أغنية الصحراء


عادل خزام

أيتها الصحراء..
 
يا جلد الأرض الأملس الناعم..

تهبّ الرياح لتغسل ظهركِ كل يوم من أثر العابرين نحو المجاهل، الذين دفنوا أسرارهم في بطن الغموض وكتبوا بممحاة الريح سيرة الزوال، غير مكترثين بفكرة الخلود في الزمان أو المكان. ومن يعش في الصحراء ويعبر سابحاً في بحرها العظيم، يدرك أن كل نقش، حتى لو كان بالحديد والنار، يزول لا محالة، وكل محاولة للوقوف على رمل متحرك ستنتهي بالغرق. ولذلك ابتدع البدو أغنية الترحال الأبدي فوق مياهها المتموجة متفوقين على عناد الريح وغرورها. متتبعين خطوة القمر كلما تعرّج في قوس السماء ونثر فضته على التلال. ومن يسكن في الترحال يدرك أن الموت مصير كل الجالسين في حفر الانتظار، أولئك الذين شُلّت أرجلهم في المكان الواحد، وما عادت عيونهم ترى سوى الجدران العالية، والشاشات التي تعرض الوهم، وزجاج النوافذ المغلقة الذي يمنع النسمة من دخول البيت.

أيتها الصحراء..

وجهك الذي تغزوه التجاعيد في أول الهبوب، يعود صافياً في الظهيرة، مطلياً بلمعة السراب، خالياً من نمش الرماد الذي يخلفه المتسامرون قرب النار في لياليكِ الصافية. يتدفأون على وهج الأغاني التي بلا صدى، ولا أحد يعرف أين تذهب حكاياتهم ومواويلهم الشجيّة. لكن من ينبش بيد روحه في هذه الرمال، يكتشف أن الجهات تتساوى عند انتصاف الشمس في أفق الهجير، لا فرق بين الذاهبين والقادمين ما دامت الأرض كلها نقطة انطلاق كبيرة. لا فرق بين النازلين من تلال الأمس والصاعدين عليها. كل الدروب تتعرج في متاهة السؤال وتقود صاحبها إلى الحتف الذي كان يهرب منه.

أيتها الصحراء..

تبتسمين كل صباح في وجه الشمس وهي تصعد، مختالة بالشعاع، ترمي عباءتها فوق موجك وتمد نورها في السهول البكر. تتبعها الزهرة البريّة قبل أن تذوي في الجفاف. وأنتِ تتباهين بالذهب المنثور في أفق الدنيا متاعاً ومشاعاً لبهجة العيون التي تعطّش أصحابها وهم يفتشون في كتب الرمل عن المعنى، ولا يجدون سوى النقاء. ويقلّبون في صفحات التراب، ولا يظهر لهم سوى الرمز المحفور في دلالات التغيير، كلما انزاح ظل واختفى، كلما ظهر غيره في مكان جديد. لا شيء ثابت في الصحراء سوى قلبها الذي احتوى سرّ الكون كله.

أيتها الصحراء..

تعبر السحب الخفيفة وتذرف هتّانها على خدكِ الصافي، لكن الرياح تذروها وتفرقها بسرعة. ثم يمر الغمام فوق صدرك العريض ليتخلص من أحماله الثقيلة فيروي عطش قرون من الجفاف الذي هو أصلٌ تفرّعت من جذره سيرة الباحثين عن النبع. وكان الماء يظهر مثل عين عملاقة وسط الصحاري، عين تغمض وقت الجفاف لكنها تعود لتتفتح كلما طرقت جفونها يد المطر. والغريب أن الصحراء قد يخدشها الماء، وقد يبلل معانيها ازدحام الغيم طويلاً في الأفق وانسداد الشمس وغياب لفحتها الناعمة.

أحب الشجرة رمزاً للحياة

أحب الصحراء رمزاً لتحدي الحياة

وأحب الماء حتى لو غرقت في عذوبته ومت.

* شاعر وصحفي من الامارات

– الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *