بين فوكو والسينما

 ثقافات

* صفاء صنكور

ترك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أثرا لا يمحى في نظرية السينما، على الرغم من هامشية علاقته بها أو عدم مساهمته المباشرة فيها.

صفاء صنكور

ولفوكو ما يمكن أن نعدّه مساهمة وحيدة في السينما، أو تماسا معها (ثمة بضعة أفلام قصيرة أخذت عن أفكاره)، وكانت في تعاونه مع المخرج رينيه أليو في انتاج فيلم عام ١٩٧٦ عن كتابه “أنا بيير ريفير الذي قتل أمه واخته وأخاه…” . وكنت قد كتبت عن هذا الفيلم في مرحلة مبكرة في تكويني؛ ونشرت مقالا عنه في زاويتي النقدية الأسبوعية التي كنت انشرها في الصحافة العراقية تحت عنوان “مقعد أمام الشاشة” في ١٢/٥/١٩٨٣ . من حسن الحظ أنني عثرت على نسخة منه في ما تبقى من نثار من أرشيفي غير المنظم. (في الصورة المرفقة). واعترف الآن بأنني لم أكن قد قرأت فوكو حينها، فما وصلنا في العربية منه حينها نثار مقالات، وبضع كتب متفرقة تذكره؛ ككتاب البنيوية لأوزياس الذي ترجمه ميخائيل مخول ونشر في سوريا عام ١٩٧٢، وكان مطاع صفدي قد شرع في نشر مقتطفات من أعماله في مركز الإنماء العربي ومجلته في إطار مشروع ترجمة أعماله الذي تم لاحقا. لذا انصب مقالي على الجانب السينمائي في العمل وعلى المخرج أليو ومعالجته السينمائية لموضوعه.

وكنت حينها قد شاهدت الفيلم في المركز الثقافي الفرنسي في بغداد، الذي أدين له بفضل كبير في تكوين ثقافتي السينمائية واطلاعي على معظم كلاسيكيات السينما الفرنسية ونتاج رموز الموجة الجديدة فيها. وكنت حينها اتلقى دروسا لتعليم اللغة الفرنسية في المركز وأواظب على حضور تلك العروض مساء في صالة المركز الصغيرة. وبقيت احتفظ بكتيبات منهاج العروض الشهرية بتعريفاتها الموجزة للأفلام( تركتها في مكتبتي حتى خروجي من بغداد قبل ضياعها). واتذكر أنني كنت وحيدا في الصالة عند عرض الفيلم (الكئيب) ولم تكن هناك سوى سيدة فرنسية عجوز (مدمنة أفلام مثلي).

عدت بعدها إلى البيت مشحونا بمشاهدة الفيلم الذي أثر فيّ كثيرا لأكتب مقالا انطباعيا عنه. طبعا لم يكن هناك انترنت لتبحث فيه عن معلومات إضافية، وكان معيني حينها بالتعرف على المخرجين الموسوعة ودليل الأفلام السنوي الذي يصدره الناقد البريطاني ليزلي هاليويل، وملاحظاتي التي سجلتها خلال العرض وبعده مباشرة. لذا انصب المقال على تجربة المشاهدة ومعالجة أليو للجريمة التي حدثت في وسط فلاحي نورماندي التي وثقها فوكو في كتابه بعد أن عثر على الاوراق التي كتبها القاتل نفسه، ووضعها كمقابل لكل السجلات الرسمية التي غيبتها سواء تلك التي خلفها الجهاز القانوني أو الطبي، وعاد أليو إلى المنطقة نفسها ليصور فيلمه مستخدما أناسها وليس ممثلين محترفين، مقدما سجلا معاصرا لما حدث.

بيد أنني عدت إلى الموضوع نفسه لاحقا في أكثر من عمود أعمدتي، التي كنت أكتبها في صفحة “الفن السابع” التي كنت أحررها لجريدة القادسية، تحت عنوان “عين الحقيقة” بدءا منتصف الثمانينيّات؛ ولكن هذه المرة بتركيز كامل على فوكو، الذي بدأت تأسرنا كتاباته التي توالت ترجماتها إلى العربية. وبعد اطلاعي على بعض البحوث التي ربطت بين فوكو والسينما والذاكرة الشعبية وانشغالي الشخصي بالبحث في نظرية الخطاب (التي كتبت لاحقا رسالتي للماجستير فيها).

كان فوكو ينظر إلى السينما بوصفها وسيلة “لإعادة تأهيل المعرفة” فهي تعدّل في علاقتنا بالماضي وفِي الطريقة نرى ونستمع فيها إلى العالم المحيط بنا، ولكن عبر شكل جمالي. ومن هنا قدرتها على أن تقدم سردا مختلفا عن رواية الخطاب المهيمن وكل ما تقدمه أجهزة السلطة الأيديولوجية. فالسينما، بنظر فوكو، يمكن أن توفر لنا فرصة أن نرى وندرك الأشكال والأفعال والحركة “وحركة الجسد البشري تحديدا” خارج حدود هذه المؤسسات.

والحقيقة أن هذا المفهوم لم يكن نتاج كتابة مباشرة من فوكو عن السينما، التي لم ينشغل فوكو بالكتابة بشكل منفصل عنها ضمن مشروعه؛ كما فعل دولوز أو رانسيير لاحقا”؛ فمقاربة فوكو للسينما جاءت من منطلق علاقتها بالتاريخ، والمعرفة؛ لذا كان عنوان أول مقابلة أجراها معه محررو مجلة “كاييه دو سينما” عام ١٩٧٤، “فيلم، تاريخ، وذاكرة شعبية”. وقد ضمت هذه المقابلة التي أعكف على نقلها للعربية الكثير من الأفكار الأساسية التي ظلت تحكم علاقة فوكو بالسينما.

فوكو لم يكتب بشكل مباشر عن السينما كما كتب عن الأدب والرسم، لكن السينما هي التي ذهبت لتنهل من نظريته، كما في هذه المقابلة وفِي المقابلة الشهيرة التي سجلها معه المخرج الألماني فيرنر شروتر ، أو فيلم المخرج أليو، والأكثر من ذلك تأثيراته الثرة في عدد ممن كتبوا في نظرية السينما التي نهلوا كثيرا من أفكاره، وربما تسنح لنا فرصة أخرى لتوضيح ذلك.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *