* عبدالله بن محمد
بسبب الاضطرابات السياسية والحرب، باتت آلاف الوثائق القديمة والمخطوطات الثمينة بشمالي (مالي) مهددة بالإتلاف. ومنذ عدة سنوات دقت (اليونيسكو) ناقوس الخطر ووضعت (تمبكتو) على سلم الأولويات وضمن التراث العالمي المهدد بالخطر، نتيجة الحرب التي تسببت في هدم عديد الأضرحة وحرق آلاف المخطوطات المحفوظة بالمدينة، التي حافظت على أسرارها لعقود من الزمن.
تضم تمبكتو، مدينة الزهاد، نحو خمسين ألف ساكن، ومنذ خمسة قرون، كانت مركزاً ثقافياً يشع على العالم وتستقطب إلى داخل أسوارها العلماء والأدباء، وأكثر من خمسة وعشرين ألف طالب علم، يتوافدون عليها من مصر والأندلس والمغرب. ونتيجة لذلك شهدت نشاطاً كبيراً للنشر والتأليف، تطلب بدوره عدداً كبيراً من النسّاخ والمترجمين، إضافة إلى المجلدين والمزوّقين. الباحثون والدارسون، برغم ذلك، لم يباشروا مهمة الكشف عن عشرات الآلاف من المؤلفات التي ظلت رهينة الخزائن الخشبية أو الحقائب الحديدية إلا في سنة (1970م).
في نظر الأوروبيين، كانت إفريقيا قارة متخلفة، وكانت صورة تمبكتو في الخارج، على غرار بقية المدن، بدائية ومجرّدة من كل أشكال الحضارة أو الثقافة، في ظل لا مبالاة عجيبة من المستكشفين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، وبرغم أنها كانت مدينة مشعة بعلومها وطلابها في تلك الفترة، فإن اسمها (تمبكتو) كان يوحي بالمخاطر والطرق الوعرة التي لا يمكن الوصول إليها بسهولة. كانت الغربيون يتداولون عبارة مشهورة (أبعد من تمبكتو) في إشارة إلى الطرف الآخر من العالم. وفي الواقع تناقلت الروايات ما كانت تزخر به المدينة من ثراء بفضل تجارة الذهب والعبيد والملح. واهتم الحاكم العسكري للسنغال المحتلة في ذلك الوقت بأمر تمبكتو، وشجّع المستكشف الفرنسي رونيه كاليه على الذهاب الى المدينة الممنوعة فتعلم العربية ودخلها متنكراً. وفي سنة (1853م) اكتشف عالم الأنثروبولوجيا الألماني هايدريخ باخ مخطوطات قيمة بالمدينة أهمها مخطوطة (تاريخ السودان) بالعربية وهي تتضمن تاريخ حكام المنطقة منذ أن دخلها الإسلام في القرن الحادي عشر.
وبحكم موقعها المتميز في الصحراء، عرفت المدينة اختلاطاً بين الأجناس المتنوعة، وأشعت جوهرة الصحراء في مفترق الطرق التجارية. وفي حدود القرن الحادي عشر، كان الطوارق أول من حط الرحال على بعد بضعة كيلومترات من نهر النيجر على مقربة من (تمبكتو) للتزوّد قبل أن يصل إليها التجار العرب في قوافلهم التجارية. كانت المدينة تابعة لإمبراطورية مالي الشاسعة، التي تمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى الصحراء الكبرى الشاسعة، وفي سنة (1325م) ذكر المؤرّخ كانكان موسى أن الملقب مانسا (أو ملك الملوك) قد زار مكة المكرمة للحج في قافلة تضم أربعين دابة محملة بالذهب، إضافة إلى خمسين ألف مترجل يحمل كل واحد منهم صفائح من الذهب، وزن الواحدة أكثر من ثلاثة كيلوغرامات، وعاد على أثرها الملك من البقاع المقدسة بلقب الخليفة، ومحملاً بمراسيم ومشاريع ورسومات بناء، كبناء أول مسجد بتمبكتو في المكان الذي توقف فيه في طريق عودته.
منذ القدم، كانت (تمبكتو) مركز التبادلات التجارية العابرة للصحراء. فيها يجتمع النبلاء، من أجل تبادل الأقمشة المفعمة بالألوان الزاهية المتأتية من البحر المتوسط، وبلغ النشاط التجاري درجة بالغة من التنظيم، كما توثقه تفاصيل الحسابات الدقيقة في سجلات تجارية، وخاصة أسعار المزادات لبعض المواد المتداولة كالملح والأقمشة.
وبرغم أن الفتح الإسلامي للمدينة قد تزامن مع دخول اللغة العربية إلى المنطقة، فإن تدريس العربية وانتشارها بكثافة بين السكان المحليين، تطلب قروناً من الزمن. وفي بعض المخطوطات أعيد نسخ بعض اللهجات الإفريقية وفق خصوصيات اللغة العربية، وهو ما سمح للسكان باستعمالها كلغة رسمية منذ القرن (16م). تحكم تمبكتو وفق مبادئ الشريعة الإسلامية، ويعين القضاة من طرف الإمبراطور، وهم في العادة من العائلات الكبيرة، للبت في القضايا الكبرى بين الناس في المدينة. ويخضع القانون المعمول به إلى المناقشة والمراجعة والتحيين الدوري، فتتكدس بالتالي المجلدات وتمتلئ رفوف المكتبات بالقرارات والقوانين. وفي نهاية القرن (16م) بلغت إمبراطورية صنغاي وعاصمتها قاو ذروة ازدهارها الفكري، وقد أحصى العالم أحمد بابا، الشخصية التاريخية بمالي نحو (1600) مجلد في منزله فقط، مؤكداً أن ذلك يمثل إحدى أصغر المجموعات العديدة الأخرى بالمدينة.
وتدريجياً، بدأ إشعاع (تمبكتو) وازدهارها في كل المجالات، يغري الغزاة والطامعين من الخارج. في سنة (1591م) أرسل أحمد المنصور، سلطان المغرب، قواته لاحتلال مدينتي (تمبكتو وقاو) وأرسل أحمد بابا إلى المنفى بسبب معارضته لتدخل السلطان المغربي. وهكذا دخلت جوهرة الصحراء طي النسيان ونهبت مخطوطاتها الثمينة وفقدت إشعاعها، برغم أن نشاط النسخ لم ينقطع إلا بحلول المستعمر في (1894م). وبعد استقلال مالي بمدة قصيرة في سنة (1960م) تحديداً، قرّرت الحكومة إعادة إحياء تراثها، وفتح مركز أحمد بابا للتوثيق والأبحاث سنة (1970م) بتومبكتو تحت رعاية اليونيسكو التي أخذت على عاتقها جمع واسترجاع ونسخ ورقمنة المخطوطات. وأخيراً باحت الخزائن بأسرارها للباحثين والمهتمين عموماً، وكشفت عن قصص وقصائد وسرد تاريخي لأهم السلالات الحاكمة، وأطروحات في الطب وعلم الفلك، وتفاسير القرآن الكريم وفتاوى حول مواضيع مختلفة كالزكاة والسرقة والطلاق.
وفي سنة (2005م) عثر جورج بوهاس، الباحث بقسم اللغات بالمدرسة الوطنية العليا بليون الفرنسية، مصادفة على مخطوطة في الفقه بالمكتبة الرئيسية للمدينة. حيث تبين أنها لم تتضمن الأحكام الشرعية فحسب، بل حتى قصة ذي القرنين في القرآن الكريم (الإسكندر الأكبر). كانت المخطوطة في حالة سيئة، وقد فقدت بعض أجزائها، وتولى إكمالها وترجمتها عبر مقارنتها بنسخة أخرى محفوظة بالمكتبة الملكية بالمغرب، إلى جانب مخطوطة أخرى، عبارة عن نسخة جديدة لقصة (ألف ليلة وليلة)، وكانت أكبر بكثير من النسخة الأصلية للحكاية المتداولة. في الوقت الحالي، يحتوي مركز ماما حيدرا بتمبكتو على أكثر من (45) ألف مخطوطة، من بينها ستة آلاف نسخة تم إدراجها بالفهرس حتى الآن. وبالنظر إلى كثافة المادة المتوافرة، فمن الممكن أن نعيد كتابة التاريخ الجديد لتمبكتو، حتى تتبوأ إفريقيا مكانة أرفع بين الأمم حرمت منها لعقود طويلة.
- عن الشارقة الثقافية