“غيمة يتدلّى منها حبل سميك”: القصّ فعل اشتغال وتجويد

القص فعل اشتغال وتجويد : «غيمة يتدلّى منها حبل سميك» للدكتورة أماني سليمان أنموذجًا

 

  • مجدي دعيبس

عندما قرأتُ المجموعة القصصية «جوار الماء» للدكتورة أماني سليمان داود، تسرّب إلى ذهني أنها قد استقرّتْ وبشكل قاطع على شخصيّة وملامح القصة التي تكتبها؛ فهي قصيرة جدًا وتتفاوت في شكلها بين السورياليّة والغرائبيّة والتأمليّة والرمزيّة أو مزيج من هذه وتلك. لكنّ مجموعتها الأخيرة «غيمة يتدلّى منها حبل سميك»، والصادرة عن الأهليّة للنشر والتوزيع لهذا العام، أجبرتني على مراجعة ما ذهبتُ إليه سابقًا؛ فقد كتبتْ قصصها هذه المرّة بنفس طويل ومنهجيّة مغايرة واسترسال سردي يناقض أسلوب القصة القصيرة جدًا. وهي أيضًا إن جاز التعبير قصص مشبعة تدفع بالقارئ إلى مضمار الجري فيبدو لاهثًا متتابع الأنفاس وهو يحاول تتبّع المدخلات المنثورة هنا وهناك وتأمّل المخرجات الممكنة.      

هناك قصديّة واضحة من الكاتبة للابتعاد عن المجانيّة والاستسهال الذي يجرّ القصّة إلى التّسطيح  والفراغ اللغوي والروحي والخيال المهزوز. وإذ بي أسمعها تقول صراحة: «آفة الإبداع هي المباشرة». على المتلّقي بذل جهد لالتقاط الشخصيّات والأحداث وخط الزمن والمعنى البعيد. ربما بعض القصص تحتاج لقراءة ثانية وربما ثالثة للتّمكّن منها واحتواء بنائها ورموزها ومراميها. ليستْ من نوع القصص التي يسردها الحكواتي لتسلية من جاءوا لسماع حكايات بطولة بالأبيض والأسود، بل هي على العكس من ذلك تمامًا؛ تتعمّد إغاظتك وإجبارك على التفكير والبحث والتّقصّي لاكتشاف الذّات وكشف العيوب المستترة وراء هالة من التّصنّع والكذب والرياء.  

اهتمّتْ الكاتبة بالتفاصيل الدقيقة، والوصف المتمكّن الذي يحوّل الحدث من كلمات إلى مشهد بصري متكامل الأركان من خلال لغة صافية وشفّافة يرى القارئ ما خلفها من حركة وجزئيّات تتلاحق لتشكّل الصورة الأكبر التي تعبّر عن المغزى الذي يقترن بروح القصة. هذه المشهديّة ظلّتْ حاضرة بقوّة حتى باتت أداة رئيسة تسخّرها الكاتبة كيفما تشاء وعندما تشاء، حتى يتورط المتلقّي وينغمس في السرد وينظر بعيون الشخصيّات ويتفاعل مع الحدث الماثل أمام عينيه.

الرمز الذي تعمل عليه الدكتورة أماني سليمان في بعض القصص محطة وقوف طويلة؛ لأنّه مشتق بطريقة مبتكرة ومغايرة ويحتاج لتركيز وبحث في العلاقة بين الرمز ودلالته. في قصة «ناي القحط» استخدمتْ مفهوم عصا موسى في غير سياقه المعروف، وبدل انفلاق الصخر ليظهر الماء، انفلقت العصا واستمرّ القحط على حاله. ابتعدتْ الكاتبة بالرمز عن المحاكاة المباشرة لأنها- إن فعلتْ- تكون كالكثيرين الذين استخدموا هذه العصا في بعدها الديني، لكنّ هذا التوظيف المختلف يأتي لتأكيد حرصها على تجديد الصورة ودلالة الرمز المنتزع من سياقه التاريخي ليعبّر عن حالة معاشة وواقع مرفوض. شكل من أشكال النقد لحالة النكوص التي ألقت بظلالها على كل مناحي حياتنا.

في «سلالم البوح» تؤكد الكاتبة على دور الكتابة والبوح والموسيقى وربما غيرها من الفنون في حياتنا، قد تكون من أسباب ودعائم الصحّة النفسيّة التي باتت ترفّا زائدًا في ظل هذا التّلاطم الذي أصبح فعلًا يوميًّا لا يثير الاستغراب. تقول: «وجع الحياة قاتل، والانغلاق على الوجع يحدث حالة من التّوسّع، قد تسبب الانفجار الذي يقتل، أو يشوّه على الأقل، ولعل تداول الوجع والتّصريح به والتّلويح إليه، يمنحني فرصة حضور الآخر والآخر والآخر حتى تتّسع الدائرة وأجدني في كل من حولي، هكذا أخرج من نفسي سليمًا». نظرة فلسفية وعميقة في البوح الذي قد يكون سبيل الخلاص من الضغوطات التي ترهقنا وتودي بنا للإنزلاق إلى أمراض ثنائية القطبيّة والعيش في أوهام وتهيؤات تُخرجنا من دائرة الاتّزان إلى التشتت والضياع.           

لم تغفل الكاتبة الحوار الذي جاء بمقداره الوافي دون زيادة أو نقصان ليضخّ الحياة في الشخصيّات التي تحرّكت في فضاء القصة وعبّرت عن جوانيّتها بلغة اقتصاديّة؛ حتى لا ينقطع خط السرد ويستمر تدفّق الحدث والوصف اللذين سيطرا على جسم القص وشكّلا ثقلًا رئيسًا يصعب نكرانه.  

تفاوتت القصص بين الواقعية والسورياليّة والرمزيّة وربما الغرائبيّة أحيانًا، وذلك للخروج من مثلبة الارتهان لشكل دون آخر، والتّعبير عن المكنون بأفضل السبل الممكنة. بعض القصص يناسبها شكل ما أكثر من غيره، وهنا يبرز ذكاء الاخيتار لاخراج القصة بالثوب الذي يلائمها، فتبدو ساطعة ودافئة مثل شمس نيسان. وبغض البصر عن شكل القصة وبنائها فإن الخيال اللغوي والتحرر من الجمل والعبارات المستهلكة عامل مشترك بين القصص جميعها. خصوبة اللغة والقدرة على المناورة والمباغتة وإصابة المعنى في مقتل بأقل الكلمات أمر يحسب للقّاصة التي طوّعت المفردات والتراكيب لخدمة فعل القص الذي جاء متناغمًا بعناصره المختلفة.

لم يخلُ السرد من لحظات تأمل عميقة تعكس وجهات نظر في الحياة وفي العلاقة بين الرجل والمرأة بكونهما المحب والمحبوبة أو العاشق والمعشوقة. من قصة بعنوان «بيوفيليا» أورد الفقرة التالية للدّلالة على ما أسلفتُ وأيضًا لاستشراف أجواء ولغة السرد:

 «وفكرتُ أيضًا أن كلماتي ربما تزيدها نضجًا وتغيّرها، وكلماتها تزيدني نضجًا وتغيّرني، ثم نبّهت نفسي بأن لا أقدّسها كآلهة وإلّا حوّلتها إلى حجر، الإنسان الحقيقي لا يجب أن يكون آلهة ولا ملاكًا وعليه أن يحتفي بالخطايا ويشرب نخبها، هكذا راحت الرؤى تتوالى في رأسي تباعًا، بلعتُ نفسًا عميقًا، وتنهّدت متفكرًا في أنّه لا بيت للتأويل في الحب، ففي التأويل تعدد للاحتمالات، وعلى الحبّ أن يكون صارخًا أو لا يكون».

لعلّ الخيال الحكائي الذي ظهر في بعض القصص من أبرز ما يشدّ القارئ إلى الاستغراق في السرد الذي يرفع من وتيرة الإيقاع والتشويق، فيجد نفسه «أي القارئ» أسيرًا للأحداث والشخوص التي تنبثق من بين السطور وتتوالد بسرعة مريبة حتى يتهيأ له أنّه في ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، وأنّه يقف أمام شهرزاد جديدة تنبع الحكايات من كمّها بيسر وتدفّق.    

اشتغلت الكاتبة على هذه المجموعة بنيّة مسبقة للخروج من سطوة القوالب المألوفة من حيث البناء وأسلوب العرض واللغة والخيال كما يبدو هذا واضحًا في قصة «نافذة وحيدة عالية». ذهبتْ إلى جزر غافية في حضن الزمن. بحثتْ عن حوريّات لا يشبهن اللواتي ذكرهن البحارة في أشعارهم. وعندما اقتربتْ من خط التماس مزّقتْ الأوارق وأعادت كتابة القصة. ضربة فأس موفّقة لتكسير الأصنام التي شكّلت ذائقتنا وهددتنا بالويل والثبور إن خرجنا عن طاعتها. هذا اشتغال واع يهدف إلى التّميّز والاختلاف الإيجابي في عالم متناسخ يجاهر بعلّته ولا يستحي منها. 

ويذكر أن الدكتورة أماني سليمان أكاديمية ومبدعة لها مشاركات عديدة في المنابر الثقافية، وصدر لها في القصة: شخوص الكاتبة (2011)، سمّه المفتاح إن شئت (2016) وجوار الماء (2018) التي حازت على جائزة خليل قنديل للقصة القصيرة.    

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *