المضيفة / قصة قصيرة


*ناصر الريماوي
( ثقافات )

عمّان تتهيأ لصيف جديد، ترمم الأجواء وتغسل النهارات من مخلفات الفصول.. كنّا على وشك التحليق حين سلّمتني حصّتي من «روزنامة» التقويم، وأفضت لي بما قالت، لم أجب، فأحسّت ببعض الارتياب لدي، غاصت نحو جيب المقعد المقابل، انتزعت منه مجلة بغلاف جذاب ملّون، حافظتْ على ابتسامتها وهي تقلّب صفحاتها أمامي، توقفت عند صفحة إعلانية، أشارت بزهو نحو ترويسة لافتة بخط عريض: «انْظُر… تهدف أمانة عمّان من خلال هذه (الروزنامات) الشهرية.. إلى ضخ أوقات إضافية في عروق المواقيت الضامرة، بقصد إنعاشها بعد فصل طويل من البيات».
«أحتاج لهذا الفائض من الوقت كي أوغل في المدينة أكثر!»، هتفتُ أمامها بانفعال. تنفّسَتْ بعمق وارتياح، قبل أن تصيبني بعدوى ابتسامتها وهي تقترب، لتشد وثاقي إلى مقعد الطائرة.
الصباحات الأولى كانت مكلفة، حيث الشارع الكهل، المتصابي… شارع «الرينبو»، بتلك اليافطة عند مدخله وهي تشير إلى خمس ورقات كاملة من دفتر التقويم كأجرة مخفّضة لاجتيازه، عبرتُ إليه بدافع الحنين وليس لغاية مرورية أخرى، كانت الخُطا المتمهلة توقظه ككل صيف، بينما الآن تكبلهُ الدهشة وهو يراني بعد هذا الغياب، يتململ ثقيلاً في مكانه ويجول بنصف إغماضة: هل نام الرصيف وحيداً هنا لعامٍ بأكمله؟! يتنحنح ثم ينحني بارتباك يلمُّ إلى صدره بقايا سهرات عتيقة، أشار إلى «جبل عمّان»، و»اللويبدة»، والميادين القريبة، قبل أن يمد لي يده لنغيب معاً في الزحام.
سلسلة الميادين التي تدور حول نفسها في النهار كانت مكْلفة وباهظة، ثماني أوراق من روزنامة التوقيت تطايرت دفعة واحدة، في الوصول إلى ميدان «باريس» باللويبدة، ومع هذا فلم أعثر على شيء، قالوا إن الميادين تستأذن باكراً لتنسحب في المساء، فهي تبحث عن مصطافين جدد، حفظتهم عن ظهر مقعد ذات يوم، عن كل عاشقين أو اثنين تأخَّرا بالمجيء، أمضيا ظهيرةً بعيدة في الجدل أو كلام الغزل.. ثم تفرّقا.
في وسط المدينة، كنتُ أبحث عن درَج عتيق تركتهُ مستلقياً على حافة الرصيف قبل رحيلي، أدراج عمّان التي تصبّ في القاع، تصل بين زمنين، والبيوت العالقة على أطرافها نبع حكايا، وعلى الرغم من سذاجة أبوابها المشرعة ونوافذها المشاع، إلا أنها ما تزال باقية، وعميقة، تكتم السرّ. وكلما نظرتُ إلى حيثُ يفترض بمطلع ذلك الدرج أن يكون، رأيتُ حيرتي تطلّ من وجهي في الرخام، وباباً معدنياً، لم يلبث أن قذف أمامي بألق ابتسامة ما زلتُ مصاباً بها. «كيف لي أن أخدمكَ؟»، سألتتْ.
– أبحث عن درَجٍ كان هنا… درج «الكلحة».
حدّقتُ في عينيها بعمق، وواصلتُ: «ثم أنتِ هي، تلك المضيفة، أليس كذلك؟».
رسمتْ خطوط دهشتها بسخاء حول ابتسامة لا تنضب، لستُ هي بكل تأكيد!
ردّت بحزم، وأنا ارتبكتُ أكثر. لمْ تتوانَ وأخرجتْ كتيباً صغيراً من حقيبتها: «أنا مرشدة، وهذه النسخة دليلك إلى كل المصاعد والأدراج الكهربائية البديلة في عمّان». وأشارت نحو ذلك الباب.
«والدّرج.. وأدراج المدينة الحجرية؟!»، سألتُ مستنكراً.
اكتفت بنزع عشر أوراق متتالية من دفتر التقويم، لقاء اشتراك وصفته بالمميز، وقالت عنه «غير محدود» ويشمل إمكانية استخدامي لتلك المصاعد عند الحاجة مجاناً، ثم ختمتْ قائلة: «عليكَ أن تفكّر بالوقت كيف تدّخره وفي ما تنفقه، مثلنا تماماً في هذه المدينة»
لم تقف حيرتي عند ذلك المكان. ففوق رصيف آخر، تحتلّهُ مظلّات صغيرة في حي «أم أذينة»، ولافتة لا مبالية تحدّق في كسل.. «ركن فروتي»، رأيتها ترتدي زيَّ النادلة هناك، سَبَقَتْها نحوي تلك الابتسامة التي حفظتُها عن ظهر قلب، وهي تضع طبق سلَطة الفاكهة بالقشطة، وتحجب عني بقامتها عبق الزهور المزروعة وسط فخاريات ملونة تسيج المكان، بدا غريباً نزوحُ الرائحة عن تلك الأصص تماماً، حتى بعد أن توارت من أمامي، ثم غيابُ المذاق المعتاد للطبق.
«كل شيء بلا طعم أو رائحة، ربّما فقدتُ إدراكي ببعض الحواس!» همستُ بصوت مرتفع، عن عمد، وهي تعبر بين المظلاّت وتمر من أمامي. استدارت نحوي، ثم رمتني بنظرة عتاب رقيقة، قالت بود: «أبداً، لكن للأشياء هنا قيمتها العفوية، انظرْ لهذا الطبق الصغير وقدرته الفائقة على اختزال تفاصيل كثيرة، من خلال تشكيل جميل للفاكهة.. ألا يُغْنينا هذا عن ولع المذاق، وكلفته المضاعفة بلا مبرر؟!».
– لم أفهم! هل هذا يبرر غياب الرائحة أيضاً عن تلك الزهور؟!
أخفتْ أوراق الروزنامة السبعة التي اقتطعتُها لها على الفور كثمنٍ للطبق في جيب مريولها الأمامي وقالت: «أما الزهور.. فلا أعرف السبب، على أيّ حال هي من مشاتل الزينة في حي الرابية».
في ذلك الحي، وأمام المظلّة التي تدلّت على جبين الواجهة الزجاجية بين عروق الزينة المنهمرة والنباتات المتسلقة، أفضيتُ لها بحيرتي، تأمّلَتني باهتمام، ثم سارعتْ باعتذار شديد عن ذلك الشبه بينها وبين المضيفة، ثم أثنت على سلامة الحواس لديّ، معلّلة بأن الذوق قد يتأثر أيضاً، وأن تنسيق الباقات بات أولوية لا تُضاهى… فالزهور تصل منزوعةَ العبق من الأساس، وتنبت هكذا بلا رائحة،
«الروائح الفذّة مكلفة!»، قالت بتأثر عميق.
لم تكتفِ، جذبتني من يدي وأشارت بنصف دائرة إلى أكمات الورد المعلّقة على أرفف التلال وواجهات البيوت وحول سياج المتنزهات في حي «الرابية»، قالت: «ألا ترى؟! بالنظر وحده، يمكننا أن نستنشق البهجة كاملة من هنا، فما حاجتنا لعبق الرائحة إذن؟».
في غضون أسبوع واحد تطايرت تسع وعشرون ورقة، ولم يبقَ من دفتر التقويم سوى صفحة الرجوع الأخيرة.
أمام بيوت صغيرة متلاصقة تسلّقت بعشوائية ذلك الجانب الصخري المرتفع والمجاور للساحة المرصوفة في «سقف السيل»، كنتُ أقف، وكان هو يطوف بيننا ببساطة توازي بساطة المكان، كان معظمُنا يحتسي الشاي مسنداً ظهره إلى الجدار بجانب الكشك الصغير المغروس في إحدى زوايا الساحة العامة، وبعضنا يجلس على حجارتها المتناثرة، بلا مقاعد مخصصة، حيث لا وجود للطاولات أيضاً.
جذبني إليه ذلك الصوت العذب إلى جانب الرائحة الدسمة وهو يشدو بمواويل حزينة بين زبائن الساحة وغلاّية الشاي. لحزم النعناع والشيح والزعتر البرّيّ المنشورة حول ذلك الكشك، أرخبيل عبق لا يقاوم، استوقفتني الرائحة صدفةً فعبرءتُ للمكان، كان للشاي أيضاً مذاقه القديم، أعاد لي صدى أمسياتي البعيدة.. فبقيت.
قال لي قبل رحيلي بيوم: «في عمّان يحطّ المسافر توّاقاً لرخام عتبات النوافذ والشرفات، ينثال كذاكرة أليفة، ثم يمضي شاسعاً كنهر، يستعيدها من درب ارتجالات لها في الصباح وهي تشرب قهوتها، أو تكلم جارتها!».
أيقظني بكلماته، فحزنتُ، سألته في حيرة: «كم مضى على وجودي هنا، في هذه الساحة؟»، رد على الفور: «أسبوع!».. «مما يعني أن الوقت لدي قد نفد، وأقلعت الطائرة من دوني»، قلت له بيأس. لكنه أشار إلى آخر الأوراق في «روزنامة» التوقيت، وقال: «لا أظن، فنحن نساير الوقت هنا، ولكننا لا نشتريه أو نبيعه، رافقتكَ السلامة». رددتُ كلماته وأنا أقبض على «روزنامتي» الفارغة وأمضي.
في بهو المطار لم أعثر على تلك المضيفة، أو أيّ فتاة أخرى تشبهها، بحثتُ عنها في كل مكان، حتى تحولتْ وجوه الناس إلى لافتات إرشادية، ولم يعد بالإمكان رصد الملامح في الشبه. أمام بوابة المطار الأخيرة، كانت هيَ، بزيّ المضيفة، تقف بانتظار الجميع، هرعتُ نحوها بارتياح عميق وكأن حملاً ثقيلاً قد زال عن صدري وأنا أراها مجدداً، ابتسمتُ لها من كل قلبي، لكنها لم تبتسم، أو تكترث..
خطفت مني دفتر التقويم، لتنتزع منه آخر الأوراق الباقية في نزق، رمقتني بنظرة معتمة وهي تؤكد في حزم: «عند الرحيل.. بوابة المطار أولاً، ثم لا شيء على الإطلاق»!
______
*قاص من الأردن/عن الرأي الثقافي 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *