-
صبري حافظ
كان غالب هلسا، عند لقائي الأخير به في ملتقى القصّة الخليجي، في الكويت، عام 1988، وقبل عام من رحيله، مشتاقاً إلى العودة إلى قاهرته، مليئاً بذكرياته الحلوة فيها، وبإحساسه بالتحقق في قلب حركتها الأدبية. كان لقاؤنا هذا بعد غياب سنوات من التشريد فرّقت أبناء رحلة العمر والتجربة الواحدة، حيث كان التشتيت واحداً من سبل الإجهاز العديدة على قوة هذا الجيل…
هذه آخر الأرض، لم يبقَ إلا الفراق
سأسوي هنا لك قبراً،
وأجعل شاهده مزقة من لوائك،
ثم أقول سلاما
زمن الغزوات مضى، والرفاق
ذهبوا، ورجعنا يتامى.
كانت هذه الأبيات من قصيدة أحمد حجازي «مرثية للعمر الجميل» تتردّد في داخلي كلّما أمسكت القلم للكتابة عن غالب هلسا منذ أن بلغني نبأ رحيله المباغت، ذات صباح شتوي قاسٍ، فاستعصت علي الكلمات. فمرثية حجازي، التي كتبها عقب موت عبدالناصر، هي مرثية هذا الحلم الشعبي الكبير الذي لما اغتالته يد الغدر اغتالت معه روح جيل بأكمله، وحكمت عليه بالغم والهم والتشتت والضياع. كانت تلك الأبيات تجيئني كلّما استعصت علي الكلمات، وأحسست، حقّاً، بمرارة اليتم، كلما تناقص عدد رفاق الرحلة الأماجد وأبناء الجيل الذي ظلّت كوكبة منه قابضة على الجمر برغم كلّ الظروف. فمن أين يُنتِج القلم، والأمر لا يتعلق هنا برثاء كاتب كغيره من الكتاب، أو حتى بنعي صديق عزيز يؤلمني رحيله، فقد علمني تساقط أعلام جيلنا غيلة الصبر على الشدائد منذ أن ساخت في الصمت أقدام محي الدين محمد، والتهمت حياةَ يحى الطاهر عبدالله سيارةٌ طائشة، وفتَّ المرض العضال في جسد وحيد النقاش ثم أمل دنقل، ومات عبدالجليل حسن في أرض غريبة بعد أن ألجمت السبعينيات قلمه الحاد الجسور.
وإنما يتصل الأمر، هنا، برثاء الذات، لأن غالب هلسا جزء عزيز من رحلة مرحلة التكوين وجسارة التجربة مع الوعي ومع الحلم بالتغيير، وبنعي مرحلة كاملة من العمر كان غالب هلسا يمثِّل أجمل وأنبل ما فيها. ويجسد بالقول وبالفعل معاً كلّ طموحاتها الزاهية التي تألَّقت في فورة الحلم في الستينيات، ثم تحوّلت إلى معاناة مقبضة عندما تكسرت قوادم الأحلام على وقع الهزيمة المزلزلة التي لم تكتمل فصولها إلّا بارتفاع أعلام العدو في أهم حاضرتين عربيتين، تشكلان مركز الثقل الثقافي العربي برمته: في القاهرة بالتطبيع، وفي بيروت بالاجتياح الدامي الذي كرّس فصول المهانة العربيّة، وبلغ بالتقوض غايته. وقد ظلّت المعاناة مستقرة في قلب كلّ من عاش أحلام الستينيات المترعة بالأمل كدملة خبيثة تنزّ ألماً وصديداً، وتسمم الجسد والروح حتى عصفت بالقلب المفعم بالحياة وهو لم يعرف بعد:
من تُرى يحمل الآن عبء الهزيمة فينا
المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسد يرتديه
أم هو الملك المدّعي أن حلم المغني تجسد فيه
هل خدعتُ بملكك حتى حسبتُك صاحبي المنتظر
أم خدعتَ بأغنيتي، وانتظرتَ الذي وعدتك به ثم لم تنتصر
أم خدعنا معاً بسراب الزمان الجميل.
كان غالب هلسا بحقّ رمزاً من رموز هذا الحلم الستيني بالثورة والمستقبل الجديد، وتجسيداً لمسيرته التي مرّت بالسجون العربيّة في عمّان، وبغداد، والقاهرة دون أن يفقد صلابته أو يتخلّى عن رغبته في الوصول إلى الوطن الحر، والشعب السعيد. وعبّر عن نفسه بالشعر والنثر على السواء على صفحات مجلّة (الآداب) منذ مطلع الستينيات؛ حيث كانت تلتقي فيها الأقلام العربيّة مجتاحة الحدود المفتعلة بين أجزاء الأمة الواحدة؛ ضاربة عرض الحائط بكلّ المخططات التي شاءت لهذه الأمة أن تتمزَّق أو تظلّ أسيرة للتخلف. كانت شخصية غالب هلسا هي المعادل العصري لشخصية جمال الدين الأفغاني الذي قرأنا أنه وفد على قاهرة في القرن الماضي فألهم جيلاً بأكمله، وأنه كان يوزع السعوط بيمناه والثورة بيسراه في مقهى «ماتاتيا» في النصف الثاني من القرن الماضي، ولكن بعد أن استوعبت تلك الشخصية النادرة مسيرة قرن كامل من التنوير والتثوير، تغير فيه الخطاب السياسي والفكري، وتبدَّلت فيه طبيعة الرؤى والاستقطابات الطبقية والاجتماعية، وتخلقت فيه خريطة جديدة للتكتلات والتحالفات، وبعد أن تخطت حاجز العمر وحاجز الزمن.
لكن الفرق بين غالب هلسا وجمال الدين الأفغاني ليس فارق مرحلة فحسب، ولكنه فارق في المنهج كذلك. فقد كان غالب هلسا متعدّد المواهب، كان مفكِّراً (كتب العالم مادة وحركة) وناقداً (له مجموعة كبيرة متناثرة من الدراسات النقدية اللامعة)، ومترجماً (ترجم جماليات المكان، ورواية سالينجر الشهيرة)، ومبدعاً ألَّف العديد من القصّ والروايات، وقبل هذا وبعده صانعاً للرؤى، ومؤسّساً للمنطلقات الجديدة. فقد تحوّلت شقته الصغيرة، بشارع التحرير في الدقي، إلى جامعة شهدت العديد من حلقات الدرس والتفكير، قلّ أن تجد نظيراً لها في أي جامعة عربية. وتحوّل شخصه النبيل إلى بؤرة تتجمع حولها مجموعة واسعة من الاتجاهات الفكرية والأدبية من (أبو المعاطي أبو النجا)، وفاروق شوشة، ووحيد النقاش، وبهاء طاهر، وحتى صلاح عيسى، وطارق البشري، وعبدالرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، مروراً بما يمكن تسميتهم بالجماعة العربية من حسين الحلاق، وخالد الساكت، وعبدالله المسعود. وبرغم كثرة معارفه وتعدد علاقاته ظلّ هناك عامل واحد مشترك في كلّ تلك العلاقات وهو النقاء، والانحياز للذين يحترمون شرف الكلمة.
كان غالب من جيلنا، ولكنه خاض قبلنا تجربة السجن، وحوّل قبلنا تجربة الحلم العربي المشترك إلى واقع مُمضٍ، لم تنجح شراسته في اجتثاث الحلم أو النيل من تألقه. وسرعان ما أصبح غالب هلسا أحد قسمات قاهرة الستينيات الفوارة بالأحلام، وفد إليها في الخمسينيات طالباً لدراسة الصحافة، وثائراً ضاق به فضاء الأردن الخانق وفضاء العراق الملكي الرجعي، ولم يستوعبه إلّا مناخ القاهرة الرحب؛ عندما كانت تلك المدينة العريقة قاهرة بحق، تياهة بعروبتها، فخورة بقوميتها، معتزة بحلمها واجترائها على كلّ المحرمات السياسية التي فرضتها، آنذاك، السطوة الاستعمارية القديمة على العالم الذي يسمونه ثالثاً.
كانت قاهرة تلك الأيام واحدة من عواصم التحرر في العالم، تنبض بالثورة على كلّ القيود، وتنفض عنها مواضعات عالم الاستعمار القديم، بل وتقود معركة التحريض الدولية على التخلص منه، وتمد يدها بالعون والمساندة والتأييد لكلّ من يريد أن يطيح به. وتتطلَّع بثقة وعزم إلى مستقبل بدا، وقتها، مفعماً بالأمل الوضيء وقابلاً للتحقق. وعندما يتم التأريخ الحقيقي لتلك المرحلة الهامة في الثقافة العربيّة سندرك حقّاً كم كان تأثير هذا الشاب الهادئ المفعم بالثورة والحياة، والذي لم يعرف دعة الاستقرار الخامل أو الهدوء السقيم، على المشهد الثقافي المصري والعربي برمته.
فلم يتعامل غالب هلسا، من البداية، مع القاهرة كمدينة جاء للدراسة فيها، وإنما كمدينة جاء للحياة فيها كمواطن عربي، يتبنى همومها، وينشغل بهاجس الثورة والتقدم فيها، وينداح في مسارب تيارات ثقافتها التحتية، يتشرب عبيرها، ويستوعب إيقاعاتها حتى أصبح من العسير علينا تصنيفه في زمن التشتت والفرقة والتجزئة هذا. فإذا كان غالب هلسا أردني المولد، فإنه مصري التكوين والثقافة والإسهام الأدبي، كما يشهد، على ذلك، عالمه الروائي والقصصي الذي انفتح على الفضاء العربي الرحب، ولكن ظلّ نبضه مصرياً حتى النخاع، وظلّت ملامح القاهرة منطبعة على تكوين شخصياته وعلى تضاريس أمكنته وعلى خرائط تواريخه. فالصوت القصصي الأساسي والمسيطر على كلّ صغيرة، وكبيرة في عالمه، بل والمحدد لمنظور الرؤية الذي يشمل كلّ التفاصيل هو صوت طالع من قلب تلك المدينة التي اختارها، لأنه يعرف حقيقة دورها وقدرها معاً. هذا الصوت القاهري الذي لا يقل قاهرية عن صوت نجيب محفوظ ابن القاهرة ومؤرِّخها الروائي، ظلّ منطبعاً على كلّ شخصيات عالمه القصصي، حتى تلك الوافدة إليها من خارجها كما هو الحال مع غالب نفسه. تعذبها مسألة الشد والجذب بين قاهرة الحلم والثورة والماضي الجميل، وقاهرة التناقضات الغريبة التي دفعت شاعراً ستينيا آخر، هو الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي اغتالته مواضعات الهزيمة، وقهر الهوان إلى تجسيد هذا كلّه في تغنيه بها:
لقاك يا مدينتي حجي ومبكايا
لقاك يا مدينتي أسايا
وحين رأيت من خلال ظلمة المطار
نورك يا مدينتي، عرفت أنني غللت
إلى الشوارع المسفلتة
إلى الميادين التي تموت في وقدتها خضرة أيامي
أهواك يا مدينتي
أهواك رغم أنني أُنكرتُ في رحابك
وأن طيري الأليف طار عني
وأنني أعود لا مأوى ولا ملتجأ
أعود كي أشرد في أبوابك
أعود كي أشرب من عذابك.
لكن غالب هلسا الذي طرده عسس الغدر والخيانة عن القاهرة التي أحبها، وخلّد الكثير من لحظاتها وتضاريسها وهواجسها في العالم الثري الذي تخلقت ملامحه على مدى سبع روايات، ومجموعتين من القصص القصيرة، لم تخلُ أحدها من عبق أيامها، لم يستطع أن يعود إلى قاهرته التي عشقها، ولو كي يشرد في أبوابها، أو حتى ليشرب من عذابها؛ لأن مواضعات الفرقة والتجزئة فرضت عليه أن يحمل جوازاً لم يختره، وأن يُستخدم هذا الجواز العربي لمرارة المفارقة ضده، فيعود إليها الخونة والأعداء؛ بينما تصدّ عن أبوابها عشاقها الحقيقيين.
فقد كان غالب هلسا، عند لقائي الأخير به في ملتقى القصّة الخليجي، في الكويت، عام 1988، وقبل عام من رحيله، مشتاقاً إلى العودة إلى قاهرته، مليئاً بذكرياته الحلوة فيها، وبإحساسه بالتحقق في قلب حركتها الأدبية. كان لقاؤنا هذا بعد غياب سنوات من التشريد فرّقت أبناء رحلة العمر والتجربة الواحدة، حيث كان التشتيت واحداً من سبل الإجهاز العديدة على قوة هذا الجيل، والعصف بفعاليته في زمن التراجع والتردي. ولم أكن أعرف أن هذا اللقاء الذي دام لأسبوع من السهر المستمر، هو لقاؤنا الأخير، وأنني سأجلس، هنا، في مدينة غريبة أخرى أتلقى فيها نبأ موته، وأذرف مع الدمع كلمات الرثاء حزناً عليه؛ لأن في أعناقنا جميعاً، هؤلاء الذين عرفوا غالب عن قرب، ديناً للذين لم يسعدهم الحظ بمعرفته. فمن واجبنا أن نتيح للذين وفدوا إلى ساحة الكتابة، ودخلوا خريطة الحياة الأدبية في القاهرة بعد غيابه عنها أن نحفر في ذاكرتهم صورة لهذا الكاتب الكبير الذي عشق تلك المدينة، وجعلها حياته بالرغم من كل الصعاب، والذي تفوق مشاركته في صياغة عقلها الحقيقي إسهام الكثيرين.
ولقد عرفت غالب هلسا منذ مطلع الستينيات، وعشت معه كل سنواتها العامرة بما في ذلك تجربة سجنه الأولى بالقاهرة في العام 1966، وقرأت كلّ ما كتب في القاهرة، وكثير مما نشره بعد خروجه من القاهرة، كان قد كتبه فيها ومعظم ما كتبه بعد ذلك، وتابعتُ عن كثب أخباره برغم أن السنوات الأخيرة قد فرقت بيننا. ولهذا سأكتفي هنا بتقديم صورة سريعة لغالب حتى يعرفه القرّاء الذين لم تتح لهم الظروف الاقتراب منه، وحتى يدركوا فداحة الخسارة: خسارتنا جميعاً.
ولد غالب هلسا في مدينة مأدبا في الأردن، عام 1932، وتوفي في دمشق في 18 ديسمبر/كانون الأول 1989، وبين التاريخين عاش غالب واحدة من أكثر الحيوات خصوبة واشتباكاً بتاريخ المنطقة الفكري والأدبي. فقد قرر، من البداية، وهو لا يزال طالباً في مدرسة المطران الثانوية في عمّان، ألا يكتفي بالمشاهدة كما يفعل الكثيرون، وعمد إلى المشاركة الفعّالة التي أوقعته في براثن الملاحقة والسجن. ففرّ إلى العراق، لكن اتصاله هناك بثواره ما لبث أن أوقعه في نفس الأنشوطة، فرحل إلى بيروت ثم إلى القاهرة التي أكمل فيها دراسته الجامعية، وتخرج من قسم الصحافة بالجامعة الأميركية فيها، ثم عمل في عدد من وكالات الأنباء. وعندما عرفته، عام 1962، في ندوة الناقد الكبير أنور المعداوي بالدقي، كان يعمل في وكالة أنباء الصين الشعبية، وحتى صاحب الندوة هذا الأبيّ الجسور الذي ترفّع عن الصغائر، واحتمى وراء كبريائه سرعان ما خطفته يد الموت.
أما نجوم تلك الندوة، من أبناء جيلنا، الذين ملأوا سماء الستينيات بالرؤى الجديدة، والكتابات الجسورة المغيرة، فما أن جاءت السبعينيات حتى انفض شملهم بعد أن عصفت بهم ضرباتها القاصمة: محي الدين محمد كان أول من خاض تجربة المنفى الاختياري الكامل، وكفَّ كلية عن الكتابة، وعبدالجليل حسن مضى هو الآخر بعد أن انقطع كلية عن المشاركة في ساحة الثقافة منذ ضربة السبعينيات، وأمل دنقل سقط تحت كلاكل المرض القاصمة، وكذلك صلاح عبدالصبور الذي كان يأتي لِماما، أما أبوالمعاطي أبو النجا، ومحمد عفيفي مطر فقد لجآ لحضن المنفى العربي، بينما سافر بهاء طاهر، وصبحي شفيق لمنفى أوروبي، وبقي سليمان فياض، وعبدالمحسن بدر، ونفر قليل معهم يخوضون حرباً جسورة بعد أن انفض الجمع.
كنا نلتقي، مساء الخميس، في ندوة المعداوي في الدقي، ويتردّد عدد منّا في ضحى الجمعة على ندوة نجيب محفوظ، ونجتمع في أوقات الظهر الحارة في فيء مقهى إيزافيتش، نسد الأود بسندويتشات فوله الشهيرة، ونواصل الجدل حول الحلم بمستقبل أفضل، وحول أوفق السبل لتحقيق هذا الحلم القريب العصي. وتلتقي كلماتنا واجتهاداتنا جميعاً لبلورة رؤى جديدة في الفكر والأدب، على السواء، على صفحات مجلة (الآداب)، وعلى صفحات (المجلة) التي كان يرأس تحريرها يحيى حقي، ويشارك فيها أنور المعداوي نفسه، وفي صفحة (المساء) الثقافية التي كان يشرف عليها عبدالفتاح الجمل، ويحيلها بحساسيته المرهفة إلى ساحة تعجّ بالحياة والإبداع.
وكان غالب من أكثرنا تفرداً، ليس، فقط، لأنه كان يجيد الإنجليزية، ويقرأ بها، في وقت لم تتح فيه تلك الإجادة لعدد كبير منا، ولا لأن قراءته المستمرة فيها أتاحت له أن يقدِّم عدداً متميّزاً من الكتب والدراسات، ولكن – أيضاً – لأنه كان قد خاض منذ بواكير حياته تجربة سياسية غنية، وعاش بسبب هذه التجربة كثيراً من الأفكار والحيوات التي كانت لا تزال مجرَّد تصوّرات نظرية بالنسبة للكثيرين منّا؛ لذلك عندما نشر دراسته الهامة «الثورة والأنموذج»، في عددين من مجلة (الآداب)، كانت تلك الدراسة بمثابة البيان الفكري لهذا الجيل، الذي كان في تبنيه لفكر الثورة القومية العربيّة الاشتراكية أكثر وعياً من الداعين لها والمستفيدين من مدّها، وأكثر قدرة على رؤية مهاوي التجربة الناصرية وسلبياتها، وأشدّ حرصاً على إيجابياتها.
فقد كانت تلك الدراسة، بل وكثير من الكتابات التي نشرها هذا الجيل في (الآداب)، وفي (المجلة) من نوع رؤى زرقاء اليمامة التحذيرية التي بكى الراحل أمل دنقل، بين يديها، حينما تحقَّقت أبشع نبوءاتها، وفات أوان التحذير. وقد أحسّ بعض أبناء هذا الجيل باقتراب الخطر، وارتفعت صرخاتهم التحذيرية حادة، في بعض الوقت، حتى أقلقت حدّتها حادي الثورة نفسها. ووجدنا أنفسنا جميعاً، في صبيحة يوم خريفي من العام 1966، في سجن القلعة، وكان معنا غالب هلسا. لم يسأله أحد عن جواز سفره في تلك الأيام، ولا فكّر النظام الناصري في أنه ليس مصرياً، ولا حاول غالب هلسا نفسه أن يستغل هذا التميز ليخرج وحده من السجن، وأن يغادر بسبب هذا التميز مصر، وإنما فضّل أن يُسجن في مصر مع رفاق الحلم الواحد والمسيرة المشتركة، وأن يتحمل بنبل وشجاعة مرارة التجربة، في الوقت الذي آثر فيه بعض «المصريين»، الذين يتمتعون بصفحات أكبر صحفها، الآن، خيانة الفكر والرفقة والمبدأ، وواصلوا بعدها حتى خيانة الوطن ذاته، ومع ذلك عاد أمثال هؤلاء الخونة إلى مصر لا لسبب إلا لأنهم يحملون جواز سفر يتنكر لهم، وينكرهم لو نطق، بينما امتنعت القاهرة على غالب حتى في أيامه الأخيرة، أليست هذه من آيات الزمن الرديء الذي لم يحتمله قلب هذا المناضل الكبير، فكفّ ذات صباح دمشقي كئيب عن الخفقان.
فقد كان غالب هلسا يؤمن بأنه جزء من الحركة الثقافية العربيّة في مصر، ومن هنا فإن المشاركة في قلب قضاياها والنزول إلى خضم معاركها أمر طبيعي بالنسبة له. وهذا هو ما فعله في العراق الذي قضى فيه عدة أعوام بعدما طُرد من القاهرة في سبتمبر/أيلول 1976، وفي بيروت التي ذهب إليها بعدما ترك العراق، وفي قلب المعركة الفلسطينية التي انخرط فيها منذ أن أُجبر على مغادرة القاهرة عنوة، واُستخدم الجواز ضده تعلّة لعقابه الأفدح بالطرد من الوطن الذي تبنّى معاركه وقضاياه، لكن مشاركة غالب هلسا لم تكن مشاركة مناضل سياسي فحسب، وإنما مشاركة كاتب ومفكّر ومثقَّف بالدرجة الأولى، خاض منذ بدايات حياته الأدبية معركة لا تقل أهمِّية عن الكثير من المعارك السياسية التي انخرط فيها، بل وتتسق كلية معها، لأن إيمانه بطهارة الكتابة لا يقل عن طهرانيته الثورية نقاء وأصالة، وهي معركة تغيير الكتابة العربيّة، وإرساء جماليات أدبية جديدة. فقد كانت مواهب غالب الأدبية المتعدّدة في الكتابة النقدية والقصصية والروائية تتجه كلّها نحو عملية تغيير الحساسية الأدبية، وتغيير مفهوم هذا الجيل لجماليات الإبداع. وعندما ظهرت مجموعة غالب القصصية الأولى (وديع والقديسة ميلادة وآخرون)، عام 1986، تجلّت فيها بوضوح ملامح تلك الحساسية الجديدة.
ومنذ صفحاتها الأولى، أثارت المجموعة قضية التعبير الأدبي، وقدَّمت حلولاً جديدة، غيّرت طبيعة الخطاب القصصي ذاته، من خلال منهج تعبيري يكتسب قيمته وأهمِّيته إذا ما تمت موضعته في السياق القصصي الأدبي الذي ظهر فيه. فقد كانت القصّة العربيّة في مصر، وفي غير مصر قد وقعت في براثن منهج تعبيري يعتمد على السرد، وينحو إلى تقديم الخلاصات الوعظية للأحداث، دون تجسيدها في حضور قادر على منح مختلف الجزئيات فيضاً من الدلالات والإيحاءات. وكان الحديث عن الشخصية؛ أخلاقها، وطباعها، وصفاتها هو المنهج الأثير في تناولها، دون الكشف عن حقيقتها عبر المواقف والأحداث، وبعيداً عن الاستقصاءات والتهويمات الاستنتاجية. ومن هنا انصب اهتمام معظم كتَّاب القصّة حتى ذلك الوقت على اعتصار مغزى التجربة التي يعبّرون عنها، لا على تقديم تلك التجربة في حضورها الطاغي المؤثّر، أو تجسيد قدرتها على الإفضاء بما تريد أن تقدمه دون تدخل من الكاتب أو تعليق منه. وقد ساهم هذا المنهج التعبيري الخاطئ في حشو القصّة بفيض من التأمُّلات والاسترسالات أو التحليلات النثرية السقيمة حول أسباب الأحداث ودوافع الشخصيات.
من الضيق بآليات هذا المنهج القديم في صياغة البنية القصصية، انطلقت تجربة غالب هلسا الجديدة في مجموعته الأولى، لتؤسس عدداً من القواعد المغايرة للكتابة، في محاولة واعية منه لتحرير القصّة المصرية من عثراتها المزمنة، حتى تتمكن من التحليق في آفاق الفنّ الرحيبة. كان غالب هلسا، الناقد الحساس للأعمال الأدبية، قد نبّه في كثير من مقالاته اللامعة في (الآداب) إلى أهمِّية التخلص من كلّ تلك الأساليب القصصية القديمة، وجاء مع مجموعته الجديدة أوان تقديم النموذج الناصع للأساليب الجديدة التي اعتمد منهج غالب فيها على الاهتمام بالخط المباشر بين العين والموضوع، وبين الموضوع والقارئ، حيث يصبح دور الفنَّان هو دور العين الحساسة الفاهمة الذكية التي تسجل ما تراه، دون أن تُجمّله أو تشوهه، دون أن تضيف إليه من حضورها الثقيل، أو أن تتكهّن بما في داخله، وإنما تقدّمه وحده من خلال أكثر زواياه قدرة على الإفصاح، وأقدرها على أن تضيء في أعماق القارئ إمكانية اكتشاف نفسه وواقعه بصورة أعمق.
فالخارج في أسلوب غالب هلسا التعبيري هو المفتاح الوحيد للداخل، وهو أوفق الأساليب في الوصول إلى جوهره بعيداً عن التكهنات الضحلة أو الأحاسيس المبهمة. هذا الأسلوب الفنّي هو الذي قدّمت مجموعة غالب الأولى (وديع والقديسة ميلادة وآخرون) ملامحه باقتدار ومهارة، منذ فترة باكرة في تاريخ هذا المنهج الجديد في القصّ. فبالرغم من تأخر صدور هذه المجموعة حتى عام 1968، فإن أحدث قصصها كُتبت عام 1962، وبعضها يرجع إلى العام 1956. وقد أدّى تأخر نشر هذه القصص في مجموعة، إلى ظهور مجموعات قبلها تتضمن قصصاً عديدة، تعتنق هذا المنهج التعبيري في القصّ، وإن كان معظمها قد تأثَّر بشكل أو بآخر بأعمال غالب هلسا وبأفكاره.
وبالإضافة إلى هذا المنهج التعبيري الذي نجد تجلياته في كثير من كتابات أبناء هذا الجيل اللامعة وخاصّة لدى سليمان فياض، وبهاء طاهر، وإبراهيم أصلان، ومحمد البساطي، فإن مجموعة غالب الأولى تلك طرحت منهجاً آخر سرعان ما أثرى القصّة المصرية والعربيّة من بعدها، وهو اللجوء إلى الموروث الشعبي كوسيلة للتعبير عن الشخصيات الأمية. فالقصص الثلاث التي تتناول موضوع المثقَّف المغترب في هذه المجموعة وهي (عيد ميلاد) و(الغريب) و(العودة) لم تستعمل الموروث الشعبي، ولا حتى حومت بالقرب منه. أمّا القصتان اللتان تتحدَّثان عن عالم القرية، وعما يدور فيه، وهما: (البشعة) و(وديع والقديسة ميلادة وآخرون) فقد لجأتا إلى استخدام الشعائر الشعبية للتعبير عمّا يدور في أعماق الشخصية، وصياغة ملامح موقفها المتميّز من العالم. فالموروث الشعبي ليس مجرَّد الشكل الخارجي للشعائر الاجتماعية، ولكنه بالدرجة الأولى محتواها، والمبلور لرؤية ممارسيها ولموقفهم من العالم.
إنه المخزون الثقافي المتوارث ببساطة وبلا كهنوت عبر الأجيال. فالشعائر العديدة التي تضعها الموروثات الشعبية للكثير من المواقف الاجتماعية والتي يتغلغل معظمها في الوجدان القومي إلى مسافات سحيقة تمتد لعشرات القرون، هي صياغة شفرية لمجموعة من الرؤى والقيم القادرة على بلورة ملامح الشخصية الإنسانية في العمل الفنّي. فهي لا تمنح الشخصية مذاقها الفريد وأصالتها، ولا تمدّ جذورها بعمق في تربة الواقع فحسب، ولكنها تصوغ معها الكثير من التفاصيل الدقيقة الراسمة للوحة المجتمعية العريضة، والناقلة لشتى مكونات الوجدان الاجتماعي ومعتقداته.
وقد استطاع غالب هلسا منذ مجموعته الأولى تلك أن يستخدم الموروث الشعبي باعتباره مجموعة من الأنساق الشفرية التي تتخلق عبرها لغة بالغة الثراء، يستطيع النصّ القصصي استخدامها ببراعة. ولا يتعارض اللجوء إلى هذه الشفرة الثرية مع منهج غالب هلسا الأثير في التعبير القصصي، لأن أغلب الموروثات الشعبية أشياء متجسّدة، وليست مجرَّدة، أفعال وأشكال إجرائية لا ذهنية، وهي مصاغة من الصور الأقرب إلى الطبيعة الشعرية، منها إلى النثر العادي. وقد وضع غالب هلسا يده على مفاتيح التعامل القصصي مع هذا المخزون المعرفي الهام، مما فتح الباب أمام استقصاءات بارعة في هذا المجال في أعمال عدد كبير من كتاب الستينيات مثل: سليمان فياض، ويحيى الطاهر عبدالله، وعبدالحكيم قاسم، ومحمد البساطي، ومحمد مستجاب وغيرهم.
وعلاوة على هاتين الإضافتين طرحت مجموعة غالب الأولى تلك قضية هامة أخرى، لا شكّ في أهمِّيتها البالغة في تشكيل ملامح الحساسية الأدبية الجديدة، وهي قضية الإيقاع. فقد كشفت قصص هذه المجموعة عن أن إيقاع القصّ هو العنصر الفاعل في تخليق العلاقات التحتية في النصّ القصصي والقادرة على بلورة بنية قصصية مُحكمة. ولذلك اهتمت مجموعة غالب بالإيقاع، وبكلّ العناصر المشاركة في صياغته، من طريقة تركيب الجملة، واختيار الألفاظ ذات الجرس الموحي، والاهتمام بوصف الطبيعة، وهو شيء غير التسخير الساذج لها بالصورة التي أصبح فيها هذا الوصف مقتضباً، وفي صلب الموضوع. ويمكن أن يتضح هذا الإيقاع الذي يهتمّ الكاتب بإبرازه منذ السطور الأولى في أي قصّة من قصصها. فلو أخذنا، مثلاً، قصّة «البشَعَة»، والتي أصبحت من كلاسيكيات القصّة العربيّة القصيرة، سنجد أن سطورها الأولى تخلق ملامح الإيقاع الذي تتماسك به بنية العمل كله. إذ نقرأ :
«أخذت الدار تعتم شيئاً فشيئاً. وتسللت الظلمة من مخازن الحبوب والتبن القصية، ثم تمدّدت على السقف. من كوة في الجدار الغربي كان يمتد حبل من الضوء، ويستقر على ظهر أحد الجالسين مكوناً دائرة مرتعشة، في داخله تتراقص آلاف الذرات. وأصوات الرجال تتزاحم في غمرة من الجُمل القصيرة السريعة. انزلق قرص الشمس وراء التلال، ولم يبقَ منه إلّا جزء صغير ضاحك، ثم سقط، فجأة، وأخذت السماء تفقد زرقتها اللامعة المخلخلة. تكوّنت غيوم وردية جعلت السماء شديدة الاتساع، ثم بدت نجمة الغروب شاحبة مرتجفة. ومن الشرق، من جوف الانحدار الصحراوي، أخذ ظلام رمادي يزحف نحو القرية. انفتح حبل النور الممتد من الكوة، وسقط الظلام على الدار مصمتاً ثقيلاً. ومع انبعاث النور من المصباح المغبش، انتهت تلك الطقوس التي ترافق انقضاء النهار».
في هذه البداية القصصية الجميلة التي توشك أن تكون لوحة متحركة، لا يحدد غالب هلسا طبيعة العالم الذي يتناوله، أو الموضوع الذي يعالجه فحسب، وإنما يرينا، ولا يخبرنا، العالم في تألّقه، ونصاعته، وقد شفّ عن الكثير من المعاني والدلالات الموحية. وأصبح الإيقاع هنا، هذا الإيقاع البطيء الواثق العادي الذي يصوغ قوانينه، هو الخيط الذي يُسلك الكاتب فيه كلّ الجزئيات، ويحمل تنويعات اللون والظلمة، بمجموعة من الرؤى والمعاني التي تتكشف عنها القصّة بالتدريج.
وقد ترسَّخت ملامح هذا المنهج المتميّز في الكتابة القصصية في روايته الأولى (الضحك) في العام 1970، ومجموعته الثانية (زنوج وبدو وفلاحون) في العام 1972، ثم تتابعت، بعد ذلك، رواياته (الخماسين) في العام 1975، و(السؤال) في العام 1979، و(البكاء على الأطلال) في العام 1980، و(ثلاثة وجوه لبغداد) في العام 1984، و(سلطانة) في العام 1987، و(الروائيون) في العام 1988. وباستثناء (سلطانة) التي تنتج من ذاكرة الطفولة في الأردن، وإلى حد ما (ثلاثة وجوه لبغداد) التي يمكن اعتبارها جزءاً من تجربة أدب الخروج المصري الذي يتعامل مع تجربة المصري في المنافي العربيّة، كتب غالب بقية أعماله الأخرى في مصر، وعن مصر، فأصبحت جزءاً من تجربة الكتابة العربيّة الجديدة في مصر، برغم بعده القسري عنها. فعالم غالب هلسا القصصي ينحت قسماته من أديم الواقع المصري، ويسجل بعداً هاماً في التجربة المصرية في الستينيات، قَلَّ أن نجد له نظيراً في أي من الأعمال التي كتبها أبناء جيله.
ففي أعمال غالب القصصية التسعة، يؤسّس هذا الكاتب الكبير ملامح تلك الحساسية الجديدة التي تعيد رسم قسمات العلاقة بين النصّ والواقع على أساس جديد. لا ينهض على المحاكاة المبتذلة للواقع، ولا على النقل عنه، وإنما يعمد إلى إعادة خلق علاقاته، وجوهر تركيبته الاجتماعية والفكرية، وإخضاع هذا كله لأيديولوجية النصّ التي تتسلل في كلّ ثناياه، كاشفة من خلال التجاور بين التفاصيل والجزئيات عن حقيقة البنية الأساسية فيه، ومقدمة من خلال تقنية النصّ، وتشابك العلاقات بين الأحداث والشخصيات، نصّاً مُضمراً، يتميّز بالثراء الدلالي والاستعاري، بينما يبدو وكأن النصّ السطحي يتسم بمضاهاة الواقع، ويعكس شتى تفاصيله.
هذا الالتباس بين التوازي والمضاهاة نابع من استخدام غالب الحاذق للزمن في النصّ القصصي، فالكتابة عنده ليست كتابة للزمن، ولكنها كتابة في الزمن، والحدث عنده لا يستهدف استحضار الحدث على الورق، وإنما كتابته أثناء حدوثه، بالصورة التي تصبح الكتابة معها حدثاً وفعلاً، لا تسجيلاً لهما. من خلال هذا الحضور الحاد يطرح غالب الكتابة في وجه الموت، وفي وجه القمع، وفي وجه السُّلطة الغاشمة؛ لأن غالب مشغول، منذ اللحظة الأولى، وعلى مدّ آلاف الصفحات التي كتبها، بالعلاقة بين المثقَّف والسُلطة من ناحية، وبين المثقَّف والناس من ناحية ثانية، وبين المثقَّف وهموم الكتابة من ناحية ثالثة.
هذه المحاور الثلاثة هي التي استأثرت بالاهتمام الرئيسي في عالمه الأدبي، وهي التي جعلت إنتاجه شهادة على مرحلة خصبة في الثقافة العربيّة برمتها، مرحلة تبلور آليات الحساسية الجديدة، لتعميق أواصر العلاقة بين المثقَّف والناس من ناحية، ولطرح الطهارة الثقافية، وأخلاقية الكتابة، وشرف الممارسة في وجه السلطة من ناحية أخرى. فالحساسية الجديدة في الكتابة ليست لها جمالياتها الجديدة، فحسب، ولكنها تنطوي في داخل بنية نصوصها ذاتها على أخلاقياتها الجديدة، كذلك، التي لا تتسامح مع ابتذال الكتابة، ولا تتهاون مع صلابتها البنائية والدلالية على السواء. ومن هنا، حملت كتابات غالب هلسا من الحسّ بالمسؤولية الثورية، ما حملته ممارساته النضالية التي سعَت إلى أن تُرسخ مكانة المثقَّف، وأن تعيد للناس ثقتهم فيه، في زمن تكاثر فيه الزيف، واختلط فيه الحابل بالنابل.
- عن الدوحة الثقافية