة بعد وفاته.
أما ديوان سبول اليتيم «أحزان صحراوية»، فإنه يحمل ملامح تجربة شعرية كانت ستكون مدهشة لو أتيح لها النضج والتوسع، وفيها علامات تدل على شاعر كبير لو تبع هذا الديوان دواوين أخرى تكمل الطريق إلى آخرها ومنتهاها. ذلك أن سبول بهذا الديوان الوحيد المتفرد أثبت موهبته الشعرية الفطرية من جهة، وثقافته واطلاعه على تجارب شعراء قصيدة التفعيلة الذين تزامنوا معه والذين سبقوه من جهة أخرى، بل أظهر اطلاعا ووعيا بالتجارب العالمية التي قدم عنها دراسات أدبية ونقدية، ولعلنا نلمس آثارا واضحة لبعض الشعراء العرب مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قباني، وآثارا أقل وضوحا لشعراء من غير العرب ممن قرأهم سبول شعريا ونقديا وتأثر بهم مثل ماياكوفسكي ولامارتين والخيّام، بالإضافة إلى ثقافته التراثية وقراءته المتنبي وأبا ذؤيب الهذلي وابن عربي شعريا ونقديا. وفي الوقت نفسه هناك صوته الخاص الذي يشق طريقه، بخبراته الخاصة، وملامحه المتميزة، وتجاربه التي تتقاطع مع تجارب الآخرين مرة، وتنقطع عنها، وتتميز عليها مرات أخرى.
ومن اللافت للنظر أن ديوان «أحزان صحراوية» فيه الكثير من خصائص قصيدة التفعيلة في نضجها واستوائها على أيدي الشعراء المؤسسين ومَن تلاهم ممن أرسوا تقاليدها وطوروها على صعيدي الشكل والمضمون، ومن أهم هذه الخصائص استخدام الأساطير والرموز الدينية والتراثية العربية والعالمية، وتوظيفها في شحن النص وتوسيع آفاقه الفنية والجمالية. ففي مطلع قصيدة «شهوة التراب» يقول سبول:
«هنا معي
يا ضلعي المقدود بين أضلعي
مفقودتي».
فالمرأة تنتمي إليه هنا، وهي جزء منه، إشارة إلى الصورة الدينية للمرأة المتكونة من ضلع الرجل، كما أنه ينتمي إليها باشتهائها، فهي التراب ومادة خلق البشر الأولى، وهما يتبادلان الخلق هنا: فهي من ضلعه، وهو من ترابها، وهي مقدسة، ولها مكانة لا أعلى منه ولا أقل: فهي معه هنا، وهو وهي متعادلان وعلى حدّ سواء. ولكنها في الوقت نفسه مفقودته، كما أنها علامة سقوطه أيضاً:
«من أجل عينيك أحب سقطتي
أحب أرضي التراب هذه
وخبزي المجبول بالعناء».
ولعل في هذا ما يشير إلى شخصية الشاعر التي تشبه شعره، وإيمانه بالعدالة، ولعله ما دفع شاعرا مرهفا مثل تيسير إلى الانتحار حين لم تتحقق العدالة المنشودة في تلك اللحظة المتأزمة من التاريخ العربي. لذلك يقول في نهاية القصيدة:
«فزهورُ الحبّ لن تنمو في روحي الجديب
أنتِ لو جئتِ سينساكِ فؤادي
تحتَ وقع السوط ينشقّ، ينادي
يتمنى حبَّ أخرى لا تُطال
لن تخليه غواياتُ المحال
وكفاني أنني سمّرتُ -لم أختر- لآلام الصليبِ
فاسمعيني، وابكي من أجلي ولكن لا تجيبي».
ولعل اختيار المسيح هنا إشارة إلى المخلّص الذي تحمّل آلام البشرية بصلبه وبجرّ صليبه، وتيسير سبول كان يحمل آلام أمته وآلام هزائمها، ويجرجر في أعماق نفسه إحساسا بالذنب جراء ذلك.
وهناك الكثير من الرموز التراثية التي يبرع الشاعر في استخدامها وتوظيفها في قصيدته، مثل شهرزاد، وقيس وليلى، بالإضافة إلى أساطير على غرار إيزيس وباندورا، وكلها تصب في الرغبة الجامحة في تغيير الواقع، والخروج عليه، والحصول على الحق العربي في الأرض وفي التاريخ، يقول:
«أضرع: يا إيزيس، يا إيزيس
يا من فضضتِ أرضنا
فتحتِ عن عطائها الحبيس
لو جُدْتِ لي بحفنتَي دموع
غسلتِ لي خطيئتي
حملتِ عن ضميري المعذّبِ
آلامه وحمأة التدنيسْ
لو جدْتِ يا إيزيسْ».
إنّ إيزيس هي الأم الكونية التي تمنح الماء والخصب، وكأنها بالإضافة إلى دورها الطبيعي في المنح والخصب والعطاء، تبكي لتغسل خطايا أبنائها البشر، وتحمل عنه آلامهم وعذاباتهم، ونجد هذه ثيمة تتمدد في كل قصائد المجموعة، وهي الحلم بالعدالة وبالخلاص الذي لا يجده الشاعر.
وفي قصيدة بعنوان «ما لم يُقَل عن شهرزاد»، يفصل سبول آلام شهرزاد بقوله:
«شهرزادي
شهرزادي يا صديقة
قيلَ ما قيلَ.. ووحدي
أنت أسررتِ إليه بالحقيقة
ألف ليلة
كلّ ليلة
حلمُكِ الأوحدُ أن تبقي لليلة
فإذا ما الديك صاحْ
معلناً للكون ميلاد صباحْ
نمتِ والموت سويّا في فراش
ألف ليلة
غاضَ في عينيكِ إيماضُ التصبّي
واستوتْ كلّ المذاقاتِ
فَمُرٌّ مثل عَذْبٍ
بعدها كانَ وما كان
صباح».
فشهرزاد تنام مع الموت على فراش واحد، مع السلطة والظلم، وكل ما تحلم به هو البقاء لليلة أخرى، والليالي الألف هي الزمن الطويل الذي يمر كأنه بلا انتهاء، ولكنها تنتصر جزئيا، وهذا النصر يسعد الشاعر، لأنه انتصار للضعيف والمظلوم، يقول:
«وعفا من بعد ألف شهريارْ
ففرحنا
في بلادي، حيث عين الطفل والشيخ سواءْ
دعوة تحيا على وعدِ انتصارْ».
فشهريار المرأة والطفل والشيخ يحلمون بالانتصار، ويَعدُّون كل ليلة تمرّ دون قتل أملا بالخلاص من الظلم والاضطهاد، والشاعر بهذا يعبّر عن الحلم الجمعي العربي بالخلاص من الظلم، والخروج من أسر الهزيمة التي يمثلها هنا شهريار الظلم القاسي، ولكنه آخر الأمر يقرّ بالحقيقة التي لا مجال لتغييرها:
«كلما دقّ على الأفق شتاء
نتسلّى بحكاياك الشجيّة
ونغنّي لانتصارٍ
لم يكن يوما ولا يرجى انتصارْ
تحت عيني شهريارْ».
فهو يعترف بالهزيمة، وهي ليست هزيمة شخصية، إنها هزيمة جمعية عربية وإنسانية يحلم بالشعر أن يغيرها ويجعل منها نصرا وأفقا وفضاء.
ومن الملامح المميزة في شعر سبول اقتناص الصورة والمشهدية التي تبدو واضحة في قصيدة «الأسرار» التي تعدّ من أهم قصائد الديوان، حيث يتصيد لحظة الشهوة والأيروسية ويقدمها بصورة فنية جمالية عالية، فالصور المكثفة، واللغة الشعرية مقطّرة ومقتصدة، ويعتمد الشاعر التكرار الفني الذي يضفي على جو القصيدة إيقاعا إضافيا وموسيقى خاصة. تبدأ القصيدة على هذا النحو :
«مقعدٌ همَّ بكتفَي منضدة
وردةٌ ألقتْ بساقٍ في الإناء
ساكن هذا المساء».
إنهما يتبادلان الحب، فهو المقعد الذي همّ بكتفَي منضدة، وهي الوردة التي ألقت بساق في الإناء، ولعل تأمُّل هاتين الصورتين الجميلتين يكشف موقف الشاعر ورؤيته، فالمقعد إزاء المنضدة، فعلاقته بها أفقية، أما الوردة فإنها تلقي بساقها في الإناء، فعلاقتها به عمودية، وهي تمضي باتجاه الأرض والثبات والرسوخ والاستمرار، وبين الصورتين المساءُ ساكن والزمنُ متوقف. إنّ القصائد المرتبطة بالمرأة/ الحبيبة تقوم على المشهدية، واقتناص اللحظة، فكأنها عرضٌ على المسرح، والزمن فيها هو زمنُ العرض، لذلك نرى الزمن يتحرك بمقدار العرض، إذ يبدأ بالسكون:
«ساكنٌ هذا المساء».
ثم يصف هذه اللحظة:
«ناعمٌ هذا المساء».
ثم:
«ضيِّقٌ هذا المساء».
وأخيرا:
«مُغْدِقٌ هذا المساء».
وبين هذه اللحظات تتحرك القصيدة وأبطالها؛ المقعد والمنضدة/ الشاعر والحبيبة، في بناء يتصاعد تدريجيا:
«تخفق الوردةُ في جوف الإناء
وإذا المقعدُ والمنضدةْ
أذْرُعٌ مشتبكة
ضيّقٌ هذا المساء».
فالمساء يتغير، والحركة بين العاشقين تتغير، والحدث يتصاعد باتجاه التمازج والتماهي بين العاشقين حتى يضيق بهما المساء، وصولا إلى نهاية القصيدة:
«قطفتْ كفّي جناها
واستقى منها فمي
غير أني بعدُ ظمآن
وتجتاح دمي».
ومن الملامح المهمة الأخرى في قصيدة سبول استخدام العاميّة في سبيل الارتقاء بها إلى مستوى الفصحى، وتفصيحها بجذب العامية إلى الفصحى، وكذلك استخدام الفصحى وجذبها إلى العامية، لجعل القصيدة تقترب من اليومي والعادي والشارع والإنسان، والتعبير عن كل هذا في الشعر. يقول الشاعر في قصيدة «مرحبا»:
«مرحباً كاذبة نُسْكِتُ فيها الناس
حتى لا يقالْ
(آه يا عيني على الأحباب
عشّاق الخيال)
وحدنا نعلم أنّا افترقنا
وانتهى ما كانَ من حبٍّ قديم
يومَ قلناها معاً:
(حبُّنا كان خرافة)».
ويحرص سبول على وضع الكلام العامّي المفصَّح بين علامتَي تنصيص. كما إنه يستخدم لغة إلقاء التحية المتداولة في الشارع، مثل (مرحبا). وفي قصيدة أخرى بعنوان «نيسان وحكمة الجدار» يحيل بالفصحى على العامية، حين يقول:
«شعارنا ما زال من قرونْ
(مع الجدار سِرْ
تكفُّ قِيلةٌ عليك)
ونحن إذ نجوع نصمت
لكي تكف شرّها العيونْ».
وبذلك تقترب القصيدة من هموم الناس وآلامهم وأحلامهم، وتعبّر عن الهامشي والمسكوت عنه وما ترفّع الشعرُ العربي القديم عن ملامسته والتعبير عنه من خلال الشعر.
إننا أمام شاعر يتجاوز زمنه، ويحمل نبوءاته الفنية والموضوعية، ويعبّر عن هواجسه الذاتية، ويلتقط الأدوات الفنية الحداثية في قصيدته، مثل ذلك في روايته الوحيدة «أنت منذ اليوم» التي تعدّ من الروايات المؤسسة لفن الرواية العربي. كذلك فإنه هنا، وبديوان صغير لا يتجاوز حجم الكف، يحمل من الفن والرؤيا ما يتجاوز الزمان، ويستحق بالخلود.

 


* الملف منقول من مجلة نزوى العمانية/ كل الشكر والتقدير لهذه الجهود القيمة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *