مَعَالي الخِبــِل: قصة لموسى رحوم عباس

( ثقافات )

مَعَالي الخِبــِل

HIS EXELLENCY THE DUNCE

قصة قصيرة

  •  موسى رحوم عبَّاس

قلائلُ بل محظوظون هم الذين تجاوزوا الدِّراسة المتوسطة من غير أن يحملوا لَقَبًا. وعادةً يُستوحى اللقب من شكل جمجمة الملقَّب، أو أسنانه المتَّسخة، أو تملُّقه للمعلمين، أو رائحته الزَّنخة، أو مشيته، أو سرقاته للبيض أو للحم في المآدب والولائم، أو حتى من طريقته في الضحك!

محيميد (محمد) الجبراني كانت له حِصَّةُ السَّبُعِ من هذه الألقاب: “الأمْطَل” لأنَّ جمجمتَهُ أكبرُ من المعتادِ ومُربَّعة الشَّكل، و”بَطْحِيش” لضخامة بطنه ونتوئها، و”الخِبِل” لتصرفاته الخَرْقاء. لَكِنْ للحقِّ لم يكن غبيًا، ربما يتغابى أحيانًا للحصول على بعض المكاسب، كَأنْ يأكُلُ طعامَنا ويدَّعي أنَّهُ التبسَ عليه لونُ الخِرقَةِ التي لُفَّ بها الطعام، أو يستبدلُ بحذائه الممزَّقِ حذاءً آخرَ لزميلٍ في الصَّف بعد حِصَّة الرِّياضة – فنحن نلعبُ كرة القدم حفاةً – ثم يقولَ إنَّه كان مُسْرِعًا، فلم يركِّز في التعرف على حذائه. بل إنَّه في إحدى المرات انتعل حذاءً رياضيًا للمعلِّم كان قد تركه إلى جانب العارضة. فقد كانت قدمُه كبيرة ً، وكأنَّه رجلٌ مكتملُ الرُّجولة. تقاطعت طرقنا كثيرًا، تغيرت حتى أشكالنا، فَقَدَ الكثيرُ مِنَّا شَعرَهم، الصَّلَعُ صار سِمَةً شبه عامَّةٍ، الأسنانُ المتَّسخة لم تعد كذلك، توارت الألقاب التي نعرفها لتحلَّ محلها ألقابٌ جديدةٌ، بعضها يحملُ الوجَاهةَ والمكانة اللائقة، إلا محيميد. التصق به لقب “الخِبِل” رغم الإضافة الجديدة التي تتعلَّق بالعمل. فقد أصبح الرَّفيق المحامي محيميد الخِبِل وتنازل عن اللقبين الآخرين أو ضاعا في زحام الذَّاكرة للآخرين. اندغم في نظام الحلقات والأحزاب، وقاد “الجماهير” في المُسَيَّراتِ الحاشدةِ في ذكرى النَّكبة بصوته الجهير. ولا يضرُّه بطبيعة الحال تدفُّقُ لعابِه على وجوه من يحملهُ على الأعناقِ، وتخرَّج في جامعة بيروت العربية بالمراسلة حقوقيًا، وصار نقيبًا للمحامين بتوصية خاصَّة وانتُخِبَ بالإجماع.

 أخبرني سائقُهُ بِسرٍّ – هكذا وصفه – أنَّ معلِّمَهُ معالي الخِبل يضعُ في محفظته سِّنَّ ذئبٍ وخرزةَ عقيق أحمر لُفَّتْ بعنايةٍ في رُقْيَةٍ كُتبَتْ بخطِّ شيخه أبي حَيَّة، وقد أخبره أنَّها وراء ما يحققه من نجاحاتٍ وقفزاتٍ، حتَّى صار مرافقًا للقائد المحلِّي لحزبِهِ، مِثْل ظلِّه، ومُعظمُ صُورِ القائدِ في الجريدةِ تظهره – أي القائد – رجلًا ضئيلَ الجِرْمِ، يحتضنه من الخلف رجلٌ جهمٌ حادُّ الملامحِ، وبخاصَّةٍ ذلك الشَّارب الكَثُّ الذي يحافظُ عليه مُشذَّبًا يغطِّي نصفَ شفته العُليا.

 هذه صورته في افتتاحِ توسعة المشفى الوطني للمرَّة الثَّالثة، وتلك وهو يشارك في مسيرة النَّصر في ذكرى إحدى حروبهم التي لستُ متأكدًا من حصولها! وفي هذه – انظر إليه جيدًا – يسلِّم المِقَصَّ للقائد ليفتتحَ الجسرَ الذي بنته بريطانيا على نهر الفرات في أربعينيَّات القرنِ الفارطِ. صحيحٌ أنَّنا لا ننسى إضافة لقبه على كلِّ الأخبار التي تبثها القناة الثَّامنة التي تركِّز على الأخبار المحليَّة.

 هذا اليوم منذ الصباح هاتفي لا يَنِي يرنُّ، والرسائل تترى على شاشته، وكلُّها تدور على خبرٍ واحد، معالي وزير العدل محمد الجبراني في لقاءٍ مُباشرٍ مع رئيس تحرير الأخبار في القناة حول نزاهةِ القضاءِ واستقلاله، وتحقيق العدل في التَّقاضي، بينما كنا نداري ضحكاتنا بسرِّية تامَّة، ونحن نقول صاحب المعالي – معالي الخِبِل – ربما سَنُقاضيهِ على طعامِنا وأحذيتِنا المَسْرُوقةِ.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *