قلب التهمه طائر الطريق

*إعداد وتقديم ــ عبير زيتون

الشاعر والكاتب هيرمان هيسّة (1877- 1962) أحد أبرز روائيي القرن العشرين، رائد الرومانسية الجديدة في الأدب الألماني، ذو نزعة فلسفية، رومانسية، تأملية، هاجسها الفكري، عوالم الإنسان الحديث المأزوم بهموم الحرب وويلاتها، وضياع الشخصية مع طغيان لعنة المادة العمياء على الروح البشرية المتعبة في بحثها عن الخلاص، والتكامل الروحي. انتمى صاحب رواية «ذئب البوادي» إلى عالمين لم يستطع الفكاك منهما:عالم الشرق (والدته من أصول هندية) الذي رأى فيه وطناً لروحه الممزقة، وجنة للروح كما يسميه، و«عالم الغرب» الذي رفض فيه نزوحه نحو السيطرة، والحروب، والرأسمالية المادية، فجاءت أهم أعماله «سدهارتا، رحلة إلى الشرق» ورائعته «لعبة الكريات الزجاجية» إلى جانب مواكبتها لرحلته النفسية المأزومة من ويلات الحرب العالمية الأولى، جاءت ذات علاقة وطيدة بالشرق، واحتفاء بثقافته الروحية التي بزغت فيه فيما مضى، وخلاصة لفلسفته المتكاملة، وزبدة وصيَّته الروحية للإنسانية في طريق خلاصها الروحي.

قضى صاحب «نوبل للآداب» 1946«سنوات حياته الأخيرة معتكفًا في عزلة تامة في مدينة مونتانيولا السويسرية على ضفاف بحيرة لوغانو، حتى وافتْه المنية في 9 أغسطس من العام 1962.

ما من شيء في العالم شغل أفكاري بقدر ما شغلها هذا الأنا الذي لي، هذا اللغز، أن أحيا، أن أكون واحداً، منفصلاً ومنعزلاً عن الآخرين كلهم، أن أكون سدهارتا! وما من شيء في العالم أعرف عنه أقل مما أعرف عن ذاتي، عن سدهارتا.

***

لم يكن مصدر تعليمي في طفولتي من الوالدين والمدرسين فقط، ولكن أيضاً من قوى عليا أكثر سحراً وغموضاً. من بين هذه القوى كان الإله (بان) الذي يقف في الخزانة الزجاجية في مكتب جدي متخفياً في شكل وثن هندي صغير هذه القدسية وأشياء أخرى سلبت لبي في طفولتي.

***

انسحبت إلى ركن بعيد في سويسرا، وأصبحت ناسكاً. فطوال حياتي تتلبسني بدرجة كبيرة حكمة الهند، والصين. كان ذلك ميراثاً عن الأبوين والجدين، ولأني عبرت عن تجاربي الجديدة جزئياً بلغة الشرق التصويرية دعيت بأنني بوذي مراراً.

***

الشرق لم يكن مجرد بلد من البلاد، أو بقعة جغرافية، بل كان وطن الروح وشبابها. كان الشرق في كل مكان، ولم يكن في أي مكان. إنه وحدة الأزمنة كلها.

***

أردت أن أعَلم الناس كيف يعُون نبض الأرض، وأن يساهموا في حياة الكون، أن لاينسوا في غمار زحام حياتهم الحقيرة، أننا لسنا آلهة خَلقت نفسها بنفسها، وإنما أطفال ينتمون إلى الأرض، وإلى الكل الكوني..

***

لكلِّ إنسان رسالة أصيلة واحدة «هي العثور على طريق نحو نفسه». وظيفته هي أن يكتشف مصيره هو، لا مصير سواه. وأن يعيشه كاملاً مخلصًا لنفسه. أما ما عداه فهو محاولة تملُّص، وخوف المرء من داخله..

***

لو كان هناك آخرون كثيرون يشمئزون من الحدود بين البلدين كما أشمئز أنا، لما بقي من أثر للحروب والمعوقات منذ زمن. فما من شيء على الأرض أخس، وأدعى إلى الغثيان، من الحدود إنها أشبه بالمدافع، أشبه بالجنرالات، مادام السلام والمحبة قائمين وعامين، فما ثمة من يعيرهم أي انتباه ولكن ما إن تنشب الحروب ويستبد الجهل، حتى يغدو وجودهم ملحاً ومقدساً، ولشد ما كانوا يمثلون لنا الألم والسجن، نحن الجوالين، أيام الحرب مشتعلة، فليأخذهم الشيطان.

***

واحسرتاه! إن كل أمة وكل عائلة وكل إنسان في أوروبا، وفيما أبعد منها، لديه سبب أكثر من كافٍ ليقدم أقصى جهوده لصالح السلام الذي نتوق إليه جميعًا. فقط الأقلية المتلاشية من الرجال تريد حقًا أن تستمر الحرب. وهم يستحقون من دون شك احتقارنا، وأصدق ما لدينا من كراهية. ليس سوى أقلية قليلة من المتعصبين بشكل مرضي، وعديمي الضمير من المجرمين من يساند هذه الحرب. وأيضًا يفوق المعقول، أن الحرب تستمر وتستمر، وكلا الجانبين يواصل تسلُّحه بلا كلل من أجل المحرقة النهائية المزعومة في الغرب!.

***

جميعنا: عظيم المنزلة مع قليل الشأن، المشترك في الحرب مع المحايد، يتوجب علينا ألا نسدَّ آذاننا عن التحذير الرهيب لهذه الساعة والتهديد بمثل هذا الرعب الذي لا يمكن تصوره. إن السلام في متناول اليد! كتفكير وكرغبة، وكاقتراح وكقوة تعمل في صمت، إنها في كل مكان، في كل قلب. إذا ما فتح كل واحد منا قلبه لها، وإذا قرر بثبات أن يخدم قضية السلام، وأن يواصل أفكاره بتلميحاته عن السلام، إذا قرر كل إنسان حسن النية بأن يكرِّس نفسه، على وجه الحصر، لفترة بسيطة، لإزاحة العقبات والحواجز عن درب السلام، عندئذ سيكون لدينا سلام.

***

ما الذي بوسعه إذًا أن يصعِّد روح السلام الحقيقي على الأرض؟ قطعًا ليست التوصيات ولا التجربة العملية. فمثله مثل أيُّ تقدم إنساني، يجب أن ينبع حبُّ السلام من المعرفة. وكل معرفة حية، مقابل كل معرفة أكاديمية، ليس لها إلا هدف واحد. وهذا الهدف يمكن أن يراه ويعبر عنه آلاف الناس بآلاف الطرق. حيث يتوجب على هذه المعرفة أن تجسد حقيقة واحدة، ألا وهي معرفة الجوهر الحي الذي في داخلنا. ففي كل واحد منا، فيك وفيَّ أنا، يوجد ذلك السحر السري: ذلك الورع السري الذي يحمله كل منا في داخله. وهذه المعرفة التي تبدأ من أعمق نقطة، هي التي تمكننا في كل الأوقات من تجاوز كل التضادات، فتحوِّل الأبيض إلى أسود، والشر إلى خير، والليل إلى نهار.

***

يبدو لي أن الحب هو أعظم شيء في العالم.. وقد يكون من المهم لكبار المفكرين أن يفحصوا العالم، وأن يفسروه، أو يحتقروه ولكنني أعتقد أن الشيء المهم الوحيد هو أن تحب العالم.. لا أن تزدريه.. وليس لنا أن يبغض أحدنا الآخر.. بل إن نكون قادرين على أن ننظر للعالم وإلى أنفسنا وإلى كل الكائنات في حب وإعجاب وإجلال.

***

عندما نفقد تماسكنا وقدرتنا على تحمل الحياة، تحدثنا الأشجار قائلة: التزم الهدوء، التزم الهدوء وانظر إلي. توقف عن التفكير الطفولي، الحياة ليست سهلة، الحياة ليست صعبة. أنصت فقط إلى نداءات الإله بداخلك، واستمد منها قناعاتك. يراودك القلق لأن الطريق يحملك بعيداً عن سكينة الوطن وحضن الأم؟ فلتعلم أن كل خطوة تخطوها، وكل يوم يمر عليك يحملك إلى حضن الأم. الوطن ليس هنا ولا هناك. إذا لم يكن الوطن بداخلك أنت، فلا وطن لك على الإطلاق.

***

الذي لا يقول لا لنفسه لا يقدر أن يقول نعم لله.

…………………. ……………………………………

هذه الشذريات مستمدة من روايات: «سدهارتا» و «رحلة إلى الشرق» و «دميان»
____
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *