تاريخنا المبني للمجهول

ثقافات – يحيى القيسي*

هل تتذكرون تلك القصة التي وصلتنا من الموروث وربما سمعناها في خطبة جمعة ذات يوم ما، أو قرأناها في كتاب، أو حكاها لنا معلّم المدرسة، والتي تتحدّث عن اللصوص الثلاثة الذين قتلوا رجلاً وسرقوا ماله وحماره ثم غادروا جميعاً هاربين دون أن يكتشفهم أحد، وفي الطريق اتفق اثنان منهم على التخلص من الثالث طمعاً في اقتسام المال بينهما فقط فقاموا بقتله، والمضي قدماً بما معهم من المال إضافة إلى الحمار، لكن الجشع أعماهما، وفكر أحدهما بوضع السمّ للآخر في طعامه ليفوز بالمال لنفسه، فيما كان الآخر يفكر أيضاً بقتل رفيقه، وهكذا قام أحدهما بطعن الآخر ثم تناول الطعام المسموم دون أن يدري فمات أيضاً، وهكذا بقي الحمار وحيداً مع المال المحمّل على ظهره، وعاد أخيراً إلى البلدة التي كان فيها صاحبه المغدور!

قصّة مؤثرة أليس كذلك؟ وربّما يلعن المستمع أو القارئ البشر الجشعين والقتلة والسارقين، ولكن لماذا لم يفكر أحد بالسؤال المنطقي: كيف وصلتنا هذه القصة إذا كان جميع المشاركين فيها قد قتلوا بعضهم بعضاً؟ ومن قام بروايتها وذكر هذه التفاصيل أصلاً؟

 سيكون الجواب صادماً حين لا نجد بديلاً غير الحمار لرواية هذه القصة، ومع ذلك يمرّ الناس عادة عن مثل هذه المواعظ البائدة، والحكم المعلبة للمتلقين دون تفكير أو تأمل!

ما أودّ قوله هنا إن الكثير مما وصلنا من التراث بحاجة إلى مراجعة، وخصوصاً أنّ أغلبه مبني للمجهول، فتبدأ الحكاية عادة بعبارة: روي أنّ أعرابياً جاء..، قيل إنّ رجلاً…..، ولا يعرف القارئ بالطبع من الراوي، ولا أين تمت الحادثة، وفي أي زمن، ومن كان شاهداً عليها؟ ومن هو ذلك الأعرابي؟ وغيرها من الأسئلة التي لا تنتهي.

ومع ذلك فإن المطلوب من المستمع أن يتقبل أي حكاية دون تمحيص على أساس أنها مكتوبة من قبل السلف الصالحين أو الطالحين، وبالتالي لها صدقيتها، ويا لسوء حظك إن فكرت أن تعترض على أحداثها أو تنتقد بعض تفاصيلها!

إن التيار السائد اليوم عند الكثيرين هو قبول ما وجدنا عليه آباءنا كما هو؛ فحتى الروايات الشعبية التي قام بتأليفها بعض الذين يمتلكون المخيّلة الخصبة من القصاصين والرحالة العابرين والشطار والعيارين قد وجدت لها الكثير من الرواج وأصبحت تنافس التاريخ بأحداثها المصطنعة وحبكتها المفبركة، ولو قام أحد بمراجعة ما وصلنا بكلّ جرأة، لوجد فيها الكثير من المصائب والأكاذيب.

من الخطورة بمكان أن نستمر اليوم بالسماح للراوي “المبني للمجهول” في المساهمة بتشكيل الوعي الجماعي لهذه الأمّة عبر الكتب المدرسية والإعلام بكل أنواعه والخطب المنبرية، فربما لو قام أحد بدراسة حقيقية متعمقة لهذا النوع من الخطاب وأثره على المجتمع لاكتشف ربّما الكثير من الكوارث التي ساهمت وما تزل في إعاقة الازدهار، وخضوع الكثير من أبناء قومنا تحت نير “الاستحمار”!

*باحث وروائي أردني مقيم في بريطانيا

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *