ثلاث تجارب فنية من لبنان

  • فاروق يوسف

بدأ الرسم في لبنان في الكنائس والأديرة على أيدي رسامين أوروبيين كانوا جزءا من فرق دينية مسيحية. ذلك ما يؤسس قاعدة للتعرف على فنّ لم تكن صناعته قائمة. وقد لا يكون التعرف على أسماء أولئك الفنانين ملزما لكونهم لم يتعاملوا مع الرسم باعتباره صنعة مستقلة، بل كان جزءا من مهمة دينية هي امتداد لاستعمار سياسي. تلك الرسوم التي ظلت سجينة الكنائس والأديرة لم تؤسس لتاريخ الرسم في لبنان ولو لم يكن الأمر كذلك لكان لبنان هو أول بلد عربي بدأ فيه الرسم. في حقيقته لم يبدأ تأريخ الرسم في لبنان إلا بعد أن عاد المبعوثون لدراسة الرسم في أوروبا. لذلك يمكن الحديث عن أجيال ريادية ثلاثة هي الأساس الذي بني عليه تاريخ الرسم في لبنان.

الأول هو جيل نهاية القرن التاسع عشر ويمثله نعمة الله المعادي ورئيف شدودي وعلي جمال ومكاروف فاضل.

أما الجيل الثاني فيمثله حبيب سرور وداود القرم وخليل صليبا وجبران خليل جبران الذي كان صديقا للنحات يوسف حويك.

ومن الجيل الثالث يمكن أن نذكر عمر الأنسي ومصطفى فروخ ورشيد وهبي وقيصر الجميل وصليبا الدويهي. كل هؤلاء يمكن النظر إليهم باعتبارهم روادا.   

أما شفيق عبود وعارف الريس ونادية صيقلي فإنهم ينتمون إلى جيل رابع ظهر بعد أن أصبحت الأبواب مفتوحة على العالم بطريقة انتقائية، وكانت أسس المهنة في لبنان قد أرسيت ومتّنت.

ما يجمع بين الثلاثة أنهم ينتمون إلى الجيل الذي درس الرسم في “ألبا” الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة. تلك المؤسسة التي أقامها ألكس بطرس بداية أربعينات القرن العشرين واعترفت بها الحكومة اللبنانية عام 1943.

شفيق عبود عالميته بحنين ريفي

 حلقة وصل بين بيروت وباريس

لا يزال منه الكثير مما لم يُر بعد بالرغم من مضي عشر سنوات على توقفه عن الرسم بسبب وفاته. في غير مكان من بيروت رأيت رسوما منه تعود إلى مراحل فنية مختلفة لا تزال تحتفظ بنضارتها، كما لو أنها رسمت للتوّ. كما لو أنه رفع يده عنها قبل لحظات. كانت تلك الرسوم جزءا من زمنها الساحر غير أن ما تختزنه من جمال يجعلها قادرة على أن تقفز على حاجز الزمن لتذكّر برسامها الذي هو حسب نزيه خاطر قام “بتخمير العنف الخام وتدجينه بالشعر، أي الغربة بالحنين والعزلة بالحب والمدينة بالمنظر الطبيعي”.

كان اللبناني شفيق عبود ابن المحيدثة التي ولد فيها عام 1926 هو أيضا ابن باريس التي فارق الحياة فيها علم 2004. وما بين الزمنين عاش عبود مغامرة انفتاحه على الرسم بعد أن رفض دراسة الهندسة المدنية التي بدأها في لبنان ليغادر إلى فرنسا عام 1947 ويستقر هناك إلى لحظة وفاته بعد أن اندمج بمدرسة باريس الفنية وصار واحدا من روّادها وهو ما أهّله ليكون واحدا من أهم رموزها في النصف الثاني من القرن العشرين.

هل كان عبود في أسلوبه التجريدي الذي يجمع اللون بالضوء حلقة وصل بين باريس وبيروت، أو بالأحرى بين الغرب والشرق؟ الثابت أن اندماجه بالحياة الفنية الباريسية بطريقة عضوية لم يكن عامل قطيعة بينه وبين مصادر إلهامه الأساسية التي تقع في المشهد الطبيعي اللبناني فكان تردده الدائم على بلده الأم مناسبة للتودد بالكثير من المعرفة الحسية، لا على مستوى الافتتان بالضوء وحسب بل وأيضا على مستوى الإنصات إلى ما فاته من حكايات، كان قد استهل شغفه البصري بها وهي تنساب على ألسنة حكواتية القرية مجسدة سير القديسين الذين تظهر صورهم في الأيقونات.

الإشراقي بين اللون والضوء

لوحة عارف الريسلوحة عارف الريس

في بداياته الباريسية سعى عبود إلى استيعاب أسرار الجمال الذي تنطوي عليه رسوم  بيار بونار وروجيه بيسيير ونيكولا دو ستايل (الأخير فرنسي من أصل روسي). وهو ما دفعه إلى التخلّي عن أسلوب شعري كان قد هام به في لبنان ليكون رساما تجريديا خالصا. كانت غنائية أسلوبه مستلهمة من رسوم الثلاثة الذين صار فنه في ما بعد كما لو أنه الخلاصة الصعبة، بعيدة المنال لما كانوا يحلمون في الوصول إليه مجتمعين. يمكنك أن ترى الثلاثة في لوحة من عبود غير أن عبقرية موهبة لافتة استطاعت أن تشكل منهم عجينة لاختراع عالم تصويري جديد سيكون عبود ملكه من غير منازع.

لقد ارتقى بمرجعياته الفنية إلى مستوى الإشراق الصوفي فكانت سطوح لوحاته تضيء أشكالها بعلاقات يشتبك العقل من خلالها بالعاطفة فيمتزج التراثي بالمعاصر، الدنيوي بالمقدس، المرئي بالمتخيل ذهابا بالنغم إلى مستويات لا يمكن أن تتجسد إلا من خلال صفاء العين وهو ما دفع ناقدا وفنانا بحجم سمير الصايغ إلى الحديث عن قدرة رسوم عبود على النفاذ إلى ما هو أبعد من العالم المرئي، حيث يمكن قراءة تجريدياته حسب الصايغ من خلال العودة “إلى صدق القلب الذاهب عميقا وراء ما شف من الأحاسيس وما رق من المشاعر”.

سعادته وهي مصدر عدوى

شفيق عبود كما رأيت رسومه هو واحد من أعظم ملهمي السعادة في عصرنا.

ما أن ينعم المرء برؤية رسومه حتى يشعر أن بركة من نوع خاص قد حلت في جسده. تعلمنا تلك الرسوم كيف نحتفي بالحياة من خلال الاستسلام لنشيدها المتدفق حبّا وتحليقا وانتظارا لما هو أجمل وشغفا بما يُرى الذي هو مقدمة لما لم يُر بعد. شيء من الشعر الخالص الذي يقبض على لحظات الخلق الأولى ينبعث من كل سنتيمتر من تلك الرسوم. تواجهنا حياة جديدة، صافية ومنقّاة من كل الأخطاء، مموسقة تدوزن خطواتنا وفق إيقاع تترامى أطرافه لتصنع كونا شاسعا من الألوان التي تمتزج بالضوء. كان يرسم بشعور غامر بالسعادة كمن يكتب يوميات حياة يشعر أنه محظوظ باقتناص أيامها يوما بعد آخر. لم تغب عن رسومه ذكرياته وكان يتجلّى وهو يستعيد صورا مبهمة من طفولته التي قضاها وسط بيئة ريفية وشبابه الذي توزع بين محترفات الرسم.

يكتب ذكرياته رسما

كان يلذ له أن يكون رساما ريفيا.

أخبرني وضاح فارس وهو الذي تبني عرض رسوم عبود في باريس من خلال صالة عرضه قبل أن ينتقل عبود إلى صالة كلود ليمان أن الرسام حين كان يعود إلى لبنان يرسم بطريقة مختلفة تكون أقرب إلى الطبيعة منها إلى الفن. وهو ما لاحظته في عدد من رسومه التي كان قد أنجزها أثناء إقاماته اللبنانية. لربما كان في لبنان يتحرّر من تأثيرات مدرسة باريس ليستعيد عالمه الداخلي الذي صار بعيدا.

ذلك العالم الذي تملأه الحكايات بسحرها وأسرارها وفتنتها. في سلسلة “المقاهي الشعبية” التي رسمها عام 1990 استذكر عبود مشهد المقاهي المحاذية لشاطئ بيروت التي دمرتها الحرب الأهلية. كان هناك ما يستحق أن يبقى خالدا من الذكريات. ما ينقذ الرسم من بلاغته التجريدية التي قد تكون محل إنكار من قبل الواقع. بالقوة نفسها استوحى رسومه الربيعية من فساتين صديقته سيمون عام 1997 التي كانت ترتديها قبل أن تتوفى. كان شفيق عبود وقد تحرر من مرجعياته الفنية يتذكر حياته الأولى كما لو أنه يعيشها من جديد. بالنسبة إلى تجريدي بحجم شفيق عبود سيكون صادما أن نرى 17 لوحة من رسمه في مديح الطبيعة. وهو ما فعله من غير تردد. وهو ما يعني أن الواقع لم يكن غائبا عن عالمه.

عبود وهو رسام عالمي

لوحة ناديا صيقليلوحة ناديا صيقلي

ما رأيته في بيروت وحدها يؤكد أن ابن المحيدثة وابن باريس معا كان رساما غزير الإنتاج. لم يكن إلهامه ليحضر إلا من خلال العمل. وهو عمل حرص عبود على أن يكون رفيع المستوى. لم يرسم قطعة لا تمتّ إليه بصلة ولا تذكّر به. لا يحتاج المرء إلى الاقتراب من اللوحة من أجل قراءة توقيع رسامها ليعرف أنها تعود لعبود. بصمته واضحة من بعيد. أبهذا المعيار يمكن أن نقول إن عبود كان واحدا من أهم رموز حداثتنا الفنية؟ إن وافقنا على هذا الوصف فسنخون حقيقة ما شكلته تجربة شفيق عبود بالنسبة إلى الرسم العالمي في مرحلته. كان الرجل رساما عالميا. كما هو الصيني زاووكي. كما هو التشيلي ماتا من قبل. الرجل الذي قدم غريبا إلى باريس صار واحدا من أهم رسامي مدرستها في النصف الثاني من القرن العشرين. فهل سينصفه التاريخ رساما عالميا؟

بالنسبة إلينا فقد كان الرجل رساما عربيا. قدم من بيروت إلى باريس ليعود إليها كلما أتيحت له الفرصة وكان حريصا على أن يرسم في لبنان ما لم يتمكن من رسمه في باريس. لم يكن عبود محاصرا بمحليته لكي يعتز بها هوية، غير أن هويته الشرقية كانت تقدمه في الأوساط الفنية الفرنسية باعتباره فنانا لبنانيا. ما من تناقض بين أن يكون عبود جزءا من مدرسة باريس وبين أن يكون لبنانيا خالصا. رسومه وهي تحتل مكانا مبرزا في القاعات والبيوت التي زرتها في بيروت يمكنها أن تجيب على إشكالية من هذا النوع. كان عبود فنانا عالميا.   

********

عارف الريس لم يفارق حديقته

الساحر الذي يضع ضحكته على الجرح

حديقته النضرة في عاليه البلدة الجبلية التي شهدت ولادته يمكنها أن تكون المزار المثالي للتعرف عليه، فنانا وإنسانا، هو في حقيقته مزيج ثقافات وعادات وأمزجة ومدن تنقل بينها بخفة طائر أسطوري، كانت عيناه تهبان كل ما يراه قوة الجمال المترفع والوحيد.

كانت غزارة نتاجه الفني وتنوع أساليبه في الرسم والنحت قد جعلتاه عصيا على التصنيف النقدي، ففي كل مرحلة من مراحل سيرته الفنية كان فنانا جديدا، غير ما كانه من قبل وما سيكونه في مستقبل أيامه الغاصة بشعوره العميق بالأمل، وهو الشعور الذي استخلصه من ثقة مطلقة بالفن باعتباره أرقى اللغات التي تكسب الكائن البشري هيأة الرسول المبشر بالقيم الإنسانية الخالدة.

في فنه يمتزج الماضي بالحاضر، فلا تقع حداثته على معنى المعاصرة المباشر، كما تحدده المعاجم الفنية المتاحة. وهو ما جعله في أحيان كثيرة قادرا على التماهي مع فكرة إقامته خارج الزمن، كائنا يقول ما لا يفهمه الآخرون.

غير أنه أيضا كان يقيم خارج المكان كما نعرفه، لكثرة الأماكن التي أقام فيها وتداخلها وتوزعها بين حالاته العقلية ونزعاته العاطفية، الأمر الذي يصرّ عليه أن يكون أفريقيا في باريس وفرنسيا في بيروت ولبنانيا في المكسيك.

ضحك ابن الجبل حين أخبرته بحيرتي وارتباكي حين أحاول أن أقبض عليه في واحدة من شخصياته المختلفة وكنا نجلس في مقهى على البحر بطنجة عام 1990. قال “أنا كل هذا. إذا لم يكن هناك المزيد” رسمني يومها كعادته على ورقة عادية، عثر عليها بالصدفة وذيّل تلك الرسمة بتوقيعه، وصار ينظر إليها بمتعة كما لو أنه أنجز عملا فنيا عظيما. وهو ما جعلني أقع يومها على شيء من سحر شخصيته.      

لبنانه الذي هو الكون

لوحة شفيق عبودلوحة شفيق عبود

هل كان عارف الريس (1928 ــ 2005) فنانا لبنانيا خالصا؟ ولكن ما معنى أن يكون الفنان لبنانيا خالصا؟ بالنسبة إلى الريس جرى الأمر كما لو أنه مزحة لا تقف عند حدود معانيها المباشرة. فوالده التاجر الذي ألقى به نهاية أربعينات القرن العشرين في بحيرات تتقاسم السباحة فيها نساء جميلات وتماسيح تبدو على درجة عالية من التهذيب كان قد فتح أمامه أبواب التجريب الحياتي ومن ثم الفني على مصاريعها. لقد اكتشف أن هناك جمالا خارقا منذورا للرعب. أليس هو الجمال المتشنج الذي التزمه السرياليون مبدأ لهم؟ كانت سريالية الريس مستلهمة من الواقع، كذلك حروفيته في مرحلة متأخرة من حياته، جسدتها منحوتاته في جدة وتبوك السعوديتين.

لقد عاش الريس حياته حالما، تمر به الوقائع اليومية ليلتقط منها المفردات التي تعينه على أن يستمر في شقائه رساما ونحاتا حالماً. فحين ذهب إلى باريس منتصف خمسينات القرن الماضي درس التمثيل الإيمائي إلى جانب الرسم. فكانت تلك الخطوة بمثابة تكريس لما عاشه من انفعالات ساخنة في السنغال وهو يرى الفن ممتزجا بحركة الناس العاديين من خلال الدين. حين عاد إلى لبنان عام 1957 حالفه الحظ في أن يحصل بعد سنتين على منحة لدراسة النحت في ايطاليا. يومها جرى لقاؤه العظيم بجياكومتي وعدد من نحاتي أوروبا الكبار.

 ولأن روحه القلقة لم تكن تسمح له بالمكوث في محطة بعينها فقد كان لقاؤه في روما بعدد من الفنانين القلقين مثله مناسبة للعب بالنحت من جهة كونه ممارسة تجريبية هي أقرب إلى المغامرة منها إلى الدرس الفني المنضبط. كان الريس بالنسبة إلى الآخرين هو النموذج الطازج والنضر لامتزاج الشرق المتوسطي بشمسه بمجاهيل أفريقيا الغامضة بعتمات معابدها. كان كائنا حيا يحتضن سحر تعاويذ ملوك أفريقيا بشفافية شمس المتوسط التي حرص على أن يحملها معه أينما حل.

ليوبولد سنغور في انتظارنا

لم يكن عارف إلا ذاته المتمردة التي كانت حريصة على أن تقوم بنزهتها اليومية بين متاهات الجمال. كان جميلا في كل ما يفعل فكان ضروريا أن يحبه الجمال. “سترى كيف سيستقبلنا الرئيس سنغور” قال لي وهو يمسك بيدي ليقودني إلى فندق المنزه بطنجة.

حتى تلك اللحظة كنت محرجا إزاء المزحة التي ورطني فيها واحد من أكبر الضاحكين الذين قابلتهم في حياتي، غير أن العناق الأسطوري بين صديقين هما الريس وسنغور الذي لم يكن رئسا يومها صنع مني شاهدا على براءة الطفل الأسطوري الذي تعبتُ في المقهى من تتبع حكاياته عن علم سحري عاشه شخصيا، فيما كنت أظنه متخيلا. كان الريس واقعيا في أقصى درجات خياله ولم يكن يجرؤ على الكذب حتى وإن تعلق الأمر بالجمال. يومها لقنني الريس درسا مزدوجا في الجمال والأخلاق معا.

لم يكن الريس صانع فن وحسب بل كان صنيعا إنسانيا فريدا من نوعه.

الزهور النائمة على الحجر

لوحة عارف الريسلوحة عارف الريس

“ما من بلد في العالم مثل لبنان” جملة همس بها الريس لي بتواضع كما لو أنه كان يبوح بسر. حديقته في عاليه تؤكد صحة حدسه. تشبهه، ربما من جهة تنوع نباتاتها، غير أنها أيضا تذكّر به باعتباره راعيا لكائنات (منحوتاته) لا يزال في إمكانها أن تلهم الجمال. لبنانه الكوني مثلما حلم به تجسد في حديقة تحمل اسمه في البلدة التي ولد ومات فيها بعد أن جال بين القارات. لو أنه لا يزال حيا لكان قد حدثني وهو يمسك بيدي كما كان يفعل في طنجة عن علاقة الزهور بالحجر. بالنسبة إلى شخص مثل عارف فإن الوفاء ضروري لكي يشعر المرء بإنسانيته.

كانت تنويعاته على قماشة اللوحة وعلى الحجر واحدة.  كلها تنبعث من مسعى واحد: أن يكون الصدق قاسما مشتركا بين الواقع والخيال. هذا فنان لا يكذب، بل إنه ظل طوال حياته يراهن على الصدق معيارا لصلته بالآخرين. لم يمرّ بالعالم باعتباره سائحا عابرا، بل كان يصر على أن يكون ابن الجرح المفتوح بين ضفتين. كان عليه أن يكون سرياليا فينسى الواقع. كان عليه أن يكون تجريديا فينسى أن يكون تشخيصيا. كان عليه أن يكون بدائيا بسحر رؤاه الأفريقية فينسى حياته في باريس. ولكنه رغب في أن يكون كل ما عاشه، كل ما رآه، فكانت تجاربه الفنية بتنوع أساليبها وموادها وتقنياتها مرآة لحياته.

حياة على هيأة شذرات

عارف الريس المسرع دائما، عاش حياة صاخبة. كان صوته الجبلي، حركات يديه المنفعلتين، نظراته التي هي أشبه بالضربات، لغته المقتضبة التي لا تخلو من المزاج هي أصابعه التي تمتد للعبث في كل ما يراه الآخرون مسلّما به. وهو ما حرص الريس على أن يبقي شراراته ساخنة من خلال كتابيه، الأيام الرمادية: ألوان، أحرف، صور ورحلة داخل الذات وهو عبارة عن حوارات أجرتها الصحافة معه في مختلف مراحل مسيرته الفنية.

ولأنه يعرف أن سيرته الفنية والحياتية كانت أصعب من أن تجمع في بوتقة واحدة فقد قرر أن يكتبها مفككة على هيأة شذرات خاطفة. وهو ما نجح فيه. ليس هناك ما يُتعب. أينما مد الريس يده فإنها كانت تقع على لقى لا يزال معدنها لامعا. فالرجل عاش حياته كاملة، لم يكن ينقصه شيء، وهو ما يجعلني أضمه إلى قلة من الفنانين السعداء الذين نذروا فنهم بل وأنفسهم لحب الآخر العابر للقارات وللغات وللأزمنة.

كان عارف الريس سيد موقفه المتشدد من العالم مثلما كان سيد ضحكته.

******

ناديا صيقلي ترتجل شرقها في إيقاع غربي

ما من أثر من بيكاسو في لوحاتها، غير أن شبح الرسام الفرنسي يتجول في مرسمها. أهنا ولدت لوحته الشهيرة (فتيات أفنيون) عام 1907. تلك اللوحة التي غيرت وجه الرسم في القرن العشرين؟

المتمردة على مدرسة باريس

لوحة ناديا صيقليلوحة ناديا صيقلي

الصدفة وحدها جمعت بين ناديا صيقلي وبيكاسو. فمنذ عام 1979 انتقلت صيقلي للإقامة في حي الفنانين الباريسي “ألباتو لافوار” وكان من نصيبها المرسم الذي سبق لبيكاسو أن أقام ونفذ فيه أعماله التي تعود إلى السنوات الأولى من إقامته الباريسية.

صيقلي التي تنتمي إلى جيل الحداثة اللبنانية الثاني، شفيق عبود وإيفيت أشقر وهيلين الخال وجان خليفة وأمين الباشا وسواهم اختارت أن تتماهى مع محل إقامتها الأخير فجعلت من مستويات التجريب التجريدي الذي تميزت به مدرسة باريس في خمسينات القرن الماضي قاعدتها للانطلاق في اتجاه أسلوبها الشخصي.

عوضتها تلك المحاولة عما يمكن أن ينتج عن انفصالها عن الواقع من خسائر. كانت الطبيعة هي اللقية الثمينة التي عثرت عليها. لقد فتح التجريد أمامها أبوابا واسعة تطل من خلالها على الطبيعة في تحولاتها. فكانت تمزج في رسومها فتنة الحدث اللوني لدى كلود مونيه بكثافة الأشكال في تقاطعاتها لدى نيكولاس دو ستايل.

سيُقال إنها في ذلك إنما تنافس زميلها، الباريسي هو الآخر شفيق عبود. وهو قول يحتمل الصواب، لولا أن صيقلي كانت أكثر حرصا من عبود على سعة المساحة الجمالية التي تعمل فيها تجريبيا.

في مرحلة معينة من مراحلها كانت شبيهة بعبود. وهو ما لا يمكن إنكاره. غير أنها لم تستلم للقدر الذي يمكن أن يجعل منها المقابل الأنثوي اللبناني لعبود. فمن وجهة نظري فإن صيقلي تخطت عن طريق التنويع في مصادرها الإلهامية تلك العقدة. فلم تعد المقارنة بين الاثنين واردة. 

ربما من الإنصاف القول إن تمرد صقيلي كان منصبا في الأساس على مصادر خيالها التجريدي التي ربطتها بمدرسة باريس. كان لديها فائض من النور الذي حملته من الشرق معها وهو ما صارت تلجأ إليه في حمّى ارتجالاتها التجريدية.

لم تتلصص على الرموز أو الإشارات أو الخطوط أو الزخارف التي تربت عليها جماليا، بل بعث فيها ذلك النور المقيم في حواسها روح المغامرة التي دفعت بها إلى اختراق السطح بحثا عن مصادر إلهام جديدة.

نوافذ على ما غاب عني

ولدت ناديا صيقلي عام 1936 في بيروت. عام 1953 التحقت بالأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة “ألبا”. عام 1956 تابعت دراستها الفنية في محترف هنري غونز بباريس. ما بين عامي 1963 و1974 درست الرسم في الأكاديمية اللبنانية التي تخرجت فيها. بعد ذلك انتقلت إلى باريس لتقيم فيها. وكما يبدو فإن إقامتها في باريس قد فتحت لها أبوابا للتعريف بفنها، فكان المعرض الذي أقامه لها مركز جورج بومبيدو عام 1978 بمثابة خطوة واثقة ألقتها صيقلي في طريق العالمية. المعرض الذي حمل عنوان “نوافذ على ما غاب عنّي” وضم 30 لوحة، نفذت بتقنية الحفر الطباعي كان محط اهتمام ودهشة الأوساط الفنية الفرنسية التي حملها المعرض في اتجاهين.

لوحة ناديا صيقليلوحة ناديا صيقلي

ففي الوقت الذي كشف فيه المعرض عن عمق ومساحة الدمار الذي تسببت به الحرب الأهلية اللبنانية فإنه أهدى الفرنسيين موهبة فنية، جددت لديهم الأمل في ما يمكن أن يجلبه الأجانب معهم من حيوية فنية. لقد أجبرت موهبة صيقلي المؤسسات الفنية الفرنسية على احتضانها، فكان انتقالها إلى حي الفنانين عام 1979 واحدة من ثمار ذلك الاحتضان. غير أن معرض بومبيدو كان في الوقت نفسه تتويجا لسلسلة من العروض التي قدمتها الفنانة في باريس بدءا من العام 1964. هناك عشر سنوات قضتها الفنانة وهي تنقل أعمالها للعرض بين بيروت وباريس في محاولة منها لاختبار مزاجها التصويري. وهو ما هداها أخيرا إلى أن تقرر الإقامة في باريس لتعود من بعدها إلى بيروت زائرة.

في بيروت فتحت صيقلي نافذة على باريس غير أنها في العاصمة الفرنسية فتحت نوافذ عديدة على بلدها.

فنانة السنتميتر المفقود

في وقت مبكر من حياتها الفنية تعرفت ناديا على رسوم الفرنسي بول سيزان (1839 ــ 1906) كان ذلك اكتشاف حياتها. حدث ذلك عام 1957. عن طريق سيزان دخلت الفنانة إلى عالم التكعيبية. تأثرت بالتكعيبيين (من أمثال بيكاسو، براك) ولم ترسم مثلهم. أخذتها نظرتها التأملية إلى مكان آخر. غير أنها استفادت من سيزان في التعرف على عناصر الرسم مجردة عما يمكن أن تنتجه علاقاتها من أشكال.

تقول “انجرفت وراء لذة الاكتشاف والتعبير بواسطة التجريد عن المادة والألوان والإيقاعات” وهنا بالضبط يقع عالمها، بدءا من الخطوط العمودية التي كانت تتحرك وفق إيقاع بصري متفاوت المسافات وانتهاء بفضاء شعري، جعلت منه الرسامة ملعبا لمختلف أنواع العلاقات البصرية. وكان المغزى الذي تهدف إليه واحدا في المرحلتين، ألا وهو أن تخلق تأثيرا بصريا يتجاوز المتلقي من خلاله كلفة المعنى وثقل السؤال المعرفي.

الغموض الذي يكتنف لوحات صيقلي هو تعبير عن الحاجة إلى أن نرى اللوحة بمعزل عمّا نطلبه من خلالها مسبقا. تجرنا اللوحة بلغتها الجمالية إلى عالم لن يكون حاضنة لأيّ تعريفات محتملة للجمال. لا تقدم الرسامة نموذجها الجمالي مستندة إلى ما تراه، بل إلى ما تعثر عليه مختبئا تحت سطح لوحتها. إنها في الحقيقة تستخرج ذلك النموذج لتضيف إلى الكون مساحة جديدة، هي السنتميتر الذي لم يكن موجودا من قبل. 

انصهار الشرق بالغرب

لوحة شفيق عبودلوحة شفيق عبود

باستثناء ما عرضته في بيروت ومعرض يتيم أقامته في الكويت عام 1984، فإن العالم العربي لم يتعرف على رسوم ناديا صيقلي. غالبا ما يقدمها نقاد الفن ومؤرخوه باعتبارها فنانة فرنسية مولودة في بيروت. وقد لا يهم في شيء ذلك التعريف. غير أن عدم التعرف عربياً على عالم هذه الفنانة الفني (هناك سواها) انعكس سلبا على الأحكام النقدية التي يتداولها نقاد الفن العرب، وهو ما يشكل ثغرة كبيرة في مجال معرفة التاريخ الفني في العالم العربي.

فناديا صيقلي هي واحدة من أهم فنانات وفناني التجريد الصافي. لا تكمن أهميتها في انتمائها إلى مدرسة باريس، بل في موهبتها التي أهّلتها للتمرد على تلك المدرسة والانعتاق من أساليبها مدفوعة بتوق اكتشاف ذاتها في إطار التجربة التجريدية. وهو ما توصلت إليه حين مزجت تربيتها المدرسية الغربية بما ترسب في أعماقها من تجارب روحية، تمتد جذورها في أرض خصبة بالتأمل الشرقي.

ارتجال تجليات المادة

ليست صيقلي غربية تماما غير أنها بالقوة نفسها ليست شرقية تماما.

إنها الصفتان مؤتلفتان. غربية في بناء لوحتها، فهي تراعي في ذلك البناء كل ما تعلمته من قواعد وهو ما يفعله أي فنان آخر. شرقية حين يتعلق الأمر بما يتم استخراجه من إيقاعات، هي بمثابة مرايا للروح في علوها وهبوطها. هذه المرأة ترتجل تجليات للمادة لا حدود لها.

يتغلب التجريد لديها على سوء الفهم.  هناك متعة في النظر إلى لوحاتها تسر الناظرين وتعوض البعض منهم عن غياب المعنى، إذا أردنا التبسيط. غير أن غنائيات صيقلي ليست من النوع الميسر. فالفنانة بالرغم من ماضيها الزخرفي لا تسمح بأي بقعة تزيينية بالتسلل إلى رسومها. ما ترتجله ليس معدا سلفا، لذلك فإنها لا تلجأ إلى الإشارات الجمالية المتاحة التي من شأن وجودها أن يشعر المتلقي بالاطمئنان.

الجمال الذي تقترحه صيقلي هو جمال لحظوي أشبه باستدراك خطأ.

  • عن مجلة الجديد

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *