طائر القلق

*بسام جميل

الرابع من آب.

تدلني ظلال الكوابيس نحو خطوات ناقصة تحت ظلال حادثة المرفأ، أعرف جيداً أن الحصاد كان لابد له أن يبدأ من مكان ما. و كنت أنتظر حدثاً يساوي التسونامي الذي رأيتني أواجهه في الكابوس، لوحدنا في ساحة تكاد تكون ذات الساحة التي أحالها الإنفجار بعد زحامها بالمستودعات الضخمة و صوامع القمح، لتتسع في لحظة الوعي خارجة طازجة تماماً، بلون القمح البشري الذي حاصرته ثم أطلقته نحو غياب مدمى . خطوات ناقصة تشي بفعل لم يكتمل، بمشهد ينتظر أن ينصهر في معناه لينفي حاضري، بل حاضر البلاد كلها، لا مدينة ثكلى فحسب. لا أمسك إلا الهواء، فإذا به ملوث و ثقيل كمعدن تشظى ثم أعاد بعثه بذاته دون حاجة لسماء حمضية تعينه على ذلك. تحاصرنا التوقعات و الإحتمالات، و فرص الموت المفتوح على اتساع مدارك الوعي الجماعي، إذا كان من ذلك لفرار محتوم. لم تعد الأسئلة كافية لنعيد ترتيب شرفات بيروت، ولا أصابع الإتهام تدل حقاً على جناة، فكلنا قيد الإتهام، و كلنا مدانون. ساعة الحقيقة، هي للإرباك فقط، أما لحظتها فهي لمن أرادها مقصلة، و لمن غض الطرف عنها مشانق. كل الشوارع سواء، بيد أن يد الغريب لا تفرق إلا عند اشتباه اللص باللص، لا توزع اليد السوداء شررها دون حساب، ولا تحمل على مريديها جواباً دون إيجاب! لكم كانت المدن المنكوبة بصوت واحد، تُثكل بأسباب ظاهرة مغايرة، لكأن اليد التي تشاء، تمدها بمذاق انصرافها و تعيد رسم ملامحها فتشبه كل الأخريات، بلومها كضحية على منافسة الضحايا لشحد الاهتمام، وسرقة أضواء المسكنة و التذلل. هكذا تحيد عنا الحدود أو تختفي، لنعيش كلنا، أبناء المدن المنكوبة في خيمة واحدة، و يد تمسد على رؤسنا، كانت قبل لحظات تشحذ سيفها فوق رقاب آباءنا! تحن الرقاب إلى سلاسل القيد، والذراع إلى خلعها من الكتف، لتجنب السؤال أمام إشارة الطريق. أنشحد باسم عاصمتنا أم عاصمتنا، أم أن كل العواصم لم تعد كذلك، عاصمة لا تملك قرار عصمتها، و قد يصبح مشنقة في لحظة ممتدة كأزل لا ينتهي. من نحن في انصرافنا، ومن هم في حضورنا. غبنا و غابت ذاكرتنا القصيرة تحت أنقاض قمح أجسادنا الملوث، فنحن مدانون إذا كنا ضحايا، و لأننا كذلك فنحن مدانون لأننا أوفياء لموتنا الذي سيأتي ” الآن الآن و ليس غداً ” .

الخامس من آب.

تمسك القلوب عن لثم الرمال، و تمضي إلى رفع الوجوه الزجاجية الناجية من انكسارهويتها المضرجة بالدماء. في الصباح كان الوقت قد حان للدفع أعلى من الأشلاء، و أبعد من حدود هاوية الصدمة. كأن الصباح يضيء وجهاً واحداً للحقيقة، و فطنتنا تسأل عن باقي الوجوه في شوراع المدينة و أزقتها. في مسارب السعي نحو كل هذا نتعثر بأسمائنا، و احتمالات بدت بلهاء، لأننا صرفنا جل طاقتنا هناك، بعيداً عن هذه اللحظة التي لا تزال تحاصرنا بإرتهاننا لها. كان لا بد من النوم، ليت لنا أن ننام الآن، أن نغمض لنعود إلى ما قبل اشتهاء الموت لنهش أجساد طرية، واحلام ضبابية. تأكل بنهم كل أفكارنا، سحابة فطرية تتنفس ما بقي من كرامتنا، لتتركنا وحدنا، مع موت آخر يمتعه أن يتخلل جذور حريتنا، داخل رئتنا الضعيفة. بعد أن خسرت بيروت رئتها الوحيدة، بعد أن خسرناها بات محسوماً أننا سنموت غرقاً في الفراغ.

ما بعد ذلك

 عمت صباحاً يا أبي، عمتِ صباحاً يا أمي . ادعو لكما كل يوم. منذ أن غادرتما المدينة و أنا مدين لجارتي و عمي و خالتي و بائع الحلوى، و السيد النائب، و رئيس المخفر، و قاضي المحكمة، و شرطة السير، و عامل النظافة، و جابي الضرائب، ومذيعة الاخبار، و الهاتف النقال، و صرصار لا يفارق الشرفة، و طائر القلق الذي جمع كل تحايا الصباح منهم و جعلها عشاً لي و له

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *