*د. لطيفة لبصير
حين نتأمل أعمال الروائي الأردني غالب هلسا، نجد علاقة جدلية بين الرغبة المبتورة والواقع، وهي تيمة مهيمنة في جل أعماله الروائية.
هذا الروائي الفذ الذي عرف سجون بعض الأمصار أكثر مما عرف عواصمها، صاحب الروايات الغريبة: الضحك، البكاء على الأطلال، ثلاثة وجوه لبغداد، سلطانة والروائيون… انطلق من سؤال مركزي لا ينفك يحدث تلك المفارقة الساخرة بين أحلام جيل بأكمله كان يرغب في أن يعيش في أوطان كريمة ذات سيادة حقيقية، فيها حياة سياسية وعاطفية وشخصية سوية وبين روادع قاهرة ومثبطة لكل هذه الأحلام على مشروعيتها.
لا يمكن لقارئ غالب هلسا إلا أن تصاحبه الدهشة وهو يكتشف عوالم أبطاله السرية المقززة، لكنك تجده، في الآن نفسه متتبعاً، حريصاً على معرفة ما الذي سيحدث للأبطال، هؤلاء الخارجين عن النموذج المقدس للشخصية المثالية، إذ قلما نجد شخوصاً مسكوكة ومنظمة وحالمة بأفضل ما تكون عليه الأحلام المعسولة، وهو في استحضار شخوصه بتلك السخرية السوداء يصوغ لنا عالما نعرفه لكننا نتحاشى الحديث عنه برقابة ذاتية مقيتة…
أقول، يشكل الواقع المبتور هذا نظاما مهيمنا في جل أعماله إذ إن أبطاله لا يستطيعون التصالح مع واقعهم المر، لذا تنغمس الشخصيات في عالم أحلام اليقظة المتكرر للتفريج الميكانيكي عما يعتريها من إحباط وقهر، حتى إن الشخصية تبدو وكأنها تعيش في أحلام اليقظة أكثر مما تحيا الواقع العنيد بطبعه، ونجد الروائي رغم ذلك، يحاول أن يختلق من هذا الواقع المخذول المنهك شخصيات تمتلك حضوراً طاغياً كأنما يؤسس لنموذج لا يجود به الواقع، ولكن يستطيع أن يجود به الحلم! وهكذا نجد أن الذي يحدث هو أن أحلام اليقظة تأتي في نصوصه وكأنها الحياة الحقيقية لكل هؤلاء الأشخاص، فهي تتبوأ مكان الواقع وتصير هي الرؤية الممكنة الحقيقية في الحياة، على سبيل المثال، ترى عين الروائي على لسان أحد أهم شخصياته وهو «جريس» بطل رواية «سلطانة» أن الاستيقاظ لحظة انفصال مؤلم. حتى أن بطل الرواية كان معجباً بمدام بوفاري، لكنه حين عرف جسد المرأة عن قرب، تغيرت علاقته بمدام بوفاري فأضحى يتحاشى النظر إليها وكأنها شخصية موجودة في الواقع لن تتوانى، بإشارة منه، في الاستجابة لرغباته!
تقدم لنا الرواية هذا الشخص المثقف السياسي المحبط في علاقته بالحزب والوطن، وقد اشتبهت عليه العديد من النساء. وتأتي شخصية «سلطانة» كنموذج يرى من خلاله «جريس» أنها ستؤسس نمطا خاصا لامرأة غير مقهورة بسياط التربية التقليدية، متمردة على النظام الأبيسي، امرأة فارعة الطول، واضحة الجمال، مستقلة المصير، وتبدأ العلاقة معها كنموذج سيهزم كل النماذج النسائية اللواتي عرفهن السارد ودفعنه إلى القهر النفسي في كل تلاوينه، لكن سرعان ما يبدو له أن هذا النموذج هو الآخر سيؤول، بسبب الخذلان المباغت، إلى الانكسار، فابنتها «أميرة» لم تقدم سوى امرأة ساقطة يلفظها المجتمع.. وينهار البناء ككل!
يحاول الروائي في روايته «الروائيون» أن يبني نماذج لكتاب جاؤوا إلى عالم الكتابة من القهر النفسي والجنسي والسياسي، ويبدون وكأنهم سينقذون العالم من المنكر والضلال… فشخصية «تفيدة» تحولت من بائعة هوى إلى مناضلة إلى كاتبة روائية تكتب النضال! إلا أن هذا النموذج ينتهي هو الآخر إلى الفشل، ويبدو الرد متجسدا على لسان «زينب» إحدى بطلات روايته، وهي تقول: «ما فيش رد على المجتمع اللي سطَّحنا وقتل كل شيء جميل فينا إلا بممارسة الجنون والمخدرات والدعارة».
لا يبدو حلم اليقظة في روايات غالب هلسا كحل للهزائم المتكررة التي يحدثها الواقع، إذ إنه هو الآخر يعقبه الندم! وهذا يدل على أن الشخصيات لم تستطع أن تتحرر من سلطة الأنا الأعلى التي تضغط على الكتابة نفسها، ففي بناء الروايات ككل، لا تستطيع الشخوص أن تحقق استقلاليتها عن النظام الأسري والسياسي الذي عاشته وتعيش فيه، فهي شخصيات مهزومة تقضي معظم أوقاتها داخل فضاءات مغلقة تتراوح بين الشقة والسجن، وهي كلها فضاءات تظل داخلية لا تستطيع أن ترى النور، وفي الآن نفسه لا تستطيع أن تتخلص منه.