غالب هلسا.. الكتابة بمنطق حلم اليقظة



نضال حمارنة*


خاص ( ثقافات )

مزاولة الارتحال والكتابة

وُلد غالب هلسا في قرية (ماعين ـ محافظة مادبا ـ الأردن) بتاريخ 18 ـ 12 ـ 1932 وتوفي بدمشق في 18 ـ 12 ـ 1989، في سن الرابعة عشرة فاز بالجائزة الأولى في مسابقة للقصة.

أنهى دراسته الثانوية بعمان ـ مدرسة المطران ـ وتوجه إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأميركية ـ قسم الصحافة ـ بعد عام اُعتقل في طرابلس، ثم لاحقته السلطات في بيروت، فعاد إلى الأردن وسُجن في سجن المحطة ـ عمان ـ ونُقل بعدها إلى معتقل الجفر الصحراوي، ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية في مدينة مادبا ـ كتب في روايتي الضحك، والبكاء على الأطلال عن أجواء هذه الفترة بطريقة الفلاش باك، وقد حاول فرد الصور ولملمتها مع صور حياته وواقعه الجديد في القاهرة فأحال أوجاعه وحنينه إلى فهم جديد لغاية الحياة ذاتها.

متجاوزاً التشنج الإقليمي، ومتلمساً أبعاداً أكثر غِنى لعوالم عاشها وخبرها فاستطاع أن يقدم رؤية تحليلية منفتحة وجديدة في الرواية العربية.

سافر إلى العراق لكنه اُعتقل عام 1954 ورُحِّل إلى الأردن، غادر إلى القاهرة لاستكمال دراسة ـ الصحافة ـ في الجامعة الأميركية والتي أنهاها في عام 1958.

في البداية أقام في القاهرة لأسباب سياسية خارجة عن إرادته وعمل في وكالة الصين الجديدة.. كان له حضور مميز في الحياة الثقافية المصرية، وشارك كذلك في الحالة السياسية وتجدر الإشارة إلى أنه تلقى تدريباً عسكرياً عام 1956 وتوجه إلى الإسماعيلية ـ كان وقتها ما زال طالباً في الجامعة ـ مع زملائه المصريين للمساهمة في مقاومة العدوان الثلاثي، وفيما بعد اعتُقل في مصر مع زملائه اليساريين عام 1966.

عشق مصر.. وأتقن اللهجة المصرية وظل يتحدث بها إلى آخر يوم في حياته.. هذا العشق كان يدعوه دائماً لأن يكتب عن طقوس بشرها وحياتهم اليومية المشحونة بالبهجة والسخرية، عن مصاعبهم وإشكالات الحراك الاجتماعي والسياسي الذي عايشه وشارك فيه كواحد منهم.

إلا أن الطبعات الأولى لكتبه ورواياته ـ باستثناء رواية الخماسين ـ كانت تتم في بيروت لأنه وعى تماماً أن بيروت أوكسجين الحرية الذي تحتاجه رئة المثقف العربي لتتحول أوراقه إلى كتاب مطبوع دونما حذف أو تعديل.

إضافة إلى قدرة بيروت وخبرتها العريقة في طبع وترويج وتوزيع الكتاب (مؤلفاً أو مترجماً) في البلاد العربية والعالم.

عمل في وكالة الأنباء الألمانية.. وقد نقل أجواء تلك المرحلة في روايته الخماسين.. حين ترك العمل بعد أن أغلقت الوكالة أبوابها ـ أعطى جزءاً من التعويض المادي الذي حصل عليه للرجل الذي كان يجلب له الصحف والمجلات والمطبوعات ليشتري كشكاً خاصاً به. والباقي وهبه لصديقه المبدع المعروف مساهمة في تسريع زواجه ليس من باب (المنة) كما قال غالب وإنما من باب الاستحقاق.. بذلك لم يحتفظ لنفسه من التعويض (بمليم أحمر) كما يقول المصريون.

أوقفته السلطات المصرية عام 1976 إثر قراءته بيان المثقفين المصريين احتجاجاً على زيارة السادات للقدس وأجبرته على الرحيل.

أنجز في مصر أغلب رواياته الضحك ـ البكاء على الأطلال ـ الخماسين ـ السؤال ـ وفي مرحلة متأخرة نشر الروائيون.

أقام في بغداد لثلاث سنوات عمل خلالها في مجلة الأقلام وكتب في صحف أخرى عديدة، وشارك كعادته في الحياة السياسية والثقافية العراقية.. كتب عن تجربته في العراق رواية ـ ثلاثة وجوه لبغداد ـ والتي نال بسببها عزوفاً ونفوراً من رفاق الأمس ومن القادة السياسيين في المعارضة العراقية آنذاك.. وللذكرى أيضاً فقد حصد نفس التشنج والجحود من قبل القادة السياسيين في المعارضة الأردنية عن روايته ـ سلطانة ـ مع أن هذه الرواية بالذات حملت في طياتها كمروية حقيقية تبدل حياة الناس في الأردن، في القرية، في المدينة الأكبر، في العاصمة المتكونة حديثاً ـ البداوة، الزراع، الانتماء إلى القبيلة، إضافة لتحليله الخاص لتفكيك البنية القديمة وبداية تكوين بنى جديدة في هيكلية المجتمع الأردني الحديث مع تركيزه على الثقافة الشفاهية لأبناء المناطق المختلفة.

في عام 1978 انتقل للعيش في بيروت والتي غادرها أيضاً في أيلول 1982 على ظهر باخرة مع المقاتلين الفلسطينيين إلى عدن. سافر بعدها إلى إثيوبيا ومنها إلى برلين بعد عام عاد إلى دمشق واستقر فيها حتى يوم وفاته في 18/ 12/ 1989 نقل جثمانه في اليوم التالي ليدفن في الأردن.

من أبرز نتاجاته في تلك الفترة في الدراسات والنقد ـ المومس الفاضلة ومشكلة حرية المرأة ـ قراءة نقدية لأعمال الصهيوني عاموس عوز وترميزاته. المكان في الرواية العربية ـ العالم مادة وحركة: دراسات في الفلسفة الإسلامية. 

ومن ترجماته ـ جماليات المكان لغاستون باشلار ـ فوكنر لمايكل ملجيت ـ الحارس في حقل الشوفان ـ رواية لـ”سالنجر”. 

مقاربة نقدية

الروائي غالب هلسا أحد المجددين الكبار في الرواية العربية وما زال إبداعه بحاجة إلى إعادة دراسة وتمحيص، ليس فقط لأنه عبر نفق التقليدية الكلاسيكية وسعى إلى أشكال جديدة أكثر قدرة على تجسيد لحظاتنا وأزماننا الخاصة، بل لأنه كان بارعاً في اختيار الملامح البنائية الحداثية التي نقلت روح الأماكن العربية مع تباين خصوصياتها – الأردن- مصر- العراق- واستنطاق حواس وتمزقات بشرها والبحث معهم عن الحل عن الخلاص.

لم ينفصل غالب هلسا عن إبداعاته.. فبقدر ما كان جريئاً وشفافاً في كشف الأغطية عن دماملنا وأوجاعنا، عن المسكوت عنه، ومتمرداً على الشكل والسرد التقليدي في المرويات.. كان في حياته معارضاً ومُناكفاً لكل ما هو تقليدي وثابت ومعوّق. كان ناقداً لاذعاً، رقيقاً وحازماً مع أصدقائه، كريماً وذكياً، مشاكساً وساخراً في تعليقاته وبعيداً كل البعد عن الحسابات والتكتيكات من أجل حظوة أو مال أو.. أو.. فقد كرّس حياته لمشروعه الإبداعي والثقافي.. وليس من أجل سلطة أو نفوذ ما (ثم انحبس الصوت في داخله، وتلاشى. لم أفعل شيئاً في حياتي سوى تسجيل مواقف، ولكنه يسمع الصوت، صوته هو، آتياً من خارجه. فوجئ بغرابته وعذوبته. ص326) لم يكن أحادي الثقافة وهو خريج الجامعة الأميركية- قسم الصحافة- بالإضافة إلى ثقافته المسيحية المشرقية، درس التراث الأدبي العربي والفلسفي الإسلامي وكان مهتماً بنتاج المعتزلة على وجه الخصوص. وبقدر ما أعجب بفوكنر الأميركي وترجم له وتأثر به، كذلك ترجم غاستون باشلار الفرنسي إلى القراء العرب وتأثر بمنهجه تحديداً ما يتعلق بالمكان وتأثيره على سيكولوجية الشخصية..

اهتم غالب بخصوصية المكان كفضاء له طابع خاص وملامح مميزة تكشف أثرها على فسيفساء حياة البشر فيه.

في رواية (ثلاثة وجوه لبغداد) تمرد على الراوي العارف، وجعل الراوي يعاني من الانشقاقات والهذيانات التي يعيشها شخوص المروية.

أما في رواية الضحك استجمع أكثر من راوٍ ولجأ إلى أزمنة القص المتعددة وتباين الأمكنة في داخل النص الواحد. واستفاد من تقنيات عديدة منها المونولوج والاسترجاع، التداعي، ومن مستويات اللغة، فمن السرد الأدبي المشغول عليه إلى لغة الصحافة والوثائق إلى لغة الحياة اليومية الشفاهية، ولغات الفنون المختلفة (السينما، أغاني الفلكلور، الأيقونة الدينية)

(من أجل أن أكتب قررت أن أعقد اتفاقاً مع الحياة: أن أسالمها وأتجنب صراعاتها الصغيرة البائسة… في عملي تنازلت عن كل مطالبي عدا اثنين: الوقت والعزلة. ولم أكن خاسراً. ص357)

أبطال رواياته الأثيرون كانوا غالب هلسا نفسه وشخوص آخرين ينتمون إلى شرائح الطبقة المتوسطة، تحديداً المثقف، أو صاحب الالتزام السياسي بغض النظر عن انتمائه الطبقي، المرأة العاشقة، أو العابرة، أو ابنة الحارة الشعبية، أو الحاضرة الغائبة التي تشبه جنيات ألف ليلة وليلة. مع ملاحظة أنه لم يعزلهم عن بقية شرائح المجتمع المختلفة (من يعملون في مؤسسات السلطة – أو الطبقات الشعبية – إلخ..)

هل تقصّد غالب هلسا كتابة سيرته الذاتية؟ أو ترحاله القسري عبر المدن! أم أراد أن يكتب رؤيته الخاصة والذاتية جداً عن الأمكنة والبشر شركائه في الواقع المعيش. قد يقول قائل إنه أراد أن يكتب نفسه. فليكن.. ما يهمني في الحقيقة أن غالب نجح في جمع التداخلات ما بين المجتمعي والسيكولوجي والتاريخي والجغرافي في عليّة البناء الروائي في تشابك تركيبه النصيّ ليصنع نسيجاً ثرياً للوصول إلى أزمة التمزقات العميقة التي يعيشها الإنسان العربي المعاصر بغض النظر عن العواصم التي ينتمي إليها.

(كان الصوت رقيقاً، حزيناً، مفعماً بالبكاء. كان نوعاً من البكاء الداخلي. الرقة والحنان، اللذان ينبعثان منه، قادمان من الماضي البعيد، يعيدان إلى الحياة تنويمة الطفل، إيقاع البكائيات، صوت الحادي يتخلل ليل القرية من مسافر يعبر أطرافها؛ حادّ وحيد، خائف، وسط ظلمة ثقيلة، مشحونة بالرعب.. وابتسامة ملتبسة لامرأة في كهف معزول، تصيب الصبي بالدوار. وتوالت الصور الثابتة، كأنها صور فوتوغرافية، ما تكاد تبدو، حتى تثير معها انفعالات قديمة منسية: جبال الأردن الشرقية، الغور، البحر الميت ونهر الأردن…) ص325.

المقطع السابق من رواية “ثلاثة وجوه لبغداد” إلا أن الكاتب ذكر نفس الأحداث بصيغ مختلفة في روايات سابقة “في رواية الخماسين” ذكر حادثة صعوده إلى قمة الجبل وهكذا.. وفي روايتي “الضحك” و”البكاء على الأطلال” ذكر حادثة المرأة الخارجة من الكهف وكيف حاولت احتضانه عنوة.. ومرة أخرى عندما تذكر يديها وشعوره بالندم لابتعاده عنها…

سألت نفسي ما سبب تكرار كتابة هذه الحادثة في أكثر من عمل روائي؟! خاصة وأن غالب كتب في كل رواية تفصيلة ما عن الصبي أو الطفل.. عن رائحة بكرج القهوة.. عن المكان الأول الذي قدم منه إلى الحياة. وتذكرت مقولة غاستون باشلار “فكلما بعدنا عن مسقط رأسنا، عانينا من عذاب روائحه” الروائح التي شدته إليها.. اللاوعي الذي تداعى كلمات على الورق.. على شكل لوحات انطباعية أرشيفية انتصبت أمامه في أكثر من اتجاه فأحالها إلى الزمن الذي يسرد منه.

(تمور اللوعة، تلوب لاذعة أحشاءه، تدعوه إلى الانخراط والغوص، دافعة به إلى ماضٍ يستحيل استعادته) ص15 كيف تتحرك الحواس وتحقق تلقياً متنقلاً من حس إلى آخر فتوقظ التنبّه النائم؟

(هل نسيت ذلك كله، حتى تلغيه وتدمره من أجل هوية واسم! ماذا استفدت من عالم الكبار برتابته ومنطقيته، وشعاراته، ونظرياته…!

ويمضي الصوت محملاً باللوعة والشكوى: ألا يكفي ما سببته لي من عذاب!) ص326

هي إذاً عذابات الغربة المتراكمة في الحواس مجتمعة. واستحالة استعادة الماضي.. أمكنة الماضي.. أصوات الماضي.. روائح الماضي وامرأة الماضي المعزولة في الكهف..

(أجلس للكتابة وما زال أمامي عقبتان: الأولى الكتابة بمنطق حلم اليقظة، والثانية أن يصبح مشروع الكتابة كله حلم يقظة، فأرى الرواية التي أكتبها قد حازت إعجاباً عاماً) ص350.

كتب كارل يونغ “أنبثق من الحلم” وغالب هلسا كتب إبداعاته بمنطق حلم اليقظة.. الحلم الذي منحه الحرية.. منحه شرط الإنجاز الحقيقي –الرواية- وعندما كان يحلم بالطفولة يعود إلى مرقد تأملاته.. إلى التأملات التي شرّعت له أبواب العالم.. أحلام اليقظة التي جعلته الساكن الأول في عالم الوحدة.. كأنه سكن العالم كما يسكنه طفل متوحد يسكن الصور.

في روايته “الروائيون” أراد أن يقول إن (التقدم) الذي تحقق على مستوى الوطن بنيوياً وسياسياً لم يكن عميقاً كما يجب فقد انهار عند أول امتحان حين استطاع جزء من النظام نقل الوطن إلى ضفة أخرى وتحالف مع قوى محافظة متزمتة فرضت أنساق قيمها وأعرافها الأخلاقية التي لا تنتمي للعصر وشاركته بتعريض البلد لنهب سفيه تحت بند أخلاق السوق. أبطال الرواية هم النجوم الآفلة في حركة اليسار المصرية.. تحديداً نساء أجهضت مساهماتهن في الحراك الاجتماعي والسياسي، وكُسرت أحلامهن الجمعية، ففقدن القدرة على رأب صدع الانكسار. الشخصيات متباينة نفسياً في تعاطيها مع الحدث، مع مخلفاته في اليومي المعيش، يستنطقها الراوي عبر المسكوت عنه-الجسد الذي لا يكذب-عندما حوّل رغباته إلى كرباج يجلد الذات وينتقم من وجودها في مجال كينونتها واستمراريتها معنوياً ومادياً في المكان –الحياة. الهوية الفردية مضطربة، ملتوية، تصارع بمرارة على المستوى النفسي الداخلي، تراوغ نفسها فلا يتبقى في يديها سوى الوهم الذي تضفي عليه تعريف: اللاجدوى.

إن الروائي الأردني غالب هلسا سيبقى مثيراً للجدل لأنه كان صادماً بعنف وعن وعي، لذلك استطاع أن يعكّر صفو الصورة التقليدية التي لدينا عن العالم، والصورة التي لدينا عن أنفسنا بوصفنا قراء. بهذا المنحى تساوى مع كتاب كبار في العالم منهم الروائية أناييس نن، والروائي ماريو بارغاس يوسا.

المرجع –غالب هلسا-الأعمال الروائية الكاملة-
دار أزمنة – عمّان – 2003

* شاعرة وقاصة من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *