*حوار: لويس بورجوا ترجمة: أحمد شافعي –
لولا الخطأ ما كان هذا الحوار. كنت أعاني ويلات البحث وسط الخطب والقصائد والبيانات (المانيفستوات) استعدادا لعرض كنت أنظمه، واشتريت كتاب مارتن بوتشنر «شعر الثورة: ماركس، والبيانات، والطليعيون»، الصادر عن مطبعة جامعة برنستن سنة 2005، متصوراً أنه أنطولوجيا لبيانات القرنين التاسع عشر والعشرين. ولم يكن كذلك، بل هو تحليل مركز للبيانات السياسية والفنية من تلك الحقبة (التي كان البيان الشيوعي أمّا لبياناتها جميعاً).
أدار الكتاب رأسي، لا سيما مناقشته لانتشار كتابة البيانات في ذلك الوقت انتشاراً رهيباً. فقد كانت كتابة البيانات كثيرة للغاية، وكذلك نشرها، وتوزيعها في أوروبا (بل وفي أمريكا في نهاية المطاف) وكان هذا القالب الكتابي يلقى معاملة جدية من الحكومات والأفراد على السواء، حتى ليستشعر المرء أن الاستغراق في البيانات كان تمهيدا ولو لفترة عابرة على أقل تقدير للحروب والثورات. ولعل مما يؤكد هذه النقطة أن البيان أثبت صلاحيته كوسيط مثالي لاستعراض التعبيرات العنيفة لثقافة كانت تنحدر إلى طريق الدمار.
• • •
مارتن بوتشنر هو أستاذ كرسي بايرن وأنيتا واين للدراما واللغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة هارفرد. وله علاوة على «شعر الثورة» كتب أخرى من بينها «دراما الأفكار: المحرضات الأفلاطونية في المسرح والفلسفة» (أوكسفورد 2010)، و«رهبة المسرح: الحداثة واللامسرحية والدراما» (مطبعة جامعة جون هوبكنز 2002). وهو المحرر العام للطبعة الثالثة من أنطولجيا نورتن للأدب العالمي» (2012)، بجانب الكثير من الكتب والمراجع الدراسية. كما يكتب في الأدب والدراما والسياسة للندن رفيو أوف بوكس، وراريتان، وبوكفورَم، وغيرها من الإصدارات.
• • •
لويس بورجوا هو المدير التنفيذي لـ(فوكس بريس)، وهي منظمة فنية مقرها أوكسفورد بولاية الميسيسيبي. أعيد طبع سيرته «يوميات جار» The Gar Diaries أخيرا لدى الناشر البريطاني The Other Publishing Company. وتصدر أعماله الكاملة عن مطبعة زينوكس في 2016. بورجوا أصلا هو مؤسس ومدير «مبادرة السجن يكتب» وهو برنامج كتابي مخصص لسجناء الميسيسيبي.
• • •
لويس بورجوا: أريد أن ابدأ بسؤالين صريحين حتى يعرف القارئ منذ البداية أين نحن. أولاً ما الطليعة بالضبط، وثانياً، ما الذي حملك على كتابة كتاب كامل عن البيانات؟
مارتن بوتشنر: أول الطليعة مصطلح عسكري، معناه قوات الجيش الأمامية، أي الجزء الذي يتقدم القوات الأساسية، ويقابله المؤخرة، التي تحرس مؤخرة الجيش. وعلى مدار القرن التاسع عشر، يطوف المصطلح بعالم الفن فيكتسب فيه معنى ثانيا: جماعة من الفنانين تتقدم على من عداها. ويبقى المصدر العسكري عالقاً بالسلوك العدواني الذي غالبا ما يسلكه هؤلاء الفنانون المتقدمون. فهم، شأن نظرائهم العسكريين، يرون أنفسهم الأشد جسارة بين الجميع، الذين يمهدون الطريق لمن سواهم. وهذا الأصل اللغوي يثير سؤالاً واضحاً: ما الذي جعل عالم الفن في القرن التاسع عشر يفكر بهذه الطريقة؟ من المؤكد أنه كان هناك دائما فنانون يخرقون القواعد والأعراف الفنية المقبولة راغبين في تأسيس قواعد وأعراف جديدة. ولكن التفكير في عالم الفن كله، بأن له مؤخرة، وقوات أساسية، وطليعة، ذلك كان جديداً.
طالما كانت البيانات تفتنني وتثير ضيقي. تفتتني بسبب تلك الانفجارة المباغتة من البيانات في مطلع القرن العشرين، وتثير ضيقي (ونشوتي أيضاً) بعدوانيتها، ومزاعمها البارعة، ونبرتها الزاعقة. وقررت أن أكتب عنها كتابا حينما أدركت أن هذه الجنس الكتابي الجديد وسيلة مثالية لفهم عالم الفن في أواخر القرن التاسع عشر، عالم الفن الطليعي. ذلك كان السبب الرئيسي. السبب الثاني هو أن الثيمة العظمى للفن في القرن العشرين كانت علاقة الفن بالسياسة. وقد أريق في هذا الموضوع حبر كثير. وبدا البيان سبيلاً ملموسا إلى التعامل مع هذه المسألة؛ لأن البيانات جسر عابر على الهوة القائمة بين الفن والسياسة. وقد أتاح لي أن أرى كيف أثرت السياسة على الفن والعكس دون أن تضطرني إلى إطلاق مزاعم شديدة العمومية حول كون الفن سياسيا بالكامل أم غير سياسي بالكامل.
يبدو أن كتاب الحداثية من أمثال وايندهام لويس وإزرا باوند تبنوا البيان على مضض بعض الشيء، يبدو أنهم اقتربوا منه مشمئزين. ما الذي في البيانات أثار ضيق هذه القامات الحداثوية؟
آه، صياغة جيدة. نعم، الفنانون الأنجلو أمريكيون كانوا عازفين عن البيانات لأسباب عديدة. أولاً، كانت علاقتهم بالقارة [الأوروبية] معقدة طول الوقت، والبيانات إلى حد كبير منتج قاري، بل فرنسي إيطالي ألماني على وجه الخصوص. فكان هناك هذا السؤال: إلى أي مدى نحن راغبون في تبني هذه الصرعة القارية [الأوروبية]؟ السبب الثاني هو النجاح الفوري للبيانات. ففجأة انتشرت البيانات في كل مكان وباتت المنافسة صعبة في تلك البيئة، بات صعبا أن تبرز بيانك وتصل به إلى الأسماع. كان أحد ردود الأفعال هو رفض البيانات تماماً ومحاولة عمل شيء جديد. ورد فعل آخر كان يتمثل في تهيئة البيانات، في الإتيان بطريقة جديدة لكتابة البيانات. كثير من الكتاب الأنجلو أمريكيين اختاروا الخيار الأول، بينما اختار لويس وباوند الثاني، فلم يرفضا البيانات بالضبط، بل توصلا إلى طريقتيهما في كتابتها ودمجها في أعمالهما.
ولكنك تشير إلى باوند وزمرته بوصفهم «المؤخرة» لا الطليعة.
وسبب ذلك الأساسي هو تناقض باوند تجاه الطليعيين القاريين الذي أعتقد أنك ألمحت إليه في سؤالك السابق. لقد وجد باوند نفسه في مواجهة كل تلك التجارب الراديكالية المنتشرة في القارة، والتي تعبر القناة فتصل إلى انجلترا على شكل محاولة لإنشاء فرع لندن من المستقبلية الإيطالية، فشعر هو وزملاؤه أن هذه الغزو يهددهم فمضوا يصدون هذه المساعي. وكانت طريقتهم في هذا تعتمد على تبني بعض تكتيكات الطليعيين واستراتيجياتهم، ومنها البيانات، وكذلك من خلال إعادة توجيه هذه الطاقات الراديكالية بردها إلى طرائق تقليدية، وأن تكن تجريبية، في صناعة الفن. وينبغي أن أوضّح هنا أنني لم أقصد بالمؤخرة أنهم كانوا محافظين أو تقليديين من الناحية الفنية، فلقد كانوا يُعتبرون في إنجلترا طليعيين بالمقارنة مع الفن الإدواري. ولكن في ما يتعلق بالقارة، كان يجدون أنفسهم في موقع من يبطئ حركة الأشياء ويعيد توجيه الطاقات الراديكالية. ولما كانت الطليعية الفنية التزاما بالاستعارة العسكرية ترى نفسها في المقدمة، والأكثر راديكالية، فلم يبد أن هذا المصطلح مناسب. فاخترت، على سبيل المقابلة، مصطلح «المؤخرة».
في «شعر الثورة» تكتب بإسهاب عن التاريخ المزدوج للبيان. وقد أسرتني هذه الفقرة التي تقول فيها: «ومع ذلك فعلى أساس التاريخ المزدوج للبيان السياسي والبيان الفني، على أساس افتراض أن لا بد من كتابة تاريخ البيان الفني في القرن العشرين كجزء لا يتجزأ من تاريخ الاشتراكية، تقوم منهجيتي». كيف يناقض هذان التاريخان أحدهما الآخر وكيف يرتبط كلاهما في تجريد أكبر تمثله كلمة الاشتراكية؟
لقد حددت هذا الموضوع المثير، بتاريخه السياسي ودخوله المباغت إلى عالم الفن. ومن ثم فقد قضيت وقتاً كبيراً أفكر في التوجه السياسي للبيان. هل كان ذا طبيعة محايدة، فاستخدمه اليسار واليمين على السواء؟ للوهلة الأولى بدا أن ذلك هو الحال، بما أنه كان ثمة دائما بيانات يمينية، في عالم السياسة وعالم الفن الاثنين. ولكنني كلما كنت أزداد تفكيراً في الأمر، كان يتبين لي أكثر فأكثر أن البيان ليس محايداً من الناحية السياسية. لقد كان جزءاً من تاريخ تمرد اليسار، وذلك جزئياً بسبب تأثير البيان الشيوعي على جنس البيان الكتابي كله. كانت هناك بيانات قبل البيان الشيوعي، ولكن البيان الشيوعي غيَّر كل شيء. وهكذا وجدت أن التمرد اليساري كله بمعنى من المعاني يتجسّد في جنس البيان. وكنت لأخطئ لو تعاملت مع البيان بوصفه نوعاً أدبياً محايداً ودرسته في سياق أدبي محض، كصرعة منتشرة. الذي كان مثيراً بالفعل هو طريقة ارتباط البيان بالسياسي، لا سيما بتاريخ الاشتراكية. لقد كان البيان الشيوعي بالنسبة للاشتراكية نصاً مؤسساً، ولكنه نص واجب التحديث من وقت إلى آخر. وبهذا المعنى فإن الاشتراكية تعني مختلف المنظمات الاشتراكية من العالمية الثانية إلى العالمية الثالثة إلى العالمية الرابعة. أي الاشتراكية الرسمية لو جاز القول. في الوقت نفسه، يمثل تاريخ الاشتراكية تاريخ جماعات منشقة، فلكل جماعة بياناتها، ومن ثم كان ينبغي أن تكون دراسة البيانات جزءاً من هذا التاريخ أيضاً.
في فصل «الفاشية والثورة» تكتب أنه «كان ثمة مسار لانتقال البيان من السياسة إلى الفن، يتمثل في فكرة الطليعة». لكنني أتساءل إن كان بوسعك الحديث عن العكس، عن مسار الفن إلى السياسي. ففي نهاية المطاف، أليس هذا هو التغير الهائل الذي نرى أنه طرأ على أعمال إزرا باوند في ما بعد الحرب؟
نعم، ملاحظة في محلها. منذ أن ظهرت البيانات في الفن والسياسة وهي تتيح دراسة حركتها من بين المجالين، وفي الاتجاهين. بعبارة أخرى، لو أنك تريد أن تلاحظ كيف يسعى الفنان إلى اقتحام السياسة، فانظر إليه كيف يستخدم البيان. مارينيتي مثال ممتاز. فهو أولاً يستخدم النوع السياسي، أي البيان، فيدخله في الفن: ميلاد المستقبلية. هذه هي الخطوة المنتقلة من السياسة إلى الفن. ولكنك محق تماما في أن هناك انتقالاً في الاتجاه العكسي، ومن المثير أن مارينيتي مثال ممتاز على هذا أيضا. فقد استخدم البيان تسييسا للفن. لكنه في الخطوة الثانية، يريد أن ينقل هذه الفن حديث التسيس (المستقبلية) مرتداً به إلى السياسة. كيف هذا؟ بأن يبدأ في تشكيل جناح سياسي للمستقبلية ويفعل هذا من خلال كتابة البيانات السياسية. فهو الآن يجعل للسياسة وجهاً استطيقياً. (ولم يتركه موسوليني ينجو بذلك، وقال له حرفيا ابق في الفن لا شأن لك بالسياسة).
وقد يكون مارينيتي مثالاً شديد الوضوح على الخطوتين، لكن من الممكن النظر إلى باوند النظرة نفسها. فآراء باوند السياسية، ومنها نظرياته الغريبة في الاقتصاد والدَّين والربا تنصب على نحو شديد الإرباك في أعماله الفنية، والعكس صحيح.
هل كان مانيفستو مارينيتي المستقبلي ميلادا للفاشية الإيطالية، أم كان بمثابة مرآة ثقافية تعكس ما كان حتما من الناحية الثقافية؟
لا، لم تكن بيانات مارينيتي ميلادا للفاشية الإيطالية. بل أقول إنها صاحبتها. لقد خرج أغلب الفاشيين الإيطاليين من جديلة معينة في الاشتراكية، فانشقوا عنها مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وأصبحوا مغالية في الوطنية، ومناصرين للحرب، وما إلى ذلك. وهذا يصدق على كل من موسوليني ومارينيتي. لذلك أحب أن أقول إن ظروفا واحدة هي التي أنشأت الفاشية والمستقبلية. وأراد مارينيتي أن يجعل المستقبلية جناحا فنيا للفاشية، ولكن موسوليني أبعده. نشأت كلتاهما إذن في وسط واحد، ثم اتخذتا وجهتين مختلفتين، مع بعض التداخل المحدود.
تكتب بإسهاب عن تداخل مماثل، واختلافات أيضاً، بين الحرب والثورة، هل توجز فكرتك هنا؟
واو، موضوع كبير على الإيجاز، إنما سأحاول. الفارق الأساسي بين الحرب والثورة أن الحرب حدث يجري بين دولتين أو امبراطوريتين أو أي كيانين سياسيين، بينما الثورة حدث يجري داخل كيان سياسي واحد. بهذا المعنى، تكون الثورة أكثر شبها بالحرب الأهلية، فهي بدورها حدث عنيف يجري داخل كيان سياسي واحد. وهذا ما جعلني أقول إن الثورة قد توصف بنوع من الحرب. ولكن ليس كل الحروب الأهلية ثورات. فالحرب الأهلية الأمريكية على سبيل المثال لم تكن ثورة. فالثورة إذن حرب أهلية تسعى بالعنف إلى الإطاحة بطبقة حاكمة، وليست الطبقة الحاكمة وحسب، وإنما النظام السياسي بالكامل. هذه، في طرحي، هي فكرتنا المعاصرة عن الثورة.
مصطلح «الثورة» revolution تعرض لتحول كامل. فقد كان يعني حركة دورية مستمرة، فيقال على سبيل المثال ثورة/دورة revolution النجوم حول الشمس. لكن المصطلح اكتسب في القرن الثامن عشر معناه الراهن، أي الإطاحة المفاجئة بنظام قائم. وهذا في ظاهره يكاد يكون نقيض المعنى القديم، فما هو بحركة دورية أو مستمرة، بل تغيير مفاجئ. فلم هذا التحول في المعنى؟ من بين أسباب ذلك أن صناع الثورة الفرنسية، وهي نموذج نماذج الثورات، لم يكونوا يتصورون أنهم يحدثون تغييراً مفاجئاً. بل كانوا يحسبون أنهم يستعيدون نظاما قديما، أنهم يرجعون بالأمور إلى الزمان الذي كانت الأمور أفضل حالا فيه. وماركس يتكلم عن هذا في «الثامن عشر من برومير». كانوا يظنون أنهم يعودون إلى الماضي، يدورون راجعين revolving back. ولكن ما حدث، مثلما نعلم جميعاً، كان جديداً كل الجدة.
ما الروابط بين الفاشية والمستقبلية، وأنا أشير بصفة خاصة إلى فصل لديك عنوانه «من الثورة إلى الحرب». ربما لا يعرف غير قليل جدا من القراء أن موسوليني بدأ «اشتراكيا». أي الاشتراكيين كان؟ وما الذي كانته الاشتراكية في إيطاليا ذلك الزمان؟
نعم، كان أغلب الفاشيين الإيطاليين اشتراكيين، ومنهم موسوليني. ونقطة التحول الكبيرة كانت الحرب العالمية الأولى. كان الخط الأساسي للحزب في العالمية الثانية هو مناهضة الحرب. وهو موقف لم يهضمه عدد محترم من الاشتراكيين الإيطاليين في صيف 1914 الحربي الحماسي، فانشقوا عن العالمية الثانية. حدث هذا في كثير من الدول الأوروبية، لا في إيطاليا وحدها. ولكن في إيطاليا بالذات، تضرب الفاشية بجذور عميقة في الاشتراكية. وهذا يفسر أيضا لماذا استمرت الفاشية إلى حد ما في وصف نفسها بـ«الثورية» برغم أنها جاءت لمعارضة اليسار بعنف. حتى «الاشتراكية» في «الاشتراكية الوطنية الألمانية» لم تكن لغوا في بدايتها.
أشد ما يدهشني وأنا أقرأ «شعر الثورة» هو التكاثر الرهيب للبيانات في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كنت أعرف طبعا بالبيانات بوصفها جنسا كتابيا مهما، لكني لم أكن أعرف بمدى انتشارها. لدرجة أنك تبدو في مرات وكأنك تقول إن البيانات هي التي أسست الحربين العالميتين!
نعم، وهذا ما أدهشني أيضا، أعني كثرة البيانات. أعتقد أنه من النادر أن ينتشر جنس كتابي بمثل هذه السرعة. ولكن من المهم أن نتذكر أن بيانات كثيرة بقيت مجهولة. حتى البيان الشيوعي لم ينتشر انتشارا واسع النطاق إلا في ثمانينات القرن التاسع عشر وتسعيناته، بعد خمسين سنة من كتابته. وهذا حال كثير من اشد البيانات فنية. كان من هذه البيانات ما هو معروف على نطاق واسع، لا سيما بيانات المستقبليين فقد كان مارينيتي ممتازاً في العلاقات العامة. ولكن بقي الكثير، الكثير، منتجات محدودة التوزيع. وقد شكّل ذلك تحديا مثيراً لي. فالبيانات، وانتشارها الرهيب، كانت تقبض على شيء ما جوهري في ذلك الزمن. وفي الوقت نفسه كنت بحاجة إلى الحذر كي لا أقع في أسر بلاغتها. فالبيانات تبالغ أكثر ما تبالغ في أهميتها وتأثيرها. أو ببساطة، أغلب البيانات، أو ربما جميع البيانات، فشلت، على الأقل في ضوء معاييرها المتطرفة. فما كانت تريده، في نهاية المطاف، هو أن تغير العالم، ومن الصعب تغيير العالم. وماركس كان يعلم هذا أفضل من أي شخص سواه، حينما كتب السطر الأول في «الثامن عشر من برومير» حيث يقول إن «الناس يصنعون تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم لا يصنعونه في ظروف ينتقونها بأنفسهم». كثير من البيانات عاكست هذه الحقيقة وأرادت أن تصنع التاريخ على هواها. فكان لزاما عليّ أن أجد سبيلا إلى الكلام عن فشل البيانات الفردية. وفعلت ذلك بالتفرقة بين البيانات الأدائية والبيانات المسرحية. فلقد انتهى الحال بكثير من البيانات إلى أن تكون محض «مسرحية» دون أن تمتلك القوة اللازمة لتغيير العالم فعلياً. في الوقت نفسه، تبيَّن لي أنه بينما فشل كثير من البيانات الفردية، بل أغلبها، إلا أنها كجنس كتابي غيَّرت العالم. لا بإحداثها حروباً أو ثورات بصورة مباشرة، بل بتوضيح أفكار، وتحديد ملامح مزاج. وبهذا، ما من شك في أن البيان الشيوعي واحد من النصوص صاحبة التأثير الفعلي.
ما قولك في «شعر الثورة الجديد» المتخفي في القرن الحادي والعشرين؟ إنني أنظر في كل مكان فلا أرى له أثرا، في أي مكان.
كلما اقتربت من الزمن الراهن، ازدادت صورة تاريخ البيانات تشوشا، وليس هذا مدهشا في ما أفترض. الحاضر مربك دائماً، وتعوزنا المسافة التاريخية اللازمة لكي نراه بوضوح. غير أن شيئاً ما بدا واضحاً: هو أن لحظتنا الراهنة شديدة الاختلاف عن الاهتياج الثوري في النصف الأول من القرن العشرين. وهو ما انعكس في تراجع البيانات كما هو متوقع.
في الوقت نفسه، أدهشتني حقيقة أن البيان لا يزال يكتب حتى في أيامنا هذه، وإن يكن بشيء من التردد. لا سيما في عالم الفن. هناك توق إلى البيانات والمنظمات الثقافية المختلفة كالجاليريات والمجلات تستكتب الفنانين أو تشجعهم على كتابتها. وفي السياسة يحدث شيء مماثل. فقد ثار جدال بين المشاركين في حركة «احتلال» حول ما إذا كان عليهم أن يكتبوا بياناً. لم يكتب بيان لهذه الحركة، لكن محاولات بذلت في هذا الاتجاه، من قبل مجلة N 1 على سبيل المثال. وهكذا، من جديد، فإن ثمة إحساسا بأنه لا يمكن كتابة البيانات مثلما كانت تكتب من قبل، بأن زماننا مختلف، ولكن هناك في الوقت نفسه صراعاً مع هذا الاختلاف، وفي أوقات يكون هناك توق إلى البيانات، أو شيء ما يشبه البيانات. هذا ما يسم زماننا في ما يتعلق بالبيانات بالنسبة لي.
كنت أرجو أن توضح مواقف الجماعات الطليعية اللاحقة: الحرفية Lettrists وحركة باوهاوس التصويرية الدولية. وقد حاورت صديقا ذات يوم حوارا مطولا بالفرنسية، / هو الحرفي المتشدد رولان ساباتييه، وما زلت لا أعرف شيئا عما كانت الحرفية تسعى إلى تحقيقه.
لا بد أنها كانت تجربة وأي تجربة. الحرفية اليوم ترى بوصفها تمهيدا للموقفية Situationism برغم أنها كانت أقل صراحة في نزعتها السياسية. ومن سمات الموقفية اللافتة التشكيك في الفن ونقد طليعة بداية القرن العشرين، بما فيها السريالية، باعتبارها أقل راديكالية مما ينبغي. يمكنني القول إن الحرفية رابط بين الطليعية الأولى والموقفية. أعتقد أنك لا تعرف ما الذي كانت الحرفية تحاول إنجازه، لأنهم شخصيا كانوا لا يعلمون ما الذي يسعون إلى إنجازه. ومع حركة كهذه، لا يكون الأمر متعلقاً ببرنامج واضح أو أهداف محددة، بقدر ما يتعلق باتخاذ موقف مستفز، تبني حساسية تحاول الارتباط بعالم الفن الطليعي في ما قبل الحرب العالمية الثانية، من قبيل تحريضات كاباريه فولتير الدادية على سبيل المثال. والمشكلة أن العالم في ما بعد الحرب العالمية الثانية كان شديد الاختلاف، ولذلك لم تجد الحرفية لنفسها مكانا على الإطلاق. واحتاج أولئك الطليعيون القادمون إلى خمسة عشر عاماً ليجدوا سبيلاً إلى تأسيس طليعة لأوروبا ما بعد الحرب.
كيف لفكرة «السينما المضادة» أن ترتبط بطرحك حول البيان؟
الموضع الذي تقاطع فيه مشروعي مع السينما الراديكالية يتمثل في شخص جي ديبور. كنت أعرف ديبور من «مجتمع الفرجة» Society of the Spectacle، وهو نقد للصورة، أو محاولة لتحديث النقد الماركسي لعصر الميديا الجديدة، لا سيما الإعلان، والسينما، والتلفزيون. لكن المثير أن ديبور لم يرفض صناعة الصور كلها. بل أقام طريقة لمقاومة الصورة بالصورة، نوع من النقد الصوري الذاتي. وقاده ذلك إلى عمل نسخة فيلمية من «مجتمع الفرجة»، كان عبارة عن كولاج من الصور مع مقتطفات من البيان. فهو نوع من المواجهة بين البيان والسينما. ولم يكن ديبور طبعا الوحيد الذي مارس هذا النوع من السينما المضادة. الأشهر منه كان جودار، ومن هنا سر كراهية ديبور لجودار. ولكن الخطوة الأساسية في تقديري هي هذه: في عالم مشبع بالصور، أي نفع للسينما؟.
وإكمالاً للدائرة: ما الطليعية في القرن الحادي والعشرين؟
نحن نمر بثورة ميديا أشد تطرفاً من مثيلتها في مطلع القرن العشرين. يمكنني القول: إن طليعة القرن الحادي والعشرين ينبغي أن تجد سبلا إلى استخدام وسائطنا على نحو ناقد ابتكاري مستفز. عليها أيضاً أن تكون جزءاً من التحليل السياسي للحظتنا، وتترجم هذا التحليل إلى حزمة من المواقف والمطامح. ولئن بدا هذا غامضاً، ففي ظني أنه يجب أن يكون كذلك. فالتنبؤ بالمستقبل مهنة الحمقى. وتاريخ البيانات خير دليل على هذا.
*عن رين تاكسي/ صحيفة عُمان