البحث عن الخفّة كرد فعل على ثقل الحياة!

خاص- ثقافات

*نورة عبيد

قراءة في رواية ضائعة في المدينة لمظهر الملّوحي

للأدب – كما تجلّى لي – وظيفة وجوديّة، يبحث عن الخفّة كرد فعل على ثقل الحياة .
تجلّى ذلك بعد قراءة رواية ” ضائعة في المدينة” لمظهر الملوحي . وبانت الكتابة استعارة الجوهر الدّقيق النّاعم للكائنات
والواقعيّة في الرّواية تتخذ شكلها من الخارج والدّاخل، من العالم والذّات، من التّجربة والتّنظير.
إنّ الكلمات لا يمكن استبدالها. إنّها الزّواج الفاعل بين الأصوات و الإدراكات.
سمعت النّداء؛ نداء الغائبة ، نداء نفس أرهقتها أوزارها و أضناها القلق و الضّياع فاستندت إلى يد الله في غفوة روحيّة تاجها ابن الله و أتباعه عوسج و ندب.
القصّ ذو وتيرة خطيّة ؛ آلته الانفعال شاقّا عباب الحياة ..حياة “منى” خاليا من الرّمز و الغموض والتّناص إلاّ ما كان بفعل القراءة حيث يخرج النّصّ من لغته إلى الحياة.فكانت واقعيّة ، من بنات لساني و حالي و انفعالي ولكنّها تحملني إلى ضفاف مضادة خارج ضفاف حالها على ألسنة شخوصها.
إنّها تحملني إلى وعي مضاد ، يتخطّى خراب الأفكار المسبقة و الوعي الزّائف و الذّات المثقلة بالضوابط و المحرّمات .
إنّها تستدرجني إلى نصّ يؤسّس أخلاقيّات جديدة ، بل عاطفة جديدة ؛ أداتها قراءة خاصّة للمأساة ، تمارس ذهنيّا رواية الأعمال و الأحوال و الأقوال.
إنّ هذا النّصّ جذف ضدّ التّيار. وأعني ضدّ المنتوج الرّوائي في ستينيات القرن العشرين.

1212

فلئن سعت النّصوص الرّوائيّة المتزامنة مع “ضائعة في المدينة” إلى نبذ الايديولوجيا “الدّينيّة وتقديم  عقلانيّة جديدة، بلاغتها الواقعية و الواقعيّة الجديدة، فصاحب النّص الملوحي “مظهر” أسّس لإيديولوجيا دينيّة صريحة إلى الحدّ الذي تحوّلت معه مشارف النّهاية تنظيرا مسيحيّا بامتياز؟
النّصّ مساحة واسعة للبوح. بعض من السّيرة اطمأن لها الملوحي و أبى إلاّ أن يطلعنا عليها، لعلّه ينتشل “منى” من ذكرى السّقوط و يرسي بادرة من بوادر “العفو المسيحيّ” ؟
و هل نصدّق أنّ الواقعيّة في الأدب التزام كليّ بالموجود أم هي إعادة ترتيبه واقعيّا وفق حقيقة رامها الكاتب؟
سيرة للوقائع أقوالا و أحوالا، سمات و انفعالات تنتاب الشّخصيّات و الأشياء. إحالة على الأمكنة والأزمنة بإشارات لا تحتمل أن تنقال. كأنّك تحاكم “منى” أو تشفق عليها وكأنّك تعذرها و لم لا تلومها؟
وكأنّك تكره القسّ و تحترم الكلاب … ولعلّك تخاف المدينة و تنزوي إلى الحياة خارجها. فالحياة تحرّر الكتابة لأنّهما معا يهربان من الحاضر إلى الغد ومن الكائن إلى الممكن.
إنّ الكتابة عن مكوّنات مدينة الضّياع تقف وسطا بين الواقعيّ والمدهش، بين المعلوم 
والمجهول، بين الخطيئة والغفران. ولا أكاد أشكّ أنّ الملوحي مُرَقَقٌ بالغفران، تبّت تباشيرها بالتّشويق المزدوج؛ ذاك الذي نحته على خطّ النّمو الطّبيعيّ للأحداث وفق رؤية سرديّة من صميم المعنى؛ حركة متناميّة تتعثّر أفقيّا وتتساقط، بينما تتعالى عموديّا وتتماسك، فمن “منى” إلى “هزار” يتغيّر معنى الضّياع. ويتحوّل فعل السّقوط إلى توقيع حركيّ وفكريّ وعقائديّ أشعل الأنوار خارج دور الدّعارة ومُنتجاتها إلى نور الأدوار وغاياتها المُوقّعة للتخييل. فالذي كان مهجورا أصبح موصولا والذّي حقّ رذيلة بالإمكان خطيئة.
تلك الواقعيّة إيقاع خارجيّ وذاك التّخييل إيقاع داخليّ يتحكّم في وتيرة القصّ تعبيرا وتصويرا. كأن ينطبق الأفق والحرّ، ويتمدّد الضّياع والمدينة تمدّد البحر والجبل، و”منى” بين “رمزي” و “هيثم” في انتماء وانبتات.
بحيّ أنسامها و حرّ أنفاسها تطمئن البطلة للبوح. يمكّنها جمالها أن تستظلّ بفتنتها في هودج نقمتها.
الضّائعة ” في المدينة أصبحت معلومة، والضّياع على الحقيقة لا مجاز فيه. مأتاه من الإبهام قد يكون طيفا قادما من الإجمال، اجتمعت حوله الأوهام، لا خلاص له إلا بالأحلام.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *