قراءة أولى في مجموعة ( نهارات بلا تجاعيد ) للشاعر عبد الرزاق الربيعي

( ثقافات )

 

قراءة أولى في مجموعة ( نهارات بلا تجاعيد ) للشاعر عبد الرزاق الربيعي

  شعرية المؤول و مرثية الذات الواصفة

 * حيدر عبد الرضا

توطئة :

أن أسفار قراءتنا في عوالم شعرية الشاعر الكبير عبد الرزاق الربيعي ، و منذ صدور كتابنا الأول عن تجربته في ( مرجعيات الشعرية ) لا يزال لحد الآن يشكل فينا ذلك الهاجس المتوقد في البحث عن أسرار تجربته الشعرية الثمينة في نسق و أنساق المرجعية الشعرية . و اليوم نجد بين أيدينا أثمن تجربة شعرية من خزين هذا الشاعر الكبير ، و التي تتكون في حقيقتها المحتملة من علاقات أولية سببية و رابطة ما بين ( جهات موضوعة المرجع / بؤرة الفاعل المحوري ) و عند النظر المعمق في مجموعة هذه القصائد ، نجدها عبارة عن سياقات محفوفة بلغة بواطن التخييل المتصل بين ( مرجعية المكان ـ مرثية الذات ) و امتدادا لها نحو موضوعات كيفية و متنوعة تصب في أقصى ثريا العنونة المركزية الموسومة ب(نهارات بلا تجاعيد ) و على هذا الحال من هذه العنونة المركزية جاءتنا نزوعات وأساليب قصائد الشاعر ، كاستدلالات منبثقة في محاورها المنعكسة من مواطن قابليات خاصة من العلاقة المكانية و الزمانية و الذاتية معا . و من هنا بدءا سوف نتعامل مع قصيدة ( طريق جازان ) على أنها مرحلة شعرية مختصة بدلالات مرجعية المكان و ذائقة المكان الاسترجاعية عبر الذاكرة الشعرية :

بعض من الضوء

من شمس “جازان” * يكفي

ليزهر حقلُ الرياحِ

و ينبت وردُ الحياة بكفّي

و “جازان” مشتى الطيورِ

البعيدة

مسرى رياح القصيدة

مرسى احتضارات صيفي .

المعادلة الشعرية المعتمدة في نمو وظيفة هذه العلاقات الأولية من متن النص ، بدت كموضوعة استرجاعية ـ إيحائية ، في بث حالات أكثر حسية و واصلات (المكان ـ الذات ـ مرجعية الدال ) للوصول منها نحو إمكانية سياحية مفترضة في وصف اللحظات المعاشة من أفق المكان ، و من أفق ذلك المعطى الأيقوني من النص (بعض من الضوء ـ من شمس جازان يكفي .. ليزهر حقل الرياح ) و على هذا النحو من مخصوصية دال ( الضوء ) يمكننا تأسيس الفاعلية التصديرية الخالقة لماهية العلاقة القائمة ما بين الشمس و المد المجازي في جملة ( ليزهر حقل الرياح) اقترانا مسوغا بعلاقة المعادلة الافتراضية المؤشرة في جملة ( وينبت ورد الحياة بكفي ) و طبيعة هذه الرؤية المتناوبة ما بين الجملة الأولى و الثانية ( ليزهر حقل الرياح = و ينبت ورد الحياة بكفي ) بمثابة الرؤية التشكيلية في روح فضاء المستعار من ذاكرة ( التأثير ـ لغة المعادل ـ المعطى التمثيلي ) وصولا إلى استقصاء البعد اللحظوي و الظرفي في جملة ( و جازان مشتى الطيور البعيدة ) و تعتبر مماثلة فاعل علاقة الحال بالجمل ، كوسيلة علاقة مرسل أو كموجه أولي في محكيات مرجعيات المكان الموصوفة في الحدود الملاءمة و المتماثلة من الملفوظ الدوالي و هذا الأمر ما ينطبق على جملة ( مسرى رياح القصيدة ) و جملة ( مرسى أحتضارات صيفي ) و يمكننا فهم العلاقة المرجعية القائمة ما بين ثنائية ( جهة المكان ـ جهة الذات ) كمضاعفة إجرائية في مساحة الزمن الملفوظ ، و بذلك تبرز لنا المسافة الكينونية الواقعة  بين شعرية مقاصد البوح و جمالية الاستجابة النوعية ، كحالات علائقية منسجمة في أحوال النص الشعري .

ـ مرثية الذات و حداد مرجعية الرؤية الشعرية .

و نود هنا أن نلتفت إلى حال قصيدة ( على قارعة السحاب ) المهداة إلى روح شقيق الشاعر ، و التي هي صياغة رثائية فاجعة في دائرة الأنموذج الشعري المستحدث ، و الأهم من كل هذا أنها جاءتنا كحالة تماثلية ـ معادلة ، لحيوات أكثر تصويرية و حلمية في غاية بواطن المدهش و غير المسبوق في تداعيات أحوال الملفوظ الشعري في القصيدة :

إذ يعصفُ الظلام

بطائرٍ

ألقى جناحيه الطويلينِ

على قارعةِ السحاب

ثم غاب

تاركا إيّاي

بين زحمة الأرواح

و الجراح

و الحداد

أشقّ دربي .

ولاشك أن هذا التماثل في لحظة التوحد الممكنة و التي هي مستوطنة داخل طرقات من الوحشة و الفقدان ، من شأنها شعرنة الغياب بفقد المحبوب ، نحو تجسيد إمكانية مجازية خاصة مصدرها عتبة الفقدان ذاته ، و الذي قاد بالشاعر ـ الفاعل المنفذ ـ نحو مخاطبة الأحوال و الالتصاق بأجلى مواطن تشكيلات المعادلة الفاجعة و المتمثلة بدلالة جمل ( إذ يعصف الظلام ، بطائر .. ألقى جناحيه الطويلين .. على قارعة السحاب )و تصعد منسوبية التوغل الزمني نحو مصارعة وحشة دال الظلام ، فيما تبقى دلالة جملة ( قارعة السحاب ) بمثابة العلامة المحالة نحو مقصدية ما تكمن ما وراء العوالم العينية من زمن الغياب . و تأتلف جملة ( ثم غاب .. تاركا إياي .. بين زحمة الأرواح ) عبر المساحة المضاعفة من عمق الفقدان المصور من طرف الفاعل ، إذ تستقيم في ذاتها مع تمثيلات ( إنتاج حالة ) و تارة تتشظى و حدود القادم من دوال جملة ( الجراح / الحداد / دربي ) و تشتغل إحالات البحث لدى الفاعل الشعري في منطقة رؤيا ( الميتافيزيقيا التصورية ) إي نحو ذلك الإلتحام في رؤيا الفضاء الآخر من أحاسيس و رؤى الفاعل المنفذ :

باحثا

في ( وادي السلام)

عن وجهك المضيء

في الأحلامِ

في العيون

وواجهات العرض

عن لقطةٍ قريبةٍ

لمشهدٍ جديد .

و تنطوي موجهات المشاهد الشعرية هنا ، عبر ذلك الموصوف من مساحة العرض الدوالي ، استكمالا له لملخصات دال ( باحثا ) و اقترانا له بكاميرا تسخير الداخل و الخارج من كثافة الدلالة القيامية في حلقات الجمل ( وادي السلام / وجهك المضيء / الأحلام / العيون / واجهات العرض / لقطة قريبة / مشهد جديد ) و تنتهي اللقطات المشهدية في لائحة العرض ، ليبدأ ذلك السفر للروح و المعراج للشاعر في جولاته الحواسية و عبر تمظهراتها الدوالية المقيمة في جوهر الداخل من إحالة العوالم البرزخية المتصورة في ملفوظات علائق الرؤية :

و عند باب العالم السفليّ

يسقط الضياءُ

من عينيك

يصعدُ العويلُ

سائلا مدائن السكون :

ـ من يمسح الوحشةَ

عن وجهك يا أخاه ؟

أن حيز أفتراضات الفاعل الشعري هنا من السعة و التخصيص ، في مستوى مواقف شاعرية الاحساس بذلك الشقيق الراحل نحو عوالم قيامته ، لذا نجد أن مرجعية محددات ذلك الآخر أكثر اتساعا و تفصيلا في مهاد مخيلة الشاعر ، بل يجعل منه ذلك الاقتران بأسباب المكان و الزمان و ماهيته القيامية المؤولة شعرا : (وعند باب العالم السفلي .. يسقط الضياء .. من عينيك .. يصعد العويل ) و ما يجعل آلية الواصف الشعرية أكثر تأثيرا ، هو قدرتها على خلق واصلة تواصلية من الحلم البرزخي الواصف لمؤثثات داخلية مقرونة بتلك الاستجابة الخاصة من أداة الشاعر و خلفيته المرجعية الخالدة .. فالمواقف في جملتها المتخيلة في سياقات الملفوظ لدى المقاطع الأخيرة ، بدت كموقعية مهتاجة في استنطاق مقترحات دليل الفاعل الشعري عبر جملته الاستفهامية المعللة : ( ـ من يمسح الوحشة عن وجهك يا أخاه ؟ ) فهذه الصورة التساؤلية في ضمير المخاطب هي بحد ذاتها دليلا على أن خطوات الشاعر المتخيلة في عوالم رقاد شقيقه البرزخية ، تجسيدا فاعلا نحو الانفتاح على مناطق مرتهنة بأقصى الحسية الأدائية المشعرنة في ذروة القول الواصف ، و بذلك يمكننا القول أن فاعلية شعرية الرثاء لدى الشاعر ، تتجاوز ثقافة ( التأبين ) التقليدية ، خصوصا و أنها جاءتنا ـ أي قصيدة الشاعر ـ منظومة دلالية كاشفة لأهم مرجعيات و عتبات المكان في اللامكان و الزمان في اللازمان :

من يبلغ الإله

أن يعجّل القيامة

ليخرج المنفيّ

من منفاه؟

فيمسحُ المسيحُ

عن كاهلهِ آلامه

من يحملُ الصليبَ

عن ظهري يا أخاه؟

فالأسى

ألقى على حشاشتي أساه .

فخاصية الاستقدام في المقاطع ( من يبلغ الإله ) أو جملة ( يعجل القيامة ) توغلا نحو أكثر دلالات الاستفهام تساؤلا ، و على النحو الذي جعل من دلالة المسكون بالغياب ، أكثر اقترانا و حدود الصرخة الظرفية للشاعر و المتصلة في حدود استثمارات مرجعية خاصة من صورة المسيح و صليب المسيح ، و هذا الأمر ما جعل صليب الفاعل الشعري ، بذلك التنوع المعبر عن مدى فداحة موقفه الغارق بالفقد و الفقدان ( من يحمل الصليب عن ظهري يا أخاه .. فالأسى ، ألقى على حشاشتي أساه ) الشاعر هنا يعكس أسمى طاقته بالحس المأساوي، فهو لا يتوانى عن ترديد الشكاية بكثافة المدلول الشجني الذي ألم به لحظة الفقد ، بمعنى ما أن المدى التصوري عبر مكونات أداة الشاعر ، أصبحت مرتهنة بين صيغة الفقد و انخلاع الذات الشعرية عن حياتها المطمئنة الأولى ، لذا بدت لنا بوصفها ذلك المتأرجح بين حساسية الفقد و وحشة انتظار ملتقى ذلك الراحل العزيز :

لكنّنا

سنلتقي

ذات صلاة

خلف ساحلِ الضياء

في عُلاه

ـ تعليق القراءة :

لاشك أننا حاولنا في مجال قراءتنا لمجموعة قصائد ( نهارات بلا تجاعيد ) تقديم تلك المقاربة الأولى ، التي تتلخص في مجال ( شعرية المؤول ) و التي تتمثل في مرجعية المفترض المكاني في قصيدة ( طريق جازان ) أما ما اعتمدناه في قصيدة (على قارعة السحاب ) فيتمثل بمفهوم المحتمل النقدي منا ( مرثية الذات ) و القابلية على استنطاق عوالم القيامة البرزخية عبر أشكالها الدلالية المفترضة حصرا ، و بهذا الحال الأخير نلاحظ بأن عوالم هذه القصيدة تحديدا أخذت تتلفظ بذاتها و لذاتها طاقة مرجعية زمكانية خاصة تؤهلها إلى التحليق إلى غاية الصورة النموذجية الفاعلة من دوال فضاء التخييل و صناعة المعنى في أبعاد غيرية من البدائل المحتملة و غير المحتملة في أفق الماقبل و المابعد من بؤرة شعرية القصيدة .

                 

                     

                                

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *