*عزيزة علي
يرى الناقد والشاعر د. راشد عيسى، في تقديمه للمجموعة الشعرية “قمر عليل” للشاعرة رانة نزال الصادر عن دار خطوط للنشر والتوزيع، عمان، أن هذه المجموعة هي عبارة عن “حزمة من النصوص الأدبية التي تستلّ من الشعر مجازه العالي ومن النثر بنيته المتحركة، وهي نصوص شبيهة جدًا بصهيل خيول نافرة من المراعي الأليفة ومن ثقتها بالهضاب وتعدو على الصخور فتقدح سنابكها شررًا من العتاب، وتنحدر إلى الوديان السحيقة لتوبّخ الماء الخائن. وهي في شهيقها الأليم وزفيرها المتحشرج إنما تعلن عن قلقها الساخن من أخلاق المكان وعن احتجاجها على سيرورة أحلامها المتعبة. يرافقها في تجوالها الصاخب الجريح قمر عليل يؤنسها نوره، ولكنه لا يحميها أو يقدّم لها عونًا مباشرًا”.
رانة نزال تقول في تصريح لـ”الغد”: “هذه المجموعة تشهد على أيام توالي الليالي التي تَمرُّ أقمارها على صفحته، تلتاعُ حروفي في “قمر عليل” وتفيض رؤى العمر في سفره بين المتاح والمأمول، وقد ازدادت الروح كثافة وتعلّقت بالجواني الوادع وازدانت بالثقة.. نعم الثقة في كلّ هذا بأن لن يصح إلا الصحيح في واقع الأشياء وفي ميزانها المؤقت -من المواقيت، إذ لكلّ شيء أوانه، أو أن صحته واكتماله واكتحاله بالصواب والصائب وبالصيب النافع”.
وتتابع نزال “هذه المجموعة هي حروف العمر، وتجريب الحرف في قدرته الفائقة على الاختزال، على الارتحال والانتقال من قوانين ضابطة للأنفاس والشهقات إلى عوامل برزخية فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ووحده الحرف راحلتي في هذا التّجوال، حيث الله في قلبي كما همس هرمان هسة ذات رحلة”.
وتضيف “القمر العليل في اعتلاله أو علته كليهما مُفضٍ للآخر، وإذا ما يُقطره القمر في رحلته نحو الاكتمال في محاقه المظلم المسود إلى ضياه الكامل، هي رحلة هذا العمر في رحلة القمر محاقاً فبدراً فغياباً”، لافتة الى “أن هذا التوازي يسعى إلى التوازن عبر التماهي في كائنات الوجود وأدواته وكائناته التي تحرسنا وتعدنا بأن نحيا معها حياة مختلفة، حياة كُلّ ما فيها نابض يتنفس، ويشهق، ويُحبّ، ما أعرفه عن قمري العليل أنّه قطعة من العمر في ألمها الكنعاني الموجع، في فاجعتها بكل هذه الحالة من السيولة والميوعة في كُلّ شيء، هذا التعميم والتعتيم القاتل لكلّ ما له علاقة بمنظومات وقيم وتصورات حاولناها واجتهدنا في تجسيدها وأملها وتأملها، فانقصفت أعمارنا قبل أن نعيشها ورغم عِلتنا واعتلالنا بها إلا أنّها أقوى منا، حيث ستحيا في حين نغادر، ستظل وستكون وان كان ظاهر الأمر يشي بغيابها”.
توضح نزال: “أتحدّث هنا عن كُلّ قيم الحقّ، والعدل، والصّدق، والأمانة، والوفاء، وما صار غالياً حدّ الجرح من محاولتنا عيشها وتصديق وجودها وأمل تجسُدها، وطبعاً كلما أمعنتْ في الحلم والمثالية، أوغلتْ في الفقد والتحسّر لأن ديناميكية الوجود، ونواميس الحياة المختبرة المُبتلية لن تسمح لنا بمعاصرة هذه الحقائق المزهوة بأحلام مدويّة علمنا الواقع أن لا وجود لها، ولست من أولئك الحالمين؛ إذ لطالما خمشت وجه الواقع رفضاً وتمرداً وتعمد إطاحة بجملة مفاهيم بالية مفرغة من محتواها الإنساني، ولا أعلن هنا نجاتي بل أنا ذات مهمشة إنسانياً فقيرة وممعنة في الفقد، وحيدة كما سيف معلق على جدار الذكرى كتحفة أو إرث. ولكني وبالحرف أجترح عوالم تنعش موات الواقع نحو فوران المحور الإنساني، وبه وحده أقاوم اعتلال قمري نحو اكتمال ضياه، أو لعلها الرحلة نحو الاكتمال التي لا بد من مرورها بالاعتلال نحو النسائم العليلة”.
أقول فيه: “أنا القمرُ المريضُ.. ملامحُ ماضٍ مزّقتهُ.. راياتُ قومي.. وخطيئةُ الأبجديةِ المارقةِ.. أنا العليلُ.. الضّاعنُ في طَللي.. كمينُ الذاكرةِ.. أجبُّ فيه الرَّجاءَ.. فأُدمى”.
وتخلص نزال الى الاعتراف بأنها بعد قراءتها مؤخراً “عثرتُ على جديد حقيقي في تجربتتها التي لا تدعي أكثر من أنّها تجربة موغلة في التجريب حيث النّصّ مادة حيّة ومادة حياة، وهذا الديوان غلب فيه الجمعي عندها، وتناثرت رؤيتها الخاصة بوجعها وحيرتها وألمها من باب “شدة القُرب حجاب” كما أنّها الحيرة التي هي ضالتي غاية وبوصلة”.
بينما يقول عيسى، في تقديمه، إن تلك صورة سينمائية مفتوحة لتشخيص مجمل الرؤى التي انتابت النصوص، وهي رؤى أقرب إلى أشكال جميلة من حُمّى الفؤاد وأناهيد الصمت المبحوح الذي يناهض شقاء الوعي وأنات المعرفة. النصوص أنهار ثائرة على مجاريها غاضبة من مصباتها الرتيبة تعيش متعة التيه ولذة الندم. أنهار النفس الملولة من نفسها المجروحة بخشونة الزمن بدءًا ومآلًا.
ويرى عيسى أن هذه النصوص تتشكل في بنى من الوميض اللغوي النشط الذي يتدانى جليًّا من طرائق المتصوّفة في تشفير اللغة وتلغيم الدلالة سعيًا إلى بلوغ ذروة الرمز المفتوح على التأويل. فتستعين الكاتبة بهالات النور الديني: “أنفر حُبًا.. وأروم حُبًا.. لبيك ربي حجًّا وربًا”، لافتا الى أنها أنفاس إيمانية متقطعة متناثرة كالشظايا تؤنس غربة الذات وضلالاتها أمام دنيا لئيمة لا تؤهلنا إلا لامتصاص الندم بكفاءة عالية، وللتجارة ببضاعة الحزن كي نظفر بخساراتنا السارة. لذلك تستند النصوص إلى الدفق الشعوري الحرّ غير المكبل بالأطر الأجناسية لسلطان الشعر أو لسلطة النثر فتمتص الكلمات رائحتها من الذهن وتنتشر في أعصاب القلم مثل مضاد حيوي ناجح.
ويعتبر عيسى أن نزال في هذه المجموعة لا تهندس نصّها بقصدية شكلية سائدة، وإنما تلعب بمياه اللغة لتثير الأسماك الخجولة في القيعان، وتتلذذ بالآخات النبيلة المحتشدة في كينونتها، فالنصوص تتمرأى بقصائد النثر، وتتوسل أيضاً إلى القوافي الجزئية داخل النص لترفع منسوب سجع الحمام، وترداد الصدى على غرار هذا النص: “تقلبتُ على مواعظ ظِلًا.. وارتأبت فيما لا يرى.. مقامك الأعلى.. انتبذته وصرتُ شجوًا وخِلا”.
ويؤكد “أن نصوص “قمر عليل”، تختزن حمولة جيدة من أنوار الثقافة الإنسانية، كما تستجلب مقابسات من التناص القرآني والشعري والفكري عبر هذه اللغة المدلّلة كطفلة وحيدة لأسرتها، كما أن الشاعرة تسافر في أعماق الشجن الإنساني عندما تراسل أمها بأشواقها المسنّنة وحنينها المضمّد بالأسف الذي سبّبه البعد والترحال، ذلك لأن الشاعرة كائنة أشبه بالسنونو رحّالة دائمة في فضاءات الأمكنة البعيدة عن أسرتها تحاول الحياة بتصبّر موجع رحيب، وعندما تناولتْ مسألة العمر ولا سيّما الخمسون خدشت وجْنة الزمن وأحرجتها بعتابها الكبريائي، لأن العمر نفسه اعتذر لنفسه لتدخله في مسيرة الكبر وآلامها في سن الرشد، سن المتاعب واللهاث خلف شمس مصرّة على الغروب غير آبهة بحنين الطفولة”.
تبقى هذه النصوص، كما يقول عيسى: “أشبه بما يتساقط من فم النحلة وقوائمها من رحيق جمعته من زهرة بريّة حزينة تريد أن توفر للشتاء المقبل قوتها المحتمل. ولم تك السطور السابقة مقدّمة فنية بقدر ما هي عين سائح على حديقة جبلية تحوم عليها طيور لم تثق بالربيع ولا بنوايا تجار الأزهار حديقة يتفاوح منها أريج القلق العذب. حديقة مهدّدة بشتاء ثقيل قد يعيد إخصابها وقد يحيلها إلى خريف أليم. على أنها في الحالين تحاول الحياة بسعادة عبر طنين النحل اللغوي الذي يباكرها ويماسيها باحترام شديد”.
ويذكر أن الشاعرة رانة نزال هي كاتبة وشاعرة أردنية، حاصلة على درجة البكالوريس لغة عربية وآدابها/ الجامعة الأردنية، ودرجة الماجستير لغة عربية وآدابها/ الجامعة الأردنية، واللغة الإنجليزية كلغة ثانية/ كلية لاس بوسيتس ولاية كاليفورنيا- دبلوم لغات، وهي عضوة في رابطة الكتاب الأردنيين وعضوة في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين.
صدر لها العديد من المؤلفات والمجموعات الشعرية منها: “فيما كان”، “مزاج أزرق”، “بيت العين”، “(لن) بين المطرقة والسندان”، “فم أعمى وذاكرة خرساء”، “في الحيّ الذي لا يموت”، و”جهة الورد”.
-
عن الغد