(ثقافات)
-
أمل الهاني
على الرّصيف قرب محطة مترو الباساج يباع الكتاب ب500 مليم، أدب وتاريخ وشعر وعلوم أخرى “بدون ثمن” أو هي شبه مجانية معروضة على الرّصيف تنتظر مغرما أو حتى معجبا أو مهتمّا لتفاصيل فحواها المهمّة…
يهرول المارّة بسرعة لاقتطاع التذاكر للّحاق لحظة وقوف المترو الأخضر السريع واللّحاق بموعد غداء في البيت أو ربحا لوقتهم الثمين في الاهتمام بطفل أو مراجعة الدّروس أو أخذ قسط من الرّاحة استعدادا لليوم التالي.
على الرّصيف تباع الكتب، 500 مليم الكتاب الواحد، يمرّر البعض نظره على العناوين بسرعة أو بدون وعي ويذهب في حال سبيله، تنكبّ فتاة عشرينيّة على عربة الكتب بلهفة عينيها المتعطشة لغرض ما يستهويها أو بحثا عن كاتب أو رواية أو فنّان ما، أمّهات كثيرات ينتشرن على الساحات المشمسة وبين عربات الكتب والحلوى والاكسسوارات، وبين المارّة وفي المترو وقرب السيّارات المتوقّفة عند الإشارة الحمراء، كثيرات ينتشرن طلبا للمال “أعطيني حويجة لربي”، بملامح كئيبة وأخرى بمسحة من الطمع، ينطقن بهذه الكلمات الذليلة من شدّة الاحتياج والخصاصة، يمرّ شاب مراهق بشعر مرصّف ومنتظم بطريقة رهيبة مع ثلّة من أصدقائه يتشدّقون بكلام بذيء ويفاخرون باتّحادهم ولحمتهم الجميلة داخل فوضى بشريّة هجينة.
رائحة عطر فاخر تزكم الأنوف، وتتخيّل ولو لبرهة أنّك صاحب العطر، مجنون بملابس خشنة ورائحة نتنة يمرّ غير آبه بجنس البشر كأنّ الوجود ملكه والأشياء من حوله قد فقدت معناها وصارت مجرّد أشياء تطوف مثلما يطوف. الطواف ممارسة صوفيّة وعبادة تعلو فوق زمن الواقع، الطواف علم في الفلك وسبب وجود بشريّة حيّة، الأرض تطوف حول الشمس، والقمر يطوف حول الأرض، وفي ممارسة دينية بعض يطوف حول الكعبة من أجل أن يطوف فيما بعد بين خيرات الجنة المشتهاة، وزمنيّة الليل والنهار تطوف أيضا وتتكرّر، نفسها، دون توقّف، العقل أيضا يطوف بين أفكاره وهواجسه وأمنياته وخيالاته. لا أحد يبصر طواف العقل، إنه طواف ذاتي، ملك للذات لا غير، لا أحد يجرؤ أن يقتحم طوفانك الداخلي غيرك أنت، أنت من تسيّره ويسيّرك، تناجيه ويناجيك، تستلذّه وتزدريه، حرب صامتة وسلام غير مستقر، ثنائية لانهائية المستقر، المجنون الذي يطوف في المدينة قد تعب واتّخذ مكانا ليرتمي فيه بثقله وتعبه وجوعه، والفتاة الشابّة قد وجدت كتابا تاريخيّا لمعت عيناها على إثر عثورها على كنزها الثمين، ربّما كان مفيدا لدراستها أو كانت تهتمّ بتاريخ الحضارات، ذهب قطاران ممتلآن بأجساد مرصوصة ببعضها البعض كعلبة سردين متنقّلة، لا زالت النسوة يجرّبن حظّهن في الحصول على بعض النقود لسدّ رمق أطفالهن. اختار ثلّة الأصدقاء ذوي الشعور المرصّفة مقهى رخيصا لقضاء ما تبقّى من النّهار، لا زال بائع الكتب في مكانه ينتظر ندرة من المهتمّين بعرضه المغري “الكتاب على 500 فرنك”، أواصل أنا مشواري وقد نزعت كمّامتي الطبيّة الخانقة في حرارة الشمس الملتهبة. صدقا لست وحدي فأغلب الحشود المارّة والجالسة والواقفة بدون كمّامة أيضا أو هي على أسفل الرّقبة، أصبح نزعها وإرجاعها من أسفل الرّقبة إلى أعلى الأنف أمرا اعتياديا وطبيعيا في ظروف الوباء العامّة للبلاد بالرغم من النصائح والإرشادات التي تنبّه من عدم لمس الكمّامة عند ارتدائها.
لا ضير في خرق هذه النصائح حقيقة حرارة الشارع وهلع الكورونا كافيان لتمرّد التونسي على الكمّامة، من تمرّد على الحاكم يوما يتمرّد أيضا على الوباء، الفرق في سبب التمرّد أنّ الأوّل كان من أجل الكرامة والثاني من أجل أن نتنفّس…
*مقتطف من نص يوميات في الشارع
-
فنانة وكاتبة من تونس