قراءة في رواية جنوب الملح لميلود يبرير

خاص- ثقافات

*أحمد بوريــدان

1 ـ بطل بحاسة سادسة..!
تبدأ الرواية بمحاولة التأسيس للحوادث المسرودة على أنها وقائع موجودة بالفعل،قصد ضمان الاستمرارية في تنامي العمل السردي،و بعيدا عن المستوايات الدلالية و المعجمية و العناصر البنائية التي تشكل الرواية،ركزنا حديثنا على شخصية البطل مصباح بصفتها المحورية و الفاعلة في نسج خيوط النص،و الأمر الأكيد الذي أثار اهتمامنا هو قيمة النجاحات الكبيرة التي حققها مصباح في مواجهة التحديات و المواقف الحرجة من دون عناء و بطرق محيرة و مثيرة لكثير من التساؤلات،فهل يمكن أن تكون الحياة مجرد حظوظ؟! أم أن مصباح يمتلك الحاسة السادسة التي مكّنته من فهم الحياة و إدراك حقيقتها الميتافيزيقية؟!

2 ـ ما المقصود بالحاسة السادسة؟
الحاسة السادسة هي الخيط الرفيع الذي يربطنا بالعالم الآخر،و هي القدرة على معرفة المستقبل الغامض، و هي جملة من الأحاسيس الانسانية العميقة و هي استشعار خارج الحواس المعروفة،فهناك أشخاص يمتازون بهذه الخاصية التي تمكنهم من توقع الأحداث و التكهن بما يحدث،بعيدا عن الشعوذة و قراءة الأبراج و تأويل الأحلام،هذه القدرة الخفية التي تمكن هؤلاء من التواجد في الأمكنة و الأزمنة المناسبة و التي تساعدهم في اتخاذ القرارات و المواقف الحاسمة،فما علاقة الحاسة السادسة بشخصية مصباح في رواية جنوب الملح؟

من خلال قراءتنا للرواية و تتبعنا لسيرة مصباح لاحظنا أنه يمتاز بخاصية الحاسة السادسة،التي كانت تمده بالقوة و الطاقة و الحدس حيثما كانت هناك فرص للنجاح و التألق.

ـ توقف فجأة كل شيء حركة السيارات و الناس..ص35
ـ فجأة تنبهت أنني مشتاق إلى الجلفة.. ص99
ـ شعرت فجأة بما يشبه القرابة..ص152
كان مصباح دائم التواجد في الأماكن الحساسة و الأوقات المضبوطة ،حتى أحس هو نفسه بالغرابة و لم يتمكن من تحديد القوة الخفية التي كانت تدفعه في حسم المواقف لصالحه و من ذلك ما جاء في أقواله:
ـ تجرني رجلاي إلى بيت قديم ..ص37
ـ أشعر أن حكايتي مع النساء غريبة..ص38
ـ وجدت نفسي صباح اليوم التالي أشقّ الطريق الطويلة ..ص103
ـ لا تقودني فيها الآن إلا خارطة شوقي ,و الشوق كان قد أوصلني إلى تيليملي في حدود الساعة العاشرة و النصف صباحا..ص162
ـ من غير أن نحدّد وجهة لأرجلنا أطلقنا العنان لها ..ص184
فلا غرابة إن قلت أن مصباح لم يكن فاعلا و لم يعمل كثير على التجريب و خلق الفرص ،بل الفرص كانت تأتيه حسب عناويت تواجده ،فجهيدة تأتيه للستوديو و مريم مقيمة بنفس الفندق و مصباح يجرب العمى فيصطدم بمريم من دون جميع الناس ، و تقوده رجلاه إلى تليملي حيث يقع الانفجار و يكون السباق في اغتنام الفرصة و التاق الصور الأولى للإنفجار ،هذه الصور التي فتحت أمامه أبواب النجاح و حصد الجوائز و الشهرة العالمية:
ـ في اليوم التالي ظهرت بعض صوري في النيويورك تاميز و لوفيغارو الباييس ..ص175
ـ فازت صورتك بالجائزة العالمية للصورة في فرع الصورة الاخبارية ص195
إذا كانت الفرص تأتي إليك أو يسوقها القدر في طريقك دون عناء ،ألا يمكن القول أن مصباح بطل بحاسة سادسة؟!

3 ـ محاكاة أم تناص؟
لا يمكن أن يكون هناك نص أدبي مستقل بوجوده و يتولد من ذاته،فكل عمل أدبي يتداخل مع أعمال أدبية و يتعالق معها في علاقة معقدة تشكل شجرة أو فسيفساء من النصوص،من حيث التفاعل و المحاكاة و إعادة الترتيب .
” تمنيت فقط ألا يحصل معي ما حصل مع ذلك المصورالأرمني الذي كنت قرأت مذكراته ،ففي بداية القرن العشرين عندما بدأت استديوهات التصوير تستثمر في مصر و الشام ،كان هذا الأرمني قد فتح أستديو في القاهرة ..” ص 40 ( جنوب الملح)

هناك تشابه في المواصفات و الأحداث و تخاطر في الأفكار بين هذا المقطع و مقاطع أخرى من رواية ” موانئ الشرق ” لأمين معلوف عند تتحدث الرواية عن يوميات البطل القومي عصيان الذي يستحضر ذكرياته و ذكريات والده المصور الذي أسس نادي للتصوير الفوتوغرافي في مطلع القرن العشرين ” و قد حاول العديد من أعضاء النادي تعلم هذا الفن ،و كان أكثرهم موهبة أستاذ العلوم ،نوبار الأرمني.. ص 31 ( موانئ الشرق)

عطفا على ما سبق يمكن القول أن مصباح بطل رواية جنوب الملح قد اجتمعت فيه جملة من مواصفات المصور الأرمني و أب البطل عصيان في رواية موانئ الشرق و الذي استطاع هو الآخر أن يتواجد في المكان و اللحظة المناسبة لإلتقاط صور تاريخية تمثل عودة البطل ( ص 8 موانئ الشرق ) كما استطاع أيضا أن يتواجد في اللحظة الحاسمة ليصور الصفوف الأولى للمتظاهرين ضد الأرمن ( ص35 موانئ الشرق).
بالرغم من أن الموضوع الذي تعالجه الرواية لم يكن جديدا فالقارئ لجنوب الملح يشعر بالمتعة و يشعر أيضا بالحيرة و التساؤل.

هوامش:
ـ رواية جنوب الملح ميلود يبرير منشورات دار البرزح و الجديد الطبعة الثانية سنة 2015.
ـ موانئ الشرق أمين معلوف ترجمة نهلة بيضون المؤسسة الوطنية ل لأتصال و النشر و الاشهار و دار الفرابي ،الطبعة الثانية 2001.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *