عندما تكون الكتابة نبيلة


*حسّونة المصباحي

رحيل يشار كمال عن سنّ تناهز الـ 92 عاماً، تكون تركيا قد فقدت أعظم كاتب عرفته خلال القرن العشرين. كاتب عرف كيف يعكس في أعماله، وفي أفعاله ومواقفه، روحها العميقة، روح الفلاحين الفقراء، والكادحين، والمهمشين، وصعاليك الجبال الطيبين، الذين يسرقون الأغنياء لإطعام الفقراء، والأيتام. وروح أشباه بطله الشهير «محمد النحيف»، الذين تجبرهم الظروف على أن يعيشوا حياتهم كسلسلة من المغامرات الخطيرة، التي تبهجهم عوض أن ترعبهم، وتثني عزائمهم عن المضي إلى الأمام دائماً وأبداً.

ثمة وشائج روحية، وتجاذبات فنية بين يشار كمال وبعض كبار القرن العشرين من الكتاب، أمثال: ويليام فوكنر، جابريال جارسيا ماركيز، خورخي امادو، ارسكين كالدويل، وجون شتاينباك. فمثلَ هؤلاء قام هو أيضاً بإخرج الرواية من المدينة الكبيرة إلى الأرياف، والجبال، والقرى المهملة والمنسيّىة لتكون الفضاء الأمثل لأحداث قصصه وروايته. ويعود ذلك إلى منشئه، وإلى سنوات طفولته ومراهقته. فعند مولده عام 1923، والذي تزامن مع انهيار الإمبراطورية العثمانية، وقيام النظام الجمهوري بزعامة أتاتورك، انتقلت عائلته الكرديّة من منطقة الأناضول الشرقية إلى منطقة جبال «طوروس» المواجهة للبحر الأبيض المتوسط. وقد تميزت تلك الفترة العصيبة بتقلبات، وعواصف سياسية، وهجرات إجبارية للعديد من السكان، وتحوّلات على صُعُد مختلفة ومتعددة.
حياة وعرة
في سنّ الرابعة، فقد الطفل يشار إحدى عينيه بسبب ضربة سكين تلقاها عندما كان والده منشغلاً بذبح كبش عيد الأضحى. وفي الخامسة من عمره اكتشف الطفل الشر الكامن في النفس البشرية، وتحرُّق الأفراد والجماعات للانتقام من بعضهم البعض، مقترفين جرائم بشعة بهدف إرضاء نزعاتهم الشيطانية. فذات يوم، أمام مسجد القرية، قام احدهم بقتل والده أمام عينيه. وسوف يظلّ ذلك الحادث الأليم ماثلاً في ذاكرة يشار كمال، وسيحضر في صور مختلفة في العديد من رواياته وقصصه. وفي تلك الأرض الوعرة القاسية حيث يكثر القرّاص والشوك، الذي «ينهش السيقان مثل كلب»، شرع الطفل يشار في التدرّب على مصاعب الحياة، وابتكار الحيل الكفيلة بتجنيبه الحبائل التي ينصبها البشر لبعضهم البعض. وفي ما بعد سيقول: «أنا رعديد، وأكره الأبطال، غير أني لا أستطيع أن أمنع نفسي، مثل الكثير من الناس، ومن أن أركض متجاوزاً خوفي!».
مبكراً، رمى الفتى يشار كمال بنفسه في معترك الحياة. وكان عليه أن يتنقل بين مهن وضيعة ساعدته على التعرف على أحوال البلاد والعباد تماما مثلما هو الحال بالنسبة لمكسيم غوركي، الذي أوحت له أيام الشقاء والبؤس، التي عاشها في طفولته ومراهقته بكتابة رائعتيه: «بين الناس»، و»جامعياتي».
ومبكرا أيضا أظهر يشار كمال شغفا بقصص الرواة الشعبيين، الذين كانوا يجوبون القرى، ويحضرون في الأسواق الشعبية لرواية الأساطير والحكايات العجيبة عن أزمنة بعيدة، وعن ممالك اندثرت، وعن بشر غريبي الأطوار، وعن أميرات شرقيات هزمن الغيلان، وانتصرن على أشرار الرجال، وعن معارك تكثر فيها الدماء وجرائم الانتقام.. وفيما بعد سوف يعترف يشار كمال بأن أولئك الرواة الأميين كانوا معلميه، وأنه كان يحلم، وهو يستمع إليهم بأن يكون مثلهم ذات يوم. وسوف يضيف قائلاً: إنه كان يحس وهو يستمع إلى الرواة بأن جزءاً منه كان يسبح في دم الآخر، وأنه كان يشاهد في أحلام اليقظة رجال يتقاتلون، وخيولاً تركض في السهوب مضرّجة بالدم!
وفي الفترة التي كان فيها يشار كمال يرعى الأغنام، عاين أن أهالي القرية يمسكون بالذئاب التي تهاجم قطعانهم. وعوض قتلها يضعون في اعناقها جلاجل لتصبح عاجزة عن الاقتراب من ضحاياها، ومن الذئاب الأخرى. وفي النهاية تموت جائعة ووحيدة. وفي ما بعد سوف يستوحي من هذا الحادث موضوع واحدة من اجمل القصص التي كتبها في بداية مسيرته الابداعية. وفي سنوات المراهقة، التقى يشار كمال عمّالاً أتراك عملوا في ألمانيا، وعادوا منها متأثرين بالأفكار الاشتراكية، التي راجت فيها بعد الحرب العالمية الأولى. والمؤكد أنه تأثر مثلهم بتلك الأفكار، التي ستقوده إلى اعتناق الشيوعية.
كتابة وعرة
كان يشار كمال في السابعة عشرة من عمره لما وقف أمام القضاء بسبب قصة كتبها، وكانت بعنوان: «المولود الجديد». وقد اعتبر القاضي أن القصة تتضمن انتقادات للنظام الجمهوري، ولشخصيات سياسية كبيرة. وبسبب تلك القصة، كان على يشار كمال أن يمضي بضعة أشهر في السجن. وسوف تتجدد محاكمة يشار كمال أكثر من مرة بسبب مواقفه السياسية، وبسبب رفضه للقمع والعنف واضطهاد الأقلية الكردية، التي ينتمي إليها. وقد صرح أكثر من مرة بأن السجن هو المدرسة الحقيقية للكتاب الأتراك الأصليين، والحقيقيين.
وبعد أن تجاوز سنّ العشرين، انتقل يشار كمال إلى إسطنبول، وفيها شرع يكتب مقلات سياسية وأدبية في جريدة «جمهوريات» الواسعة الانتشار. في الوقت نفسه، وطّد علاقاته بالأوساط الشيوعية وبالجمعيات المهتمة بالدفاع عن حقوق الإنسان وعن القضايا المتصلة بالأكراد. وفي هذه الفترة التقى بـ(تيلدا)، التي ستكون رفيقة حياته. وكان والدها، وهو يهودي، الطبيب الخاص للسلطان عبد الحميد الثاني. وقد ساعدتها ظروفها العائلية المترفهة على اكتساب ثقافة واسعة، وعلى امتلاك اللغتين الفرنسية والإنجليزية. لذلك سوف تتكفل بترجمة أعماله إلى اللغتين المذكورتين. وعندما توفيت عام 2001، أصيب يشار كمال باكتئاب استمر أشهراً طويلة. وكان يقول: «الحياة بعد تيلدا فقدت حلاوتها ومعناها». وتخليداً لذكراها، أصدر كتاباً حمل عنوان: «رسائل إلى تيلدا».
وقد حصل على شهرة واسعة داخل تركيا وخارجها بعدان أصدر روايته الأولى «محمد النحيف»، وذلك عام 1955. وقد ترجمت روايته هذه الى العديد من اللغات. واعتبرها النقاد ملحمة شعبية متكاملة. وتتمحور الرواية حول الصراع الذي يخوضه فتى فقير ضد الإقطاعيين، والباشاوات، الذين يتسلطون عليه وعلى أمثاله، ويرتكبون في حقهم مظالم رهيبة. وفي النهاية يقتل محمد النحيف من قبل أعدائه فوق قمة «جبل علي»، الذي يعتبره أهالي المنطقة «جبل الجبال».
بعدها أصدر عدداً من الروايات التي ركز فيها على الحياة الصعبة في منطقة «شوكوفرا»، وعلى صراع الناس هناك ضدّ ظلم الطبيعة وظلم الحكومات. وقد صرح ذات مرة قائلاً: «كل أشعارنا، وكلّ ملاحمنا وأغانينا شاهدة على مظالم تكاد تكون أبدية. وما أكتب يتوافق مع كل هذا».
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *