لا يعني اعتزال الكتابة ثمرة سوداء لفشل فادح بالضرورة، أو استيفاء يائساً لمجمل شروط تحقق عملها الشاق والمريب. لا يعني اعتزال الكتابة دائماً بلوغ الحافة أو بلوغ أرذل عمرها بالأحرى حتى قبل الأوان. لا يعني اعتزال الكتابة فقدان سحرية موهبتها وترهلا شائناً في امتلاك مقدرتها العظيمة أو قحطاً فجائعياً ألمّ ببساتين تخييلها ومباهج غرابتها. لا يعني اعتزال الكتابة بزوغ نهاية كابوسية في منعطف حاد من التجربة. لا يعني اعتزال الكتابة انتكاسة لقيمة الكاتب أو فضيحة ستقترن بوجهه كندبة لا سبيل إلى إزالتها من تاريخ اسمه…
إنما اعتزال الكتابة أيضاً، يمكن أن يكون موقفاً صارخاً من الكتابة ذاتها. يمكن أن يكون انخراطاً جسوراً في صمت يتماهى مع محوها. يتطابق مع مآلاتها البيضاء. يتناغم مع الفراغ المفزع الذي تضمره فتنة تلاشيها. يمكن أن يكون كتابة أخرى، ذات تضاعيف تقول في الغياب ما لم تستطع آلة الحضور قوله.
لا أصدق أن رامبو اعتزل كتابة الشعر، لأنه استنف] مجهوله وانتهى إلى جوهره. لا أصدق أن خوان رولفو اعتزل الكتابة، لأنه فقد المقدرة على إنجاز رواية ثانية وعلى تخييل قصص مجموعة أخرى، كما لا أصدق أن سالنجر اعتزل الكتابة، لأنه فشل في تحقيق عمل سردي يتجاوز به روايته اليتيمة الحارس في حقل الشوفان… وقس على ذلك اعتزال كتاب آخرين كفيليب روث و…
اعتزال الكتابة هنا، ليس محض قرار بالتوقف يحتكم إلى منطق سيرورة ما، مرسومة حدودها من البداية إلى النهاية. ليس محض عمل مخادع أو طريقة ماكرة تستهدف الإثارة وخلق غرابة مجانية تروم أسطرة صمت الكاتب وانصرافه من معترك الضوء أو ركح اللعبة. ليس محض سحر مغشوش لمداراة عجز المؤلف وتزييف حقيقة نهايته أو إخفاء ساعة رماده التي آن أوانها على نحو صادم. ليس محض تقاعد من مزاولة وظيفة أو مهنة. بل هو فعل غامض ينتمي إلى العلاقة الملتبسة بالكتابة في جانبها الآخر ، في حدها الأقصى المظلم، حيث تنتصب غابة الكوابيس، التي يذرعها المؤلف ويعيش يوميات صلبها القاسي.
الخروج من الكتابة إليها
ما عساه يعني اعتزال الكتابة ها هنا غير تحرير الكتابة من أوهامها. الخروج من الكتابة لا يعني الخروج من ألمها ومتعتها في آن، الخروج من الكتابة يعني السقوط في جحيم لغتها الأخرى، في هامش صمتها المرعب ، في ثقب مستقبلها الأسود.
بالتأكيد قرار اعتزال الكتابة خبر ثقيل يصدم القراء الذين ينتظرون ثمرة أخرى تتدحرج إليهم من شجرة الكاتب اللامرئية. ليس كل القراء يستقبلون الخبر المفاجئ بالأثر الصادم نفسه، بل هناك قراء ملاعين يستقبلونه بمتعة وانتشاء، هذا لأن أفق انتظارهم رسم احتمالات تلك الرجة سلفاً من خلال علاقتهم الوثيقة بالقلق الضاري المحتدم في كتاباته ( كتابات المؤلف المعتزل ).
القلق الضاري الذي لا يعثر على حجره الراسب في قعر النهر إلا الغرقى الخبيرون بحياة الأغوار المظلمة.
هذا النوع من القراء على ندرتهم، حتماً يرسمون ابتسامة خبيثة على نحو ثمل وهم يهسهسون : أخيراً فعلها الوغد، يا له من عمل عظيم!
اعتزال الكتابة لا يعني مخاصمة عمل غريب لا بد منه لتحقق وجود الشخص واستمرار حياته. لا يعني تدمير تلك العلاقة الوجودية بفعل الخلق والإبداع أو اغتيال كينونة الفنان الذي يعيش داخل ذات الكاتب، الفنان الذي لا ينظر إلى ما حوله في مسرح العالم إلا من خلال عين سحرية بخيال شرس وقلب مضطرم. على العكس من ذلك اعتزال الكتابة طفرة انتحارية في استكشاف غرابة تلك العلائق الملتبسة بالكتابة والوجود، قفزة مميتة من سلم رأسه طاعن في الغيوم وقدمه غير ثابتة في الأرض. قفزة من جرح عظيم إلى جرح أعظم.
اعتزال الكتابة ليس مغادرة من وجود إلى عدم. إنه امتحان النسيان والغياب والظلال والرماد. امتحان الهروب من أقصى الضوء إلى أقصى الظلام. امتحان الإمساك بطرف الخيط الآخر للمعنى.
اعتزال الكتابة عن اختيار وبملء الحرية التي يستدعيها الجنون الخاص للكاتب، ما هو إلا سخرية جذرية من كل شيء، وبالذات من أسطورة الكتابة وقدسية الجمال.
ضدّ الكتابة
عن هذا الصنف المريب والقدير من الاعتزال الخطير، لا تعود الكتابة هي نفسها كما كنا نعرفها. أو كما كنا نتوهم معرفتها بالأحرى. مع هؤلاء (معتزلو الكتابة ) تتغير علاقتنا بالكتابة، إذ تنكشف لنا تلك المنطقة الملغومة المنذورة للانفجار في أي لحظة كيفما كانت ضرورة الفن أو الحاجة إلى الإبداع قوية وغائرة على نحو أنطولوجي.
تلك المنطقة الشاردة في الداخل، تظل تهلوس وتهذي وتهاجس الواحد منا في لحظات التوتر الشرس، ما أن نبلغ تلك الحافة من الرؤية والرؤيا معاً، ونتذوق حكمة السخرية من الذات والعالم. من الحقيقة والزيف معاً.
التوتر الشرس الذي تأتي منه الكتابة، هو نفسه التوتر الذي يعلمنا بضراوة كيف نقف ضدها.
أن تكون ضد الكتابة لا يعني أنك صرت من المرتدين بالفهم التيولوجي الساذج للتوصيف، بل يعني أن إيمانك المفرط بها قادك في الشعاب المفزعة إلى اكتشاف الوجه الآخر للعبتها الخطيرة.
هذا الوجه السري اللاذع والحارق، ما يني يبزغ في سديم كل كتابة عظيمة مقهقهاً وصارخاً، ينذر الكاتب بشر ما يفعل، أو فداحة ما يرتكب من حماقات… هذا الوجه الخفي الذي لا يقبل قناعاً في مطبخ الكتابة، هو كابوس الكاتب الذي يؤجل التصالح معه إلى حين.
اعتزال الكتابة وإن كان يعني عند كثير من هؤلاء الأقلية، إدانة لانحطاط ما، أو صرخة صامتة ضد حالة مستفحلة من زعيق الرداءة التي تصطفّ على نحو لاهث مع السلطة والجهل واللامعنى، أو حجرة تروم إحداث الرجة داخل بركة آسنة. وإن كان يعني في الشائع والسائد من التلقي عند البعض أيضاً توقفاً حكيماً عن مراكمة أعمال متكررة لا تستطيع تجاوز نجاح وإبداعية عمل متميز في رصيد الكاتب، حتى لا يغدو مجرد ماكينة فاشلة تعيد نفسها بشكل كاريكاتوري. أو في ألطف الأحوال نتيجة طبيعية لاكتمال دائرة ما أو انغلاق الدوامة. كما قد يعني في سياق قرين محاولة للحد من ألم الكتابة وشقائها المبين …الخ.
فهو (أي اعتزال الكتابة ) خارج كل هذا وذاك، ليس انفصالا كلياً عن الكتابة ذاتها، إذ يبدو الأمر تأكيداً لها بالنفي. شاء أم كره (الكاتب المعتزل ) فإنه يغادر كتابة باللغة إلى كتابة مضاعفة بالصمت، وأثرها سيظل يتشابك ويتداغل كغابة من الأسئلة والأشباح في مخيلة القراء. على هذا النحو أيضاً لن تكون المغادرة خالصة وكاملة للكاتب عن ذات اسمه، لأن اسمه سيظل يتغذى ويتخصب أكثر بأسطورة غموض هذا الصمت الطارئ.
صرخة ضدّ الرداءة
اعتزال الكتابة وإن كان يعني عند كثير من هؤلاء الأقلية، إدانة لانحطاط ما، أو صرخة صامتة ضد حالة مستفحلة من زعيق الرداءة التي تصطفّ على نحو لاهث مع السلطة والجهل واللامعنى، أو حجَرة تروم إحداث الرجة داخل بركة آسنة. وإن كان يعني في الشائع والسائد من التلقي عند البعض أيضاً توقفاً حكيماً عن مراكمة أعمال متكررة لا تستطيع تجاوز نجاح وإبداعية عمل متميز في رصيد الكاتب، حتى لا يغدو مجرد ماكينة فاشلة تعيد نفسها بشكل كاريكاتوري. تعني أيضاً في سياق قرين محاولة للحد من ألم الكتابة وشقائها المبين.. الخ.
سخرية جذرية
اعتزال الكتابة عن اختيار وبملء الحرية التي يستدعيها الجنون الخاص للكاتب، ما هو إلا سخرية جذرية من كل شيء، وبالذات من أسطورة الكتابة وقدسية الجمال. عن هذا الصنف المريب والقدير من الاعتزال الخطير، لا تعود الكتابة هي نفسها كما كنا نعرفها. أو كما كنا نتوهم معرفتها بالأحرى. مع هؤلاء (معتزلو الكتابة ) تتغير علاقتنا بالكتابة، إذ تنكشف لنا تلك المنطقة الملغومة المنذورة للانفجار في أي لحظة كيفما كانت ضرورة الفن أو الحاجة إلى الإبداع قوية وغائرة على نحو أنطولوجي.
فعل كابوسي
لا أصدق أن رامبو اعتزل كتابة الشعر ،لأنه استنفد مجهوله وانتهى إلى جوهره. لا أصدق أن خوان رولفو اعتزل الكتابة، لأنه فقد المقدرة على إنجاز رواية ثانية وعلى تخييل قصص مجموعة أخرى، كما لا أصدق أن سالنجر اعتزل الكتابة ،لأنه فشل في تحقيق عمل سردي يتجاوز به روايته اليتيمة الحارس في حقل الشوفان… وقس على ذلك اعتزال كتاب آخرين كفيليب روث و…
اعتزال الكتابة هنا، فعل غامض ينتمي إلى العلاقة الملتبسة بالكتابة في جانبها الآخر، في حدها الأقصى المظلم، حيث تنتصب غابة الكوابيس التي يذرعها المؤلف ويعيش يوميات صلبها القاسي.
______
*الاتحاد الثقافي