شبكات الجيل الخامس 5G : الخيال العلمي واقعاً..!

*ترجمة: أحمد جمال

إذا كنّا نعتقد أن الإنترنت اليوم يستحوذ على حياتنا، فإن الجيل الخامس للإنترنت سيصل في غضون سنوات قليلة، وسيجعلنا نشتاق إلى هذه الأيّام. يستعرض هذا المقال الذي كتبه جاكسون رولينغز والمنشور في موقع “Medium”، والذي ترجمه أحمد جمال، الإمكانيّات الهائلة في هذا الطور من الشبكة، وكيف سيتغيّر العالم نحو تضمين الإنترنت في كل تفاصيل الحياة: رصد دقّات قلبنا وسلامة أحشائنا، تعقّب حركة الناس على أرصفة الشوارع، تعقّب الأحذية وحوسبة العِمارات وغيرها من التغييرات التي ستزوّد الشركات الكبرى بما لا نهاية من المعلومات عن مستخدميها في كل لحظةٍ معطاة. الخيال العلميّ هنا، الآن. 

في البدء لم يكن الإنترنت موجوداً، ظهرت بعد ذلك نسخةٌ بدائيّةٌ للغاية. ثم تلا ذلك ظهور الاتصال عبر أسلاك الهواتف وما صاحبه من مشكلات. دخلت بعد ذلك تقنيةُ الموجة العريضة (Broadband) التي رفعت من السقف نوعاً ما، ثمّ ظهر الاتصال اللاسلكيّ (WiFi)، ومعه لم نعد بحاجة للاتصال بالأسلاك. بعدها ظهر الإنترنت على الهواتف (3G)، وأصبحَ الاتصالُ بالإنترنت متاحاً في كلِّ مكان. بعد ذلك ظهر الـ(4G)، الذي وفّر لنا إمكانية الوصول إلى الإنترنت بسرعة أكبر بكثير عن ذي قبل.

 لسْتَ ملاماً إنْ كُنتَ تعتقدُ أنّ الـ5G هي مجرد تطوير آخر على ما سبقها، فالإنترنت فيها أسرع، والاتصال معها أفضل. في الحقيقة هي كذلك، ولكنها أيضاً أكثر من ذلك بكثير.  

تقترح  مجلة معهد ماساتشوستس MIT Technology Review أنّ الـ5G “يعتبر نقلةً في نمط التفكير (البرادايم) التكنولوجيّ، وأنّه شيءٌ شبيه بالنقلة من الآلة الطابعة إلى الحاسوب”. يبدو من هذا أن الأمر أكثر من مجرد إنترنت أسرع، أليس كذلك؟ إذاً، ما هي الـ5G؟

بشكل أساسيّ تُعدُّ الـ5G قفزةً ضخمةً في سرعة المعالِجَات لإنترنت الهواتف؛ أسرع بـ20 ضعفاً تقريباً من الـ4G. ما يدفع (MIT) وآخرين إلى التركيز على الأهمية الثقافيّة المُحتملة للـ5G هو أنّ السرعات العالية (إضافة إلى فتح فعّال لنطاقات ترددية جديدة/ مسارات ترددات راديو لم تستعمل في السابق) ستَسمَح بقفزات كبرى في جميع مجالات وجوانب الحياة تقريباً.

إنّنا نتحدث عن اتصالٍ دائمٍ يتجاوزُ بكثير مجرد تفقد هاتفك كلّ عدة دقائق؛ إنّها أجهزةٌ قابلةٌ للارتداء أو مزروعةٌ تحت الجلد؛ إنّها مدنٌ ذكيّة وشبكاتٌ عصبيّة. بمعنى آخر، فإنّ الأمور ستصبح خيالاً علميّاً بشكلٍ مخيف.

إنّ تطورات تكنولوجيّة عصرية كهذه، ستقوّض طريقة إدارتنا وتنظيمنا لمجتمعاتنا. لقد بدأنا لتونا برؤية الآثار الكاملة لما قد يجلبه الإنترنت إيجاباً أو سلباً. إذاً، ماذا سيعني عالم فائق السرعة ومتصل بشكل مفرط لأنظمتنا السياسية؟

في هذه المادة، سنُحلّل بعض التداعيات المتوقعة للـ5G، وماذا سيكون تأثيرُها على السياسات والاعتبارات الأخلاقيّة التي قد تنتج.

 المدن الذكيّة وإنترنت الأشياء

إنترنت الأشياء هو واحد من الآثار الكثيرة للـ5G. إذا كانت لدينا شبكة إنترنت قادرة على أن تكون دائماً على اتصال، ستكون لدينا الفرصة لمجتمعات كاملة متصلة بـ”النظم السحابيّة” Cloud إلى درجة سيكون فيها كل جهاز، أو شيء، أو مسطح، أو مبنى، أو موقع تقريباً قادراً على جمع المعلومات وتوفير خدمات ومصادر مبنية على الإنترنت.

ستكون التداعيات السياسيّة لاتصالٍ دائمٍ كهذا ضخمةً بالتأكيد، وليس أقلّ ذلك مسائلُ تخزين المعلومات والخصوصية. تخيل أن تسير في شارع في مدينتك، الرصيف نفسه سيتعقب سرعتَك التي تسير بها، نبضاتِ قلبك، الحذاءَ الذي ترتديه، الطريقَ التي تسلكها. كل هذا لتحديث معلوماتك ثم تمريرها لأي مزود خدمة أو منظمة حكومية مستعدة لشرائها.

ستتعقب نايك Nike عدد أحذيتها التي تتحرك في أي لحظة تريدها، أين يوجد أعلى تركيز لمرتدي منتجات الشركة، أو ستتعقب اهتراء ودورة حياة منتجاتها. ستراقب خرائط غوغل Google maps سرعة مشيك مقارنة مع أقرانك من نفس العمر أو الجنس أو العرق، لتقدّم لمستخدميها حساباتٍ أدق وأكثر شخصيّة للزمن المتوقع للمسار. سيتفقد موقع تندرTinder ما إذا كانت نبضات قلبك قد ازدادت عند مرورك من مستخدم آخر قد تجده جذاباً، ثم يقوم بعرض صفحته لك فيما بعد.

خذ هذا المنظور لتتخيّل ما يمكن أن تكون عليه مدينةٌ يقوم فيها كلُّ شيء بأمور مشابهة: ستعمل شبكة النقل بشكلٍ متزامنٍ تماماً لتوفير خدمات نقلٍ كافية في الأوقات المناسبة، مبنية على كمية خبطات الأقدام عبر أبواب محطاتها، ستتعقب لوحات الإعلانات مدة استقرار عينيك على صور معينة، وذلك لاستهداف الدعايات التي تتطابق مع الأمور التي تفضلها والأذواق التي تحبها.

تكاد الاحتمالات أن تكون غير متناهية، والصراحة أنها مخيفة أيضاً. ليس صعباً تخيل انحدار هذا العالم إلى العالم الفاسد (ديستوبيا). ومن وجهة نظرٍ سياسيّة، سيكون هناك العديد من التشريعات المطلوبة، وستكون هناك الكثير من الجدالات والنقاشات حول الطريقة التي نريد أن تستعمل فيها معلوماتنا، ومتى وأين. 

 ولكن في ظلّ مشهد الإنترنت فائق الاتصال الـ5G، فإن هذا النوع من التشريعات والجدالات الأخلاقية والقانونية حول الموضوع سيكون أكثر أهمية.

تقنية الكذبات العميقة والحقيقة المستبدلة Deepfakes and Altered Reality 

نعيش حالياً في عالم مليء بالأخبار الزائفة والحقائق البديلة. وفي عالم الـ5G، قد تتضخم وتتكرر هذه الثغرات في النظام السياسي إلى درجات كارثية. ربما تكون ملماً بالفعل بتقنية الكذبات العميقة Deepfakes. إنّها عبارة عن صور أو فيديوهات مفبركة بتعديلات محكمة أو غير محكمة، أنتجت عن طريق تعلم الآلة، لدرجة تصبح فيها غير قادرٍ على التفريق تقريباً بين ما هو حقيقي وما هو زائف. 

هناك فيديو مقنع ومنتشر يُقَّولُ فيه صانعُ الأفلام جوردان بييلي Jordan Peele باراك أوباما أشياءً لم يقلها ولم يكن ليقولها، انتشر بكثافة مطلع هذا العام (أي 2018)، مُحذّراً من الاحتمالات المقلقة للكذبات العميقة.

ومع الـ5G، ستصبح هذه الأجهزة المسببة للمشاكل حالياً مجرد مشاكل تافهة. لنتخيل أن هناك اجتماع عمل بين مديرين تنفيذيين لشركتي نفط برأس مال يقدر بمليارات الدولارات. وكما هو متعارفٌ عليه اليوم، فإنّ الاجتماعات عن بُعد تستخدم تقنية (3D hologram)1، هذا بفضل السرعة والاتصال التي وفرها الـ5G. لدرجة أنك تعتقد أن الاجتماع يتم بنفس الغرفة بينما في الحقيقة يكون بينهم آلاف الأميال. تخيّل أن المديرين يناقشان إمكانية دمج الشركتين، ما ستكون له تداعيات جيوسياسية ضخمة. تخيّل أن التطبيق الخاصّ بأحد المدراء التنفيذيين اختُرِق، واستُبدل بممثل مخادع باستخدام تقنية الكذبة العميقة، للموافقة على صفقة ما يزال المدير التنفيذي وفريقه غير متأكدين منها، ربما يكون من فعل هذا هم منظمة إرهابيّة.

نعم، يبدو هذا كمشهد من أحد أفلام الخيال العلميّ السيئة، ولكن بصدق، غالباً هذا هو الاتجاه الذي نسير به مع نوع كهذا من التقنيات. الاحتيال، التضليل، أو التمثيل السيء لشيء ما، أو التصديق بأمور سيئة؛ كل هذه الأمور يمكن تضخيمها عن طريق تكنولوجيا قادرة على خلق بديل حقيقة بديلة جديرة ظاهرياً بالتصديق.

كيف يمكنك أن تضع تشريعات لتنظيم مثل هذا الاحتمال أو ما يشابهه؟ يجب أن يكون هناك تحرك قوي باتجاه وجود سلسلة قوية من التصريحات (blockchain-esque) في التعامل مع أمور مثل العلامات المائية (watermarks) غير القابلة للتزوير، والاتفاقات اللامركزية متعددة الأطراف القائمة على الثقة بين الحكومات أو المواطنين أو الأعمال. نعم قد تصبح جميعها معقدة.

الرعاية الصحية والاختراق الحيوي

في ظلّ وجود الـ5G، ثمة احتمالية أن يتشكّل مجتمعٌ مغاير نذهبُ به بعيداً عن فهمنا الحالي لوجودنا الحيويّ (البيولوجي). بمعنى آخر، أن يكون هناك واقع وجود إنسان متحول أو متقدم بيولوجياً، يتم فيه تعديل ومراقبة وقياس محددات الحياة الصحيّة والبيولوجيّة باتصال دائم على الشبكة. فكر بأجهزة تنظيم نبضات القلب وشاشات مراقبة القلب، ولكن الفرق أن هذه الأجهزة ستكون شخصية ومتغيرة بناءً على المعلومات التي تصلها من المستخدم. 

ستكون ثمة كاميرات شديدة الصغر وأجهزة لقراءة الرقم الهيدروجيني داخل أمعائنا تراقب العمليات الحيوية في جهازنا الهضمي. في كل ثانية تكون هناك قراءات للدم ومسح للدماغ ورصد للتفاعلات الكيميائية. تُرسَلُ كلُّ التحديثات إلى هواتفنا (أو أيٍّ كان الجهاز الذي سنستخدمه حينها)، وكذلك إلى أطبائنا لكي يكشف عن أي نشاط غير طبيعيّ يحدث. هذا كله ليس مستحيلاً، بل مرجحٌ جداً بوجود الـ5G. 

ولكن ماذا عن التداعيات الأخلاقيّة؟ بداية، فإنّ نظاماً كهذا يفترض أنه ستكون للجميع إمكانية الوصول إليه. وبناءً على الوضع الحالي للرعاية الصحيّة حول العالم فإن هذا افتراض كبير. وقد تكون التكلفة المادية هي العامل الأساسي في حرمان الكثير من عامة الناس من الحصول عليه. 

إذاً ماذا سيحصل في هذه الحالة؟ سيكون لديك أولئك الذين يملكون، وأولئك الذين لا يملكون. أولئك الذين يملكون أجساماً مخترقة حيويّاً، وأولئك الذين لا يملكون أجساماً مخترقة حيويّاً. أولئك الذين يملكون احتمالية حياة قريبة من الخلود، وأولئك الذين لا يملكون ذلك.

 هذه اللامساواة لا تشبه أي شيء مثلها في التاريخ البشري، لدرجة فيها سنغدو أنواعاً بيولوجيّة مختلفة تقريباً. لا يبدو هذا كفكرة جيدة أليس كذلك؟

إحدى الخيارات لحل آثار التكلفة ونقص الوصول هو محاولة توفير نوع من الرعاية الصحيّة العالمية، أمرٌ سيرفع القيمة التشغيلية عن طريق جمع المعلومات وبيعها. بكل سرور ستكون شركات الأدوية وغيرها مستعدة أن تدفع لتطوير البرمجيات والأساليب إذا كانوا قادرين على تحقيق أرباح من بيع العلاجات.

 بالطبع، يعيدنا هذا إلى مشاكل التعامل مع معلومات على نطاق واسع، واحتمالية استخدامها بشكل خاطئ أو إساءة استخدامها. بشكلٍ واقعيٍّ فإنّ الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تنفذ فيها هذه التكنولوجيا على مستوى عالميّ، بدون مخاطر المشكلات التي ذُكَرَت، هي البدء بتنفيذ إعادة توزيع للثروات على مستوى عالميّ، وهذا حتى يكون الجميع قادراً على توفير هذه التكنولوجيا على مسؤوليتهم الخاصة. وهو الأمر الذي لن يحصل.

الإنترنت العالمي والاقتصادات النامية

 من الخطأ الافتراض بأن الشيء الأساسي الذي يفرّق الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات النامية هو وصول الإنترنت إلى المواطنين، ولكن هناك علاقة مترابطة واضحة. كما في عام 2016، وجد أن 81% من مواطني العالم “المتقدم” لديهم القدرة على الوصول إلى الإنترنت، بينما في العالم “النامي” انخفضت هذه النسبة إلى 40%. 

بوسع الـ5G أن يجعل كلا الرقمين قريبين من 100%. فكلّما زادت سرعة الإنترنت، كلّما باتت تكلفته أرخص لكلّ بايت (إذا ما تناولنا المسألة بصورة مبسّطة وبدائية). إضافةً إلى ذلك، فإنّ التغطية ستتحسّن في المناطق التي تعاني الآن من ضعف في الخدمة. ماذا سيعني عالم كامل متصل بالشبكة للواقع الجيوسياسي؟ 

لبلد مثل الهند حيث يصل الإنترنت فيها إلى 29% فقط من عامة الناس، فإنّ الآثار ستكون مذهلة. سيكون هناك إضافة لمليار شخص على الشبكة مع كل الإيجابيات والسلبيات التي يجلبها الإنترنت، ما سيقلب الاقتصاد العالمي رأساً على عقب. فجأةً سيصبح لديك سُبع سكان العالم، الذين كانوا خارج العالم المتقدم سابقاً، يملكون من الإنترنت ما تملِكُه الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعتين.

هل سيترجم ذلك فوريّاً إلى تطور اقتصاديّ؟ كلا ولكنه سيساهم بشكلٍ كبيرٍ بشيء من معادلة الأمور في الساحة الدولية. من بين أعلى 35 دولة في توفير الإنترنت لمواطنيها، هناك 22 منها حيث الرواتب على المستوى المطلوب لدخل الفرد. بالطبع هناك العديد من العوامل التي تدخل في هذه الحسابات، ولكن بالتأكيد أن هناك علاقة مترابطة بين إمكانية الاتصال بالإنترنت ومستوى دخل الفرد المتزايد. 

هكذا، وبطريقة أو بأخرى، فإنّ إنترنت الـ5G قد يكون تحقيقاً لحلمِ المساواة  وكابوساً من الخيال العلميّ. أي المصيرين سيُهيمن هو أمر مرتبط بتعاملنا مع هذا الإنترنت. سيجد الأغنياء والٌأقوياء بالتأكيد طرقاً لاستغلال الـ5G لتحقيق مصالح كلّ منهم الشخصية.

إذا لم نكن حذرين فإنّ جميع المشاكل الأخلاقية التي ذُكرت في هذه المادة قد تبدأ في الظهور، وإذا ترك الأمر في يد النخبة الموجودة حالياً فلن يكون هنالك رغبة لإيجاد حلول لتلك المشاكل. 

علينا استغلال الفرصة التي يقدمها لنا الـ5G كوسيلة لإعادة دمقرطة الإنترنت، وإعادة توزيع الثروات الثقافية والمعلوماتية والمالية التي يوفرها لنا. عدم قيامنا بذلك سيعني أننا سنملك اتصالاً شديد السرعة بالإنترنت، ولكن مع حرية قليلة جداً لاستخدامه كما نريد.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *