منذ أحقاب عديدة يقبع الوجدان الجمعي للبشر في حالة انتظار لفارس نوراني نبيل يأتي لتخليصهم من حمأة الحياة السفلية التي ينغمسون فيها إيذاناً بعصر ذهبي للعدالة والرقي والجمال.
بالطبع لن يكون الأمر كما صوّرته الخلطة الفيلمية الأخيرة لشبكة “نتفليكس” عبر سلسلة “المسيح” الذي تطارده المخابرات الأميركية والإسرائيلية، وتبحث في تاريخه العائلي كونه إيراني تأثر بفكر أستاذ جامعي أميركي متطرف، وقام بالتسلسل الى دول عديدة وعمل معجزات أمام العامة مثل السير على الماء، واحياء الموتى، وإبراء المرضى، وتحريك الأعاصير المدمرة والعواصف الرملية المميته، وأيضاً إطلاق النار على كلب لتخليصه من آلامه..!
المسيح المخلص هنا نسخة تبدو أنها تأخذ شرعيتها من تلاوة الآيات القرآنية على الناس أو الكرازة الإنجيلية والدعوة للمحبّة والسلام بناء على الإرث النقلي الذي وصلنا عنه، وكيف سيظهر عند المنارة البيضاء بدمشق ويبدأ بالدعوة لأفكاره، ومن جهة أخرى فهو نسخة جديدة تناقض الرؤية المسيحية الأوروبية عن المخلص الأشقر الذي سيهبط من بين الغيوم قادماً من السماء ومعه ثلة من الملائكة، فهو أسمر البشرة وجامعي حداثي ببدلة رياضية نوع أديداس ويتكلم بلغات عديدة..!
أغلب الشعوب من مختلف الديانات والاعتقادات تنتظر إذن مخلصها الخاص بها، فالمسلمون السنّة ينتظرون المهدي أولاً ثم يأتي بعده المسيح ويصلي خلفه ويقتل الخنزير ويكسر الصليب، وهكذا يكون المسيح النبي هنا قد انتظر في حالة غيبة نحو ألفي سنة ليعود تابعاً لرجل من الصالحين المسلمين، رغم أن الروايات التي وصلتنا عنه بأنه سيقوم بقتل “المسيح الدجال” وبدء صفحة جديدة من السعادة للبشر بعد أن عانوا لآلاف السنين من الطاقة السلبية.
النسخة الشيعية مختلفة نوعاً ما فالمهديّ المنتظر عند الإمامية هو الإمام الغائب محمد بن الحسن العسكري، آخر أئمتهم الذي قيل إنه وُلد في سامراء عام 255هـ للهجرة، ثم اختفى ويعتقدون أنه لا يزال حيًّا يعيش في الغيبة الكبرى، وأنه سيعود في آخر الزمان بالسيف ليملأ الأرض عدلاً.
اليهود والبوذيون والهندوس والسيخ وأصحاب اعتقادات كثيرة من البشر تنتظر مخلّصاً منها أيضاً وتعيش على فكرة قدومه، ولو أردنا أن نقوم بذكر من ادعى المهدوية من المسلمين السنّة فقط منذ 14 قرناً إلى اليوم لما اتسعت لذلك العديد من الصفحات، وعلى سبيل المثال كان الصوفي الشهير ابن عربي واحداً منهم، وقد ادعى المهدوية والعيسوية معاً في أقوال صريحة قبل أن يكتشف قبل رحيله بسنوات قليلة بأنه ليس هو، ومع ذلك فقد ادعى كثير من تلامذته الذين تابعوا طريقه بعده المهدوية أيضاً.
والآن فإن السؤال الذي يبرز أمامنا بشدّة: ماذا لو عاد المسيح حقا؟ وهل يحتمل الناس أصلاً قدومه؟
هل تذكرون رواية الأديب نيكوس كازانتزاكي “المسيح يصلب من جديد” والمأساة التي عاشها ذلك الشاب الذي تقمص دور المسيح وأخلاقه بين قومه الجشعين حتى رغبوا بالتخلص منه..!
أغلب الظن أنّ هذه الأمم التي تنتظر مخلصها ستكون أول الرافضة لقدومه، وستبحث عن وسيلة لقتله في أقرب وقت، وتعالوا نتخيل معاً لو أن رجلاً من المغرب أو الشام مثلاً قد ادعى في هذه الأيام أنه المهدي المنتظر، وأن الله قد أرسله ليملأ الأرض عدلاً ومحبة، فماذا سيحدث معه على سبيل التخيّل؟
الشيعة لن يقبلوا به لأنّه سني، والسنة سيرفضونه لأنه لن يكون على مذهب من مذاهبهم الشهيرة فهو إن عاد حقاً سيكون خارج التصنيفات، لا شيعي ولا سني، ولا يتبع لأي مذهب شافعي أو حنبلي أو غيره، وسيرفضه المسيحيون لأنه مسلم في ظاهره، ولن يقبله اليهود لأنه لم يأت من بينهم، وإذا أراد أن يصحح الدين الإسلامي الموجود بين أيدينا فسيتعرض له الفقهاء بالتكذيب والتكفير لأنّه لم يدرس الشريعة في جامعات معترف بها من قبلهم، ولن يقبل هو أيضاً بوجود مثل هؤلاء الفقهاء ورجال الدين الذين يقبضون الأموال أجراً على العلم ودعوة الناس الى الله وبديلاً عن قيامهم بالصلاة والأذان والإمامة، وهكذا فإن هذا الرجل سيكون غير مقبول من الجميع، فالكل ينتظر أن يظهر ضمن التصور الخاص عنه والإرث النقلي الذي وصلهم عن أوصافه، حتى لو كان هو المهدي حقاً أو المسيح المنتظر الحقيقي..!
أغلب الظن أن المسيح المضاد أو “الدجال” سيقدم لهم خلطة أخرى بمواصفاتهم ويظهر لهم من المعجزات ويدعوهم إلى الضلال فيستجيبون له، فكلفة الشر في هذه الأيام تبدو أقل بكثير من كلفة الخير، والمقبلون عليه أكثر من الخارجين منه، فلقد صدق عليهم إبليس ظنه، وفشل البشر حقاً في خلافة الله على الأرض وإعمارها بالخير والسلام والازدهار بعد أن هبطوا بكل القيم السامية إلى الحضيض..!
وبالطبع لن يكون خلف “المخلص” إلا قلة من الصادقين لا ينتظرون أن يطير في الهواء أو يسير على الماء أو يحيي الموتى، فالعالم اليوم بحاجة إلى إعادة حقيقية لإحياء الأخلاق ونشر ثقافة المحبّة وحقن الدماء بين كل البشر من كل لون وجنس ودين، وتلك مهمة كبرى تحتاج إلى تضامن كل ما تبقى من طاقات الخير التي في البشر، وبعدها سواء هبط المسيح من بين الغيوم أو جاء المهدي من سرداب أو حلت على رجل من الصالحين تلك الطاقة النورانية وسخره الله لهذه المهمة الكبرى فإنّ ذلك هو الخلاص الحقيقي والمنتظر، وعندها ستخرج الأرض بركاتها وستزول طاقة الفساد التي عاثت طويلا في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وسيرتقي البشر إلى عالم أكثر جمالاً وسلاماً..!