ما يحفظ للثقافة العربية حضورَها وحيويَّتها، في الوقت الراهن، ثلَّةٌ قليلةٌ من المبدعين والمثقَّفين، الذين يتوزَعون على حواضر العالم العربية وأطرافه، واصلت، خلال العقود القليلة الماضية، العملَ الثقافي من العيار الثقيل، العميق والسابر، والقادر على وصل ثقافتنا بما تنتجه الثقافات الأخرى في العالم، من إبداع، وفنون، ونظرية، ونقد وتحليل، وعمل بحثيّ. والصديق الراحل، الشاعر والباحث والمترجم الكبير فايز صُيّاغ (1942 – 2020) كان واحداً من هذه الثلَّة التي سيمكث عملها في الأرض، وينفع الناس. وقد خسرت الثقافة العربية، برحيله، واحداً من أعلامها النابهين، النشطين الذين لم يكفّوا عن العمل وإثراء المكتبة العربية بالأعمال الكبيرة ممّا أنتجته الثقافة الإنسانية في حقول الأدب وعلم الاجتماع والفلسفة والفنون.
كان فايز، المولود في مدينة الكرك الأردنية، من النخبة العربية التي تلقَّت تعليماً عالياً رفيع المستوى في أرقى الجامعات العربية، والجامعات الأجنبية، وتكوَّنت، ثقافياً ومعرفياً، في حاضنة قومية تقدمية جعلتها طليعةً ثقافيةً تجدل هذا الوعي القومي العربي بالمعرفة الإنسانية الرفيعة.
تخرَّج (صيّاغ) في الجامعة الأميركية في بيروت، دارساً علم الاجتماع، والأدبَيْن: العربي، والإنجليزي، كما نال درجة الدكتوراه في علم الاجتماع الصناعي من جامعة «تورنتو»، في كندا. كلُّ ذلك أهَّلَه ليكون واحداً من الطليعة الثقافية في الأردن والعالم العربي، إذ كان شاعراً متميِّزاً في ستّينيات القرن الماضي، وناشطاً ثقافياً، وشريكاً في تأسيس مشاريع ومجلّات ثقافية، كانت جزءاً أساسياً من تطوُّر الحركَتْين: الأدبية، والثقافية، في الأردن والعالم العربي.
لقد بدأ فايز نشر قصائده في مجلّة «الأفق الجديد» المقدسية، التي تأسَّست في بداية ستينيّات القرن الماضي (1961 – 1966)، وتشكَّلت، على صفحاتها، الحركة الثقافية الأردنية، وكذلك الفلسطينية، بعد أن أصبحت الضفّة الغربية من نهر الأردن جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية. وكان الكاتب الراحل واحداً من الأسماء التي أثرت تلك الحركة الأدبية والثقافية التي مثَّلها كتابٌ وأدباء من أبناء الضفَّتَيْن: الغربية، والشرقية لنهر الأردن. وعندما بدأ مشروع مجلّة «الأفق الجديد» يترنَّح؛ لمصاعب مالية في الأساس، ساهم (صيّاغ) في تأسيس مجلّة «أفكار» الأردنية، عام 1966. وما زالت هذه المجلّة الشهرية تصدر حتى هذه اللحظة، عن وزارة الثقافة الأردنية. وقد أصدر فايز مجموعته الشعرية الأولى «كلمات على الرمل» (1975)، وأتبعها بمجموعة «الحبّ، مثلاً، وقصائد أخرى» (1988)؛ وهما تضمّان قصائده التي نشرها على صفحات مجلّتَيْ «شعر»، و«الآداب» اللبنانيَّتَيْن، ومجلّتَيْ «الأفق الجديد» و«أفكار» الأردنيَّتَيْن.
ما أودّ التشديد عليه، في سياق الحديث عن بدايات فايز صيّاغ، وتكوينه التعليمي وتكوينه الثقافي، واهتماماته الأدبية، والثقافية، والمعرفية المتعدِّدة، والطابع الموسوعي لعمله، هو أن الرجل قد تشكَّل، معرفيّاً وثقافياً وأيديولوجياً، في فترة صعود المشروع القومي العربي الذي رافقته تيّارات وميول صاخبة متعطِّشة للمعرفة، في الثقافة العربية. وقد كانت الحدود بين المعارف والتخصُّصات، في هذه المرحلة، مفتوحة، ومتواشجة، يؤثِّر بعضها في بعض، بحيث تغني الترجمة التجاربَ الشعرية، كما تفتح دراسةُ علم الاجتماع الوعيَ على العلاقات المركَّبة التي تتطوَّر فيها المجتمعات العربية بعد رحيل الاستعمار ونشوء الدولة الوطنية. ولا شكَّ في أن فايز صيّاغ كان جزءاً من النخب الثقافية العربية التي تشكَّلت خبراتها في الدراسة والعمل والكتابة والحراك الثقافي، في سياق عربي واسع وممتّد، فهو درس في الأردن ولبنان، كما عمل في الأردن وقطر، وأسهم في تأسيس مجلّة «الدوحة» في نسختها الأولى، قبل أن تصبح واحدة من المجلّات العربية الكبيرة في سبعينيات القرن الماضي. كما أنه واصل الاهتمام بأحوال العالم العربي، من خلال البحث السوسيولوجي، وكتابة وتحرير تقارير «التنمية الإنسانية» و«المعرفة العربية» التي تصدرها الأمم المتَّحدة، على مدار سنوات.
لكن الإسهام الأكبر لفايز صيّاغ يتمثَّل في ما قام به من جهد جبّار في حقل الترجمة، فإلى جانب عدد من الأعمال التي ترجمها، خلال السنوات القليلة الماضية، لكُتّاب عالمِّيين كبار، منهم الكينيّ «نغوغي واثيونغو»، والبريطانيّ اليابانيّ، حائز «نوبل» للآداب، سنة 2017، وكازو إيشيغورو. قام بترجمة أعمال موسوعية كبرى في علم الاجتماع والتاريخ، مثرياً المعرفة العربية في المجالَيْن؛ ما يخلِّد اسمه واحداً من كبار المترجمين العرب في القرنين العشرين، والحادي والعشرين. وإذا كان الكتابان الأخيران، اللذان صدرا عن دار نشر جامعة «حمد بن خليفة»، في قطر؛ «مولد حائك الأحلام» لواثيونغو، و«لا تدعني أرحل أبداً» لإيشيغورو، يعيدان فايز صيّاع إلى اهتماماته الأدبية الأولى، فإن الكتب التي ترجمها لأنتوني غِدِنز (مواليد 1938)، وإريك هوبزباوم (1917 – 2012)، وإيمانويل فالِرشتاين (1930 – 2019)، تمثِّل أوج عطائه الترجمي، وإسهامه في علمَي الاجتماع والتاريخ. وهو، في ترجمته لكتاب عالم الاجتماع البريطاني الشهير أنتوني غيدنز «علم الاجتماع»، الذي يُعدُّ واحداً من المراجع النظرية الأساسية في علم الاجتماع الحديث، لم يكتفِ بالترجمة وصكِّ المصطلحات وتوليدها ممّا هو غير متداول في العربية، بل أضاف صفحات شارحة وأمثلة عربية تساعد القارئ والراغب في التبحُّر في هذا العلم، بحالات عربية تشبك المعرفة التي يقدِّمها «غيدنز» بمعارف أخرى، عربية وغير عربية، وهذا عمل ينتمي إلى ميراث الترجمة العريق وشروحات الفلاسفة والعلماء العرب القدماء على العلوم والفلسفة الإغريقيّين، حيث لا يكتفي المترجم بالنقل، بل يقوم بتوسيع الفكرة وضرب الأمثلة وتقريب المعرفة من القارئ العربي. إنه عمل إنسيكلوبيدي، بامتياز، لمثقَّف كبير يتمتَّع بالأمانة العلمية والمعرفة الواسعة، والخابرة، في الوقت نفسه.
يضاف إلى المرجع السابق، في علم الاجتماع، الموسوعةُ التاريخية الضخمة التي وضعها المؤرّخ الماركسي البريطاني الشهير «إريك هوبزباوم» حول العالم الحديث، فهو في «عصر الثورة» يعرض للتحوُّلات الأوروبية بين عامَيْ 1798 و 1848، أمّا في «عصر رأس المال 1848 – 1875»، فيواصل تحليله الثاقب لصعود الرأسسمالية الصناعية، وترسُّخ الثقافة البرجوازية، وفي «عصر الإمبراطورية 1875 – 1914» يحلِّل «هوبزباوم» صعود الهيمنة الإمبريالية الغربية، وتعاظمها، واكتساحها جميع بقاع المعمورة. أمّا في «عصر التطرُّفات»، الذي أنهى به فايز صيّاغ ترجمته لعمل «هوبزباوم» الموسوعي، فإن المؤرِّخ البريطاني يضع له عنواناً فرعيّاً «القرن العشرون الوجيز 1914 – 1991»، ويحلِّل فيه أحداث العالم بين نشوب الحرب العالمية الأولى، وينهيه بانهيار الاتِّحاد السوفييتي عام 1991. واللافت، في ترجمة صيّاغ لهذه الموسوعة الضخمة، أنه طلب من «هوبزباوم» كتابة تصدير خاصّ للطبعة العربية، للجزء الخاصّ بــ«عصر الإمبراطورية»، وكذلك بــ«عصر التطرُّفات»، حيث كتب المؤرِّخ البريطاني مقدِّمة ضافية، تناول فيها تداعيات القرن العشرين وتأثيراتها في العالمَيْن: العربي، والإسلامي، فضلاً عن مقابلة مطوَّلة، أجرتها معه مجلّة «New Left Review»، تتناول أحداث العقد الأوَّل من القرن الحادي والعشرين. ويمثِّل هذا الجهد الضخم، في الترجمة والشرح والإضافة وابتكار المصطلحات، درساً عمليّاً لكلّ من يريد احتراف الترجمة في العالم العربي، حيث تتحوّل الترجمة إلى عمل إبداعي ومعرفي، وإضافة معرفية إلى العمل الأصل. وهذا ما فعله مترجم كبير مثل فايز صيّاغ، خسرنا، برحيله، الكثير الكثير، لأن رغبته في مراكمة إنجازه الترجمي، والثقافي، ظلَّت حارّة فوّارة إلى آخر لحظة في حياته.
- عن الدوحة الثقافية