فايز الصيّاغ .. الثقافة العربية تخسر ألمع مترجميها

  • د. مهند مبيضين

بغياب المترجم وعالم الاجتماع والشاعر الأردني، فايز الصيّاغ، خسرت الثقافة العربية، ألمع مترجميها، والحاصل على أرفع الجوائز العربية في الترجمة، جائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الثانية 2007، وجائزة الملك عبدالله بن عبد العزيز للترجمة 2009، وجائزة الشيخ حمد بن خليفة للترجمة والتفاهم الدولي للعام 2015.

والصيّاغ ترجمان فذ، عكف في العقدين الأخيرين، على مشروع ترجمة علميّ، عبر تأسيسه مع مصطفى الحمارنة، مشروع مؤسسة ترجمان التي انتقلت لاحقا إلى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقدّم فيه للقارئ العربي أعمالا مهمة، كتاب أنتوني غدنز “علم الاجتماع”، وأعمال المؤرخ إريك هوبزباوم “عصر الثورة: أوروبا 1789-1848″ ، و”عصر رأس المال: 1848-1875” ، و”عصر الإمبراطورية: 1875-1949″، ثم كتابه عن القرن العشرين “عصر التطرّفات 1914- 1991”.

كان فايز حاذقا فطنا، مريدا للغة والأدب، واسع الثقافة، وعاشقا كما بدا في قصائد ديوانه “الحب مثلا”. أطلق على جيله اسم “جيل الأفق الجديد” في الستينيات، يوم كانوا ينشرون قصصهم وقصائدهم ومقالاتهم في مجلة “الأفق الجديد”. وآنذاك، ضمّ جيلهم مجموعة من الشباب المثقفين الغاضبين على انكسار حلم الأمة في يونيو/ حزيران 1967.

بدأت سيرته الأولى العام 1942 في مدينة الكرك “ولدت في حارة النصارى القريبة من حارة الحباشنة إلى الجنوب من الجامع العمري، وعلى مقربةٍ مما كان يسمّى مقبرة الإنكليز، ونشأت في كنف جدي الصائغ يعقوب”. وفي الكرك تلقى تعليمه الأولي في مدرسة الدير التابعة للدير، ثم ما لبث أن انتقل إلى “ما كان يسمى المكتب، وهو مدرسة الكرك الثانوية”. ويومئذٍ كان النظر إلى المدرسة أن الهدف العثماني من إنشائها تعميق سياسة التتريك، لكن سقوط الإمبراطورية 1918 جعلها تغدو، فيما بعد، إلى جانب مدرسة السلط، مصنع الأفندية الأردنية.

في الكرك الحاضرة العربية “تبلورت مواهبي وثقافتي”، وهو مدين بتكوينه الثقافي لثلاثة من مدرّسي مدرستها “خليل الكركي درّسني العربية، ونسيم مدانات الإنكليزية، وكمال مصاروة الرياضيات”. كان أولئك المدرسون “أوائل خرّيجي دار معلمي عمّان، وهم مؤثرون وطنياً وفكرياً”. وبعد أن اجتاز اختبار المترك، غادر الصيّاغ الكرك عام 1959 إلى بيروت، حيث الجامعة الأميركية. وقد وصف رحلته أولا إلى عمّان عبر طريق وادي الموجب، بأنها “متعبة والناس يجلسون على قهوة في سيل الموجب اسمها قهوة السرياني، بدا لي أن لا عودة من تلك الرحلة إلى مسقط الرأس”. ومن زملاء الدراسة في بيروت، عدنان البخيت وعبد الرؤوف الروابدة ومروان زريقات وفواز طرابلسي وعماد شبارو ورغيد الصلح، وغيرهم كثيرون. ومن المدرّسين إحسان عباس ومحمد نجم وخليل حاوي في الأدب العربي، وقسطنطين زريق وشارل مالك وزين نور الدين زين وكمال صليبي في الفلسفة والتاريخ، وسمير خلف في علم الاجتماع.

 قبيل بيروت، انتسب لحزب البعث في الكرك “وصلت إلى بيروت مُنظّما، فأخي فواز كان قياديا بعثيا وما يزال”. لكن فايز أعلن في بيروت الانشقاق عن البعث، والسبب “بعدما استمعنا لميشيل عفلق لم نجد عنده فكرا علميا، الرفاق هم من غير المؤمنين بالاشتراكية العلمية، فانتهت العلاقة معهم منذ ذلك الوقت”.

بقي في بيروت حتى منتصف الستينيات، وعندما عاد عُيّن مدرّساً في مدرسة بيت لحم الثانوية، ثم ما لبث أن انتقل إلى دائرة الثقافة، وفيها عمل مديرا لتحرير مجلة أفكار، وكانت فترة عمله فرصة للفعل الثقافي الأردني، ونسج علاقات مع نخبة مثقفي المرحلة. وقد مثلت “أفكار” في حينه “الفكر المستنير، وأول ما صدرت في زمن عبد الحميد شرف عندما صار وزير إعلام”. لكنها برأيه انتكست مراراً، وما زالت، وذوت في أتون البحث عن هوية جديدة لكل شيء، بعد النكسة وبعد عام 1971.

أُعير أبو تميم في 1970 لإذاعة قطر رئيساً لتحرير الأخبار، ومديرا لتحرير مجلة الدوحة القطرية الثقافية، ثم صار مديرا للإذاعة الأجنبية. وفي قطر عمل مع رفاقه على تأسيس مجلة المأثورات الشعبية الصادرة عن مركز التراث لدول الخليج العربي، واستمر في قطر إلى عام 1985، ثم انتقل إلى العمل في شركة شِل. وبعدها توجه إلى كندا لإتمام دراسته في علم الاجتماع الاقتصادي، ليتولى التدريس في جامعة تورنتو، ومن بعدها يعود مستشارا للتنمية ومكافحة الفقر مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ثم باحثا أكاديميا في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، ثم أسس مع مصطفى الحمارنة مؤسسة ترجمان عام 2003. وأسهم بفاعلية في صحيفة السجل التي أسسها مع الحمارنة أيضا، وبعدها انتقل إلى العمل في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مديرا لوحدة ترجمان.

راهن النقاد على الشاعر فايز الصياغ، نشر أول قصائده في مجلة الآداب البيروتية “كنت في أواخر سنوات الدراسة في الكرك”، ليستمر في بيروت وينشر في مجلة شعر، ولمّا عاد إلى عمّان كان من مؤسّسي مجلة الأفق الجديد. أصدر مجموعته الشعرية الأولى العام 1975 “كلمات على الرمل”، لكن الديوان احترق في مستودعات “مبنى العيزرية”، التابع لدار عويدات الكائنة آنذاك وسط بيروت مع اندلاع الحرب الأهلية، ففقد الديوان، وبعدها يصدر مجموعة “الحب مثلاً”، التي كتب قصائدها في نهاية الستينيات، ولما وقع الخامس من حزيران، انقطع الشاعر عن الشعر وما عاد إليه. ولكن شعريته لازمته في ترجماته، فطوّعَ اللغة الصعبة إلى سردية سلسلة المعاني، مع شروح وافية للغامض فيها والمتعسّر ترجمته للعربية. ومع ذلك الانقطاع، وعلاقة الصيّاغ مع الشعر غريبة، هو يحسّ أنه افتقده، لكن قال: “لا أحن له، وصعب علي أن أقول لماذا، كل ما أقوله إنه بعد هزيمة حزيران انطفأت جذوة الشعر عندي، وغدوت مجرّد قارئ”. تحول بعد ذلك إلى ناقد بقوله: “انصبّ اهتمامي على البحث والاستقصاء في مجالات التنمية، علاوة على ترجمات الكتب العلمية، من خلال مؤسسة ترجمان في عمّان والمنظمة العربية للترجمة في بيروت”.

بدأ الترجمة بعد أن تخلص من الشعر، فترجم عام 1974 “نجاح بيكاسو وإخفاقه” لجون بيرجير، وصدر عن وزارة الثقافة السورية. ثم انشغل في العمل الإعلامي، وفي دراسة علم الاجتماع الاقتصادي، ليعود للترجمة مع عام 2003، وظل ملتصقا بها حتى داهمه المرض. وقد نال الراحل على جهوده المعرفية تقديرا عالميا وعربيا، فاعتُبر كتاب علم الاجتماع لغدنز الصادر عام 2007 عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت ومؤسسة ترجمان أهمها، وهي لا تكمن في نقله إلى العربية على يده، ولا في المقدمة الخاصة التي وضعها للترجمة العربية، بل ما يجعل منه عملا فذاً خلاّقا، في طبعته العربية اشتغال الصيّاغ عليه، بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك يتبدى في المدخلات التي أضافها على النص الأجنبي، من خلال الإشارة إلى الإسهام العربي في علم الاجتماع ودعمه بنصوص عربية، جاء بها من بعض أبرز المفكرين العرب. وميزة الصيّاغ ليست في أنه مترجم نال الجوائز وحسب، بل تميزه يكمن دائرته اللغوية ومفرداته وثقافته وخبراته، فهو ممسك بحبال اللغة، وعلى صلةٍ بحركة المجتمع العربي وتحدّياته واحتياجاته من المعرفة وسابر لمشكلاته، ولعل هذا ما جعل ترجماته تُفقد مبكراً من السوق.

كان يرى أن المعرفة في علم الاجتماع العربي في تدنٍ، “يجب التأكيد على أنه ليس هناك علم اجتماع عربي، باستثناء محاولات مغربية في تونس والمغرب، وما هو متداول عربيا ليس أكثر من اقتباساتٍ ميكانيكية لما تسمى مدارس علم الاجتماع الغربية، قديمها وحديثها. وباستثناء بعض الامتدادات للمدرسة الخلدونية في علم العمران، فإن الدراسات الاجتماعية عموما لا تقتصر على التلقين وحسب، بل تكبح نزعة الاستقصاء العلمي في دراسة الواقع في المجتمعات العربية من وجهات نظر متميزة، وينسحب ذلك على مجمل الدراسات الاجتماعية في الجامعات العربية”.

حرّر الراحل سلسلة تقارير التنمية الإنسانية العربية خلال سنوات ست، وظل يردّد، في النقاشات معه، أن التقارير تصدّت لمنظومة من مراحل العجز في الواقع العربي، سواء الحريات أو الحقوق السياسية والمدنية أو الجانب المعرفي أو تحرير المرأة وإشكاليات الأمن الإنساني في الوطن العربي. وحين كان يواجه بسؤال الأثر الذي أحدثته التقارير كان يستدرك بالقول “ينبغي الإشارة إلى أن بعضها، سيما ما يتصل بالحرية والمرأة، كانت ذات أثرٍ في توجيه السياسات العربية في عدد من البلدان، وفي خلق نوع من الانفراج في توجهات أنظمة الحكم”. ورأى، رحمه الله، أن أحد أبرز جوانب تعثر الإصلاح يكمن في أن انظمة الحكم تمكّنت من الالتفاف حول مبادرات إصلاحية كثيرة، واستقطبتها واحتوتها في محاولة التفاف عليها “بمعنى خلق بيئة شوهت أهداف الإصلاح الأساسية المعلنة”.

جسد فايز الصيّاغ نموذجا أردنيا لمن حفروا أسماءهم بقدراتهم الفردية ومواقفهم. ومع ذلك، كان يتحدّث عن الفشل بمثل ما يتحدث عن النجاح “فشلت في أنني حتى الآن لم أكرّس نفسي لواحد من الاتجاهات الثلاثة التي سلكتها حتى الآن، وهي علم الاجتماع، والشعر والترجمة”.

فصل الكلام، فايز الصيّاغ ترجمان وأديب وعالم، كما لو أنه قطعة حرير دمشقي هاربة من زمن بيت الحكمة في عصر الخليفة المأمون إلى زمننا الحاضر المنكسر والمليء بالأوجاع التي ألمّت بجسد الأمة العربية، جرّاء تكاثر الطعنات والخيبات والنكسات.

  • عن العربي الجديد – بتصرف في العنوان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *