خاص- ثقافات
حوَّلَه الزَّمن، وهذا ما كان يخشاه، إلى زوجٍ تقليدي يستيقظ باكراً صباح كلِّ يوم كالعادة، وهو يشعر، وكالعادة، بحزنٍ باهظ يسيطر عليه، ينظر إلى زوجته الغارقة في نوم عميق وشخيرها يعلو نشيداً صباحيّاً هو مُجبَرٌ على سماعه منذ أكثر من أربعين عاماً.
يمضي إلى الحمّام كرجلٍ آليٍّ يُسيِّره محرِّكٌ يعملُ دون أيّة ضجّة، وكالعادة أيضاً، يحلقُ لحيته، يغسل وجهه، ثمَّ يمضي وكرجلٍ آليٍّ أيضاً، إلى المطبخ، يُعِدُّ قهوتَه، يشربها دون شهيّة كما لو كانت دواءً يوميّاً فُرِضَ عليه تناولُه، مع القهوة يُدخِّن ثلاثَ سجائرَ، أو أربع، فقدتْ هي الأخرى نكهتَها متأمّلاً رفوف مكتبته التي تغصُّ بكتب الدراسات الموسيقية ونوطات معزوفاته التي لم ترَ النور وقد علاها الغبار واصفرّت صفحاتها، ومستعرضاً بضع آلات كمان كالحة الألوان المعلقة هنا وهناك.
ينظر إلى فيفالدي الذي يطلّ عليه، من الجدار المقابل، بشعره الأبيض المستعار ممسكاً بكمانه، يتبادل كلٌّ منهما النظرات لدقائق. وفي حين يستمر فيفالدي في التحديق به، ترحل عيناه هو عبر النافذة، إلى لا مكان ولا يعيده إلى مقعده سوى طنين ذبابة حوّمت حول وجهه لثوانٍ ثم اختفت. ويعود ثانية إلى تأمُّل فيفالدي.
كثيراً ما يشعر بانعدام صلته بالمكان، بل بانعدام تلك الصلة بالعالم، فيرى نفسه معلقاً في فراغ، متدلّياً من علٍ بحبل غير مرئي متأرجحاً كغصن جاف، منهكاً، فاقد القوى، ولا رغبة لديه في فعل شيء، وكل ما في استطاعته البحلقة مستعرضاً ما حوله من أشياء تغرق في الحيادية، ولا تثير فيه سوى المزيد من الشعور بالتدلّي والإحساس بالجفاف واللامبالاة والتفاهة واللامعنى.
بات كل من وما حوله يؤكد، في نظره، حقيقة كونه مجرد رجل آلي يتحرك دون ضجة، قابع في حيز عطالة صمّاء، بلا أحلام، لا يتوقّع أن يفاجئه الزمن بما يغيِّر من مساره الشعوري نحو الجدوى، آلي بقدر ما تعنيه الآلية من معنى.
ينهض بتثاقل، يمضي إلى أحد الرفوف، يتناول مخطوطة كتاب أمضى جلّ سنوات عمره وهو يعمل عليه مكرِّساً جهده ومدّخراته لإخراجه إلى النور. فقد اقتنى عشرات المراجع العربية والفرنسية التي تتناول الموسيقى بالبحث، وعكف على دراستها، سافر إلى مصر وتركيا وإيران والمغرب باحثاً في مكتباتها عن المخطوطات القديمة مطلعاً ومستنيراً ومقتبساً ومستنبطاً قواعد ونظريات في علم المقامات الموسيقية مخالفة لكثير مما هو سائد من نظريات لا يعتقد أن أحداً سبقه إليها.
يعيد المخطوطة إلى مكانها، تناديه آلة كمان من على سطح المكتبة، يتناولها، ينفخ ما علق بها من غبار، يحاور بالقوس أوتاره للحظات، ثم يعيده إلى مكانه.
لم يكنْ يتوقّع مطلقاً ما آلت إليه أموره، وما كان يُخطِّطُ له، ويطمح إليه، ويحلم بتحقيقه قبل سنين.
كانت لديه آمال كبيرة، لكنَّ تفاصيل حياته اليوميّة جَفَّفَتْها، وأذبلتْها، فتساقطت كأوراق أشجارٍ حايدتْها الأمطار، وتناثرتْ، وسحقَها ثقل الأيّام.
واكتشف فجأةً ذاتَ خلوة، وهو يُحدِّقُ في مرآة روحه، أنَّه متداعٍ من الداخل، بفعل الزمن، كجدار قديم، ومكسور تماماً.
(الآن، وأنتَ على مشارف السنة الرابعة السبعين، ماذا تنتظر اليوم، أو غداً أو بعد غد؟ ماذا تتوقَّع غير المزيد من الجفاف والذبول؟ وما الذي يمكنك التخطيط له في عتمة هذا اليأس؟). يتساءل بينه وبينه نفسه.
وهو على مشارف الرابعة والسبعين يجلس إلى طاولته كقائدٍ مهزوم في معركته التي يُفتَرَض أنها كانت الأخيرة والحاسمة، وشظايا أحلامه المكسورة تتناثر حوله ذكرياتٍ قاتلة، وبقايا راياته المحترقة تعبث بها الريح، وأشلاء أيّامه تنهشها أسرابُ عِقبان خرافيّة، وهنا وهناك، أنّى التفت، تتعثَّر عيناه بصور مغبرَّة هجرتها الألوان، فتُذكِّره بلحظات ماضية عاشها حالمـاً أو واهماً بأنّه لا محالة منتصرٌ ذات يوم.
وهو على مشارف الرابعة والسبعين، يبسط على مساحة ذاكرته خرائطه المتهرئة والأوراق التي سطّر عليها خططه، وكقائد مهزوم، يحدِّق بها مليّاً، يحاول اكتشاف أخطائه التي أنهت تاريخَه الذي لم يعد له لونٌ محدَّد، يبحث، يراجع، يدقِّق، فيكتشف أنَّ كلَّ شيء كان على ما يُرام، وكان مستعدّاً تماماً لكلِّ الاحتمالات، وكان في أتمِّ الجاهزية لكلِّ التوقّعات والحالات الاستثنائية التي قد تطرأ، فوضع في الحسبان جميع تلك المتغيّرات الممكنة، وأعدَّ خططاً ثانوية لمعالجتها بالطرائق المثلى.
ومع ذلك انهزمَ شرَّ هزيمة. كيف؟ يدري ولا يدري ويؤكِّد لنفسه أنه، في الحالتين، لم يكن هو ذاته السبب.
في البدء كانت الأمور تسير كما ينبغي لها أن تسير، أو كما قَدَّرَ لها هو أن تسير، وأحرز الكثير من الانتصارات اليومية، صحيحٌ أنها كانت صغيرة لكنها كانت تُشير إلى أنّ الطريق مفتوحةٌ أمامه ليحرز المزيد منها، تلك الانتصارات كانت شواهدَ على براعته في إدارة دفّة القيادة، وعلى أنّه كان متجّهاً بثقة إلى تحقيق أحلامه التي رافقته طويلاً، لقد كانت أحلاماً ممكنة جدّاً.
ولكن فجأةً.. وخارج كلِّ توقّعاته وحساباته وخططه حدث ما لم يكن في فضاء تخيّله. لقد انهار كلّ شيء.. فجأة.. هكذا ببساطة انهار كلّ شيء.
حين تخرج زوجته متثائبةً من غرفة النوم، يلقي عليها تحيّةَ الصباح مجاملاً وبصوت باردٍ وحياديٍّ يبدو صادراً عن آلة تسجيل، فتردُّ على تحيّته بأخرى حياديّةٍ باردةٍ كتحيّته، وتعاتبه، ككلِّ صباح، على عدم دعوته إيّاها إلى شرب القهوة معه، مطلقةً نظرة خاطفة إلى منفضة السجائر، كعادتها، تستكشف بها عدد السجائر التي دخّنها، وتمضي إلى الحمّام، في حين يلوك هو مغمغماً بضعَ كلماتٍ لا يقصد هو نفسه أن تكون ذات معنىً ما.
كان في ما مضى يردّ على تعليقاتها الساخرة التي تصوّبها إلى اهتمامه الأول مباشرة، الموسيقى علماً وتأليفاً وعزفاً، يحاول مناقشتها لعلّها تدرك ماذا تعني له الموسيقى، لعلّه يقنعها بموهبته التي يحلم بأن توصله إلى المكانة التي يصبو إليها ويستحقها.
في بدء حياتهما الزوجية لمس منها اهتماماً فائقاً بموهبته وعملت على تشجيعه، وكانت تطلب إليه أن يسمعها بعض المقطوعات، واقتنع بمقولة (وراء كلّ عظيم امرأة) بالرغم من تعقيب أحد أصدقائه ضاحكاً بقوله: (قيل وراء كلّ عظيم امرأة ولم يُقَل زوجة يا رجل، ثم لا تنسَ أنّ وراء كلّ رجل فاشل أيضاً.. امرأة).
لكن، مع مرور الوقت، فقدت تلك التي تقف وراءه ذلك الاهتمام شيئاً فشيئاً، لتستقرّ نهائياً في خندقها المطبخي المعارض لكل ما يتعلّق بمؤهلاته الموسيقية وتعتنق مبدأ العيش المجرد لا الحياة، متأثرة بأفراد عائلتها الذين لا يرون الحياة إلا من نوافذ مطابخهم. ووجد نفسه أخيراً محاصراً وحده قبالة جدار لا يستطيع إحداث أيّ خرق فيه. يعترف، بينه وبين نفسه، أنه لم يكن بالشجاعة الكافية كي يقلب الطاولة، ويعلن تمرّده على الجميع.
وكان اعتراضها واعتراضهم منصبّاً على ما ينفقه من مال على (جنونه الموسيقي) كما كانوا يقولون دائماً وهو المدرس (البائس) للموسيقى، دون اقتناعهم بجدوى ما يكرِّس له وقته وجهده وماله. وكانت نهايته، بعد أن أحيل إلى التقاعد، في ملهى ليليّ رخيص في قبو تخنقه سحب الدخان وروائح المشروبات، وتلعلع في فضائه القهقهات المنتشية.
ينظر إلى ساعة الحائط المتوقفة عن العمل منذ سنوات، يتمتم: (لا شك في أن الصدأ يكبّل تروسها ويمنعها من الحركة، كما أنا من الداخل تماماً).
وهو يرتدي ثياب الخروج تُطلُّ زوجته من باب الحمّام، وتلقي على مسامعه محاضرة سريعة حول ضرورة تسديد فواتير الماء والكهرباء والهاتف، ثم تتلو عليه قائمةً بالحاجيات التي عليه جلبها بعد أن يستلم راتبه التقاعدي، وهو يسمعها ولا يسمعها، ثمّ يطلب إليها إعادة بنود طلباتها، يفتح الباب، وهو خارج دون أن يُحيّيها يدهمه شعور بأنّه ينعتق من قفصه لساعات، ليعود إليه ثانية دون إرادته. وقبل أن يغلق الباب الخارجي وراءه يطارده صوتها الذي يقترب من الصراخ: (لا تنسَ إخراج كيس القمامة التي بدأت رائحتها تنتشر في البيت)، فيعود لجلب الكيس من المطبخ.
وفي الشارع يعود إليه شعوره بكونه طائراً هرماً، طائراً لا فائدة من خروجه من القفص، ويصرخ في داخله: (لم أعد قادراً على الطيران؟)، ويمشي كرجل آليّ يُسيِّره محرِّك يعمل دون أيّة ضجّة، توجِّه مسارَه العادة اليومية.