حين ترى هذا الشخص تتخيّل أنه هادئ، قليل الصخب، يتحرك دون فوضى أو إزعاج. ولكن حين قرأت كتابيْه: سحر الشخصية، وكاريزما كود، تيقنت أنني أمام مفكر مدني صعب. فأنت تقف أمام شخص يعرف ما يقول، ويقول بعضاً مما يعرف. وكأنه يدّخر مفاجآت جديدة.
نعود إلى كتابي ماهر سلامة المذكورين. وما أصعب العودة. فالقراءة سهلة جدا. بل إنّ درجة الإنقرائية Readability عالية جداً. ولكن الكتابة في الثقافة المدنية صعبة جداً، وذلك لسببين هما :
1 – أنّ الكتابين مليئان بتفاصيل وأقوال مذهلة. تفاصيل لم يحددها ماهر في أي إطار، ولو أن الإطار الخفي سار باتجاه بناء فرد مدني لمجتمع مدني. وكأني بذلك – ربما – وجدت أنه أراد أن يتصرف كفنان تشكيلي بعيد عن طقوس الموعظة والمثالية، حيث رسم لوحة وترك للقارئ أن يحدد إطارها أو مضمونها؛ إذ من الصعب أن تضع إطاراً موضوعياً للوحة تتشابك فيها المعاني والألوان والشخصيات والمشاعر والقيم. ولكن واجب الزائر لمعارض ماهر – الكتابية- أن يقدم تغذية راجعة للفنان المؤلف كونه من أشد المؤمنين بالتواصل بين الحضارات.
2 – إنّ التفاصيل العديدة، لا يمكن تلخيصها في هذه الفسيفسائية، إذا حذفت منها قطعة تَشوه اللوح الفني الجميل. وأي نقص في العمل الفني هو تشويه. فجمال اللوحة والقصيدة والأغنية والتمثال والكتاب في كونها كاملة تامة. وأي اختصار هو حذف ونقص وتقليل وزن وأهميةلأنه رسم إطاراً لمفاهيم السلوك الذاتي المدني، نحو التنمية المستدامة للذات.
إذاً لن أختصر، ولكن من المستحيل أن أقدم كامل الكتابين، ولذلك لجأت إلى إلباس اللوحين – الكتابين – مشاعري ورؤيتي وقراءتي فقط.
إذاً لنبدأبما هو مشترك للكتابين، ثم أبحث في خصائص كل منهما منفرداً إذا استطعت..
أولاً- الكتابان يعكسان اطلاعاً واسعاً على الأدب والفلسفة والفن والسينما وحتى الجمهور. فقد قدم الكتابان أقوالاً وأفكاراً تمكنان أي قارئ لاختيار فكرة مدنية يومية تصلح لاتخاذها نموذجاً ملهماً لعمله في ذلك اليوم.
وأقدم أمثلة من كتاب “سحر الشخصية وفروسية الذات” :
1 – لن يحترمك الناس لطيبتك أو قسوتك أو تواضعك أو غرورك. بل عليهم أن يشعروا بأنك تعلمهم باستمرار، وتجتهد لئلا تكرر أخطاءك. (سحر الشخصية، ص 50 ).
2 – لا تحاول الانتصار على الحياة اليومية بانتصارات مؤجلة.(سحر الشخصية، ص 52).
3 – ضاقت المسافة بين الأشياء المتضادة :
– الحلم والوهم
– الطمع والطموح
– الزيف والحقيقة
– الغرور والاعتزاز
– العمق والسطح
4 – لا يمكنك أن تُعلم أحداً شيئاً. كل ما تستطيعه هو حفزه إلى التعلم ( سحر الشخصية، ص 70 )، وهذا كلام منقول عن غاليلو، ومتفق مع أكثر النظريات التربوية حداثة.
أما من كتاب “كاريزما كود”، فاقتطفت منه الامثلة التالية:
1 – حين تقدمت أوروبا، فإنّ مجتمعها هو الذي صنع الدين وطوّره وهذّبه، ليسهم الدين في صناعة أوروبا جديدة. وهكذا كان ( كاريزما كود، ص 81). وكأني به يقول ليس الدين فاعلاً والمجتمع مفعولاً به كما هو نحن. فالمجتمع هو الفاعل، فعلينا تشكيل الدين لا أن نصبّ أنفسنا في قالب دين جامد.
2 – قف بجانبي إذا كنت ترى ما أرى وتشعر بما أشعر وتتوق لما أتوق. ( كاريزما كود، ص 224 ). لاحظ: المحافظة على التعددية والتنوع. فالتشابه لا يعني الذوبان، بل يعني المؤازرة والتضامن.
3 – التنوع فرقة موسيقية، وتنوع المجتمع يصنع التوافق. والإجماع هو قبر الجميع (كاريزما كود، ص224 ). وهو قول مأخوذ من مونتسكيو.
4 – التوسل والعبودية تحطان من قدر الإنسان. بخلاف الفقر الذي غالباً ما يحفز، (كاريزما كود، ص 224 ). منقول من روسو.
5 – وعن ميكافيللي، الجنود أو المقاتلون الحقيقيون يكتشفون أو ينتجون الذهب. ولكن الذهب لا ينتج مقاتلاً واحداً ( كاريزما كود، ص 224 ).
6 – الهوية هي ما ننتجه ونبدعه وليس ما نرثه، منقول من الشاعر درويش ( كاريزما كود، ص 209 ).
7 – الوطن والمجتمع يحصنان الهوية، وسابقان لها. والوطن شرط وجود الدين. والدين ليس هو الهوية لأنه معتقد. أما الهوية فهو ما يربطني بالآخرين في المجتمع ( كاريزما كود، ص 213).
8 – الزواج هو إيجاد مشتركات بين طرفين متفرّدين، يتضامنان ويتحالفان، ويبقى كل منهما مستقلاً ( كاريزما كود، ص 102).
الحقيقة، أن كل سطور الكتاب تحتفي بأفكار عديدة.
ثانياً- يعكس الكتابان نظرية واحدة للفنون. الفنون واحدة، تدركها بحدسك كما خيالك، كما حواسك. ولا تنفرد قوة واحدة بإدراك العمل الفني. ففي العمل الفني تختلط الحواس في وظائفها. فلا ترى العين بل تلمس وتتذوق وتتخيّل وتسمع، وكذلك فإّن الأذن تلمس وترى وتتخيل كما تسمع، ولما كان الكتابان، كما ذكرت، عملاً فنياً، فإنّ قراءتهما والاستمتاع بهما يتطلب تفرغاً ذهنياً وجسدياً وروحياً وعقلياً، وأن تتجول وتتحرك باستخدام عقلك، وتسافر باستخدام حواسك وحدسك!! وليس بالإمكان أن تفرّغ جزءاً من ذاتك لقراءة ماهر سلامة. إن قراءته تحتاجك كاملاً غير منقوص!! أي بتوظيف كل حواسك ومشاعرك وعواطفك وانفعالاتك وتأملاتك !!
ثالثاً- من المهم أن تعرف وأنت تقرأ ماهر سلامة كيف تنظم الأمور. وتمارس عمل سيدة طويلة البال تنظم خرزاً دقيقاً في ثوب مطرز؛ لأنّ كل كلمة – لا أبالغ – كل سطر فيه يقدم لك معنى متكاملاً. وكل معنى متكامل لديه يقدم لك خطوة في مسيرة بناء مذهبك الفلسفي والأخلاقي.
وأقدم هنادلائل على ما قلت من كتاب “سحر الشخصية وفروسية الذات”..
– إذا عاش الزوجان على ما بدآه من حب، فسينتهي بهما المطاف إلى نهاية صادمة. لذا عليك أن تنتج حباً جديداً في كل لحظة (كاريزما كود، ص 210 ). أليس هذا إطاراً فلسفياً لإنتاج حب دائم؟
– إنّ أركان الذات هي العقل، والعاطفة، والروح، والجسد، وهذه تنتج الخيال والوعي والضمير والارادة. إنّ ضعف نشاطنا ناتج عن سيطرة أحد هذه الأركان على غيره ( كاريزما كود، ص 106 ).
أما من كتاب “سحر الشخصية..”، فأقتطف ما يأتي..
– ليس بالكلام وحده نتواصل مع الآخر ( ص 13 ).
– حرر نفسك، والأفعى التي لا تخرج من جلدها تموت ( ص 48 ).
– يمتلك الغربي منظومة قبول الآخر. ويتحمل مسؤولية ما يفعل، فهو فرد أو عضو في جماعة. أما العربي فلا يثق بالآخر ولا يطمئن له، ويحتمي بعشيرته، الملجأ الأول والأخير له. ( ص 27 )
الغرب ينمي الذات، والقبيلة تنمي ذوبان الذات، وتصنع هوية قاتلة.
لذا فإنّ الكتابين معاً..
يحرران الذات، ويهذبان الهوية، فلا بناء للهوية على حساب الذات، ولا تتحرك الذات دون هوية، ولا تطمس الذات بالهوية. فالذات هي من تصنع الهوية وتطورّها وتجددها.
رؤية في كتاب كاريزما كود..
يعالج الكتاب عدداً من القضايا، اقتطفت منها، قضية الأيديولوجيا، والحجاب العقلي، ومصادر الحب، والخيال الإنساني.
يُرجع ماهر سلامة تقدم الإنسان إلى اختراعه للتكنولوجيا، فهي طريق السمو بالإنسان، وأداة البحث والسؤال والسيطرة على الوجود، فحين يمتلك فرد فكرة الابتكار، فإنه يمتلك مصيره وتاريخه، وبغيابها يقبع الإنسان داخل حجاب عقلي.
حيث يربط قدرة الابتكار واستخدام منتجات التكنولوجيا بما يلي..
– القدرة على قراءة ما بين السطور وربما ما لم يكتب وبقي في ذهن الآخر.
– القدرة على السيطرة على الفكر. فالإنسان هو محرك الفكر وصانعه وليس نتاجاً له.
– القدرة على امتلاك الذات، فالإنسان سيد نفسه، ومن يرتهن للخارج فهو غير حر إطلاقاً.
– القدرة على فرز الحلول الجاهزة والخفية، فكل فكر موروث تسرب إلينا دون فحص وقدّم لنا حلولاً جاهزة، هو المسؤول المباشر عن كسلنا وتقاعسنا. الحلول الجاهزة تعطل آليات الفحص والشك.
– القدرة على تحويل المعلومة إلى أسئلة تثير الدهشة وتعمق التأمل، ولا تكون معوقّة للحركة الإنسانية والابتكار.
– يرى المؤلف أنّ السؤال هو قوة الروح والعقل والخيال، وعبر الحرية والسؤال فإنك تمارس كل نشاطاتك الإنسانية/المدنية وفي مقدمتها الفنون، حيث يمكن إعادة بناء الحياة.
– وفي قضية الحجاب العقلي، يناقش الكاتب بعداً أولياً يقول إنّ ما هو موروث وما هو جاهز يعتبر حجاباً عقلياً، يعزلنا عن الحقيقة وعن إمكانية البحث عنها. كما يقوم الحجاب الفكري بعزل الأفكار وإخفاء الأسئلة. وترتبط قضية الحجاب العقلي عند سلامة بأمرين هما، تعطل الحرية وغياب ملكة السؤال والتساؤل.
– ففي غياب الحرية تغيب المدنية الإنسانيةوتسود ثقافة اللامبالاة والنأي بالنفس عن الحقيقة والواقع. فالحرية مشروطة بالمسؤولية؛ أي بعمل ما يجب عمله بالنسبة لكل شخص، ومن هنا خلق التنوع وفرادة كل إنسان بمنجزه.
– ويناقش سلامة في هذا الباب قضية الانسجام والتنوع؛ فإذا كان الانسجام ناتجاً عن هيمنة القوة، فإنّ ذلك استبداد وقضاء على التنوع. أما الانسجام الناتج عن وجود مكان لكل فكرة فهو الانسجام المنشود.
– وفي قضية الحب، يناقش سلامة نوعين من الحب، هما: ما نمنحه لذاتنا، وما نعطيه للآخر سواء كان الآخر بشراً أم كوناً. والحب الثاني ما نتلقاه من الآخر من حب. ولذلك يعرف الحب بأنه البحث عن المشتركات بين طرفين، فإذا طبقنا الحب على مؤسسة الزواج، فإنّ الزواج الناجح هو ما يكون بين طرفين متفردين مستقلين، ولكن بينهما ائتلاف وتضامن.
فالزواج ائتلاف رغم الاختلاف وتفرد رغم الائتلاف. وإذا ساد أحد الطرفين، انتهى الحب، وقد يستمر الزواج بدوافع أخرى غير الحب المفقود، فيعيش الزوجان على ما ورثاه من حب. وهذا مصدر منتهٍ ما لم يتجدد. فالمطلوب بذل جهود لإعادة أنشطة إنسانية تجعل من الحب استمراراً وتجدداً.
– وفي مجال الخيال الإنساني، أخيراً، فإنّ سلامة يرى أن لا حدود للحب، ولا مساحة له، فهو يفوق ما أمامنا، وإن كان سلامة ربَطه بسعة الأرض، لكنه كان ذكياً حين قال، تتسع الأرض باتساع مساحة الخيال. لذلك لا حدود للواقع أمام الخيال المبدع، فالخيال يعيد صياغة كل شيء.
والخيال يجعلنا نعيد صياغة الهوية، ويرفض أن نرثها أو نستوردها، والخيال يمدنا بالإصرار على الوقوف أمام هوية واحدة.
ولي كناقد بعض الملاحظات حول ما سبق،أقدمها بشكل أسئلة أخترق بها أي حجاب..
– هل نريد هوية خاصة بكل فئة، أم نبحث عن هوية مشتركة ؟ وهل الهوية المشتركة بالضرورة هي هوية الحضارة السائدة. وهل نريد هوية واحدة أم هوية موحدة تتسع لكل الهويات؟
رؤية في كتاب سحر الشخصية..
يبدأ الكتاب بالتركيز على حكمة فارس والتي تشمل “الفروسية والأداء والرشد والسحر”،
حيث أبرز الكتاب القضايا الآتية :
على الذات في السر والعلن أن تكون واحدة؛ حيث يشير الكاتب إلى أهمية التدريب الذاتي لصهرها، كيف تصبح نجماً مجتمعياً منتجاً عبر رحلة التغيير. والحقيقة أنّ الكتاب موضوعه واحد، وإن تنوعت ملامحه، فهو دليل عملي للبحث عن الذات وتطوير الذات وتنميتها لتصبح ذاتاً قادرة على التحرر والاستقلال والقيادة.
وهذه أبرز المبادئ المدنية/الإنسانيةلقيادة الذات المذكورة في الكتاب:
المبدأ الأول :
أن تكون نفسك سراً وعلناً. وهذا يعني أن يجتهد الإنسان ليوحد صوره المتعددة وهي:
– صورة الإنسان كما يراها بنفسه
– صورته لدى الآخرين
– الصورة الحقيقية في التجارب العملية
ونختلف جميعاً في تعدد صورنا، ولكنّ الإنسان الفارس له صورة واحدة، يكشف نفسه الحقيقية أمام الآخرين؛ بحيث يرونه على حقيقته دون مكياج أو زيف.
المبدأ الثاني:
وهو السعي إلى الكمال دون وهم الوصول له، وعدم الاكتفاء بمحطة واحدة أو قمة أولية وصلنا لها، فالمطلوب هو ارتياد المجهول والبحث عن قمم جديدة. فالحياة رحلة وليست محطة/غاية.
Life is a journey, not a destination
ولذلك، علينا أن نسعى لنكون نجوماً لا أرقاماً. ورحلة النجومية تبدأ بالرحلة داخل الذات على طريقة سقراط: إعرف نفسك بنفسك، ولن تكون نجماً أمام غيرك إذا لم تشعر بأنك نجم ذاتك.
المبدأ الثالث:
الاستقلال، ويعني أن تكون قادراً على التعبير عن ذاتك وقدراتك ومعارفك وعلاقاتك وخاصة مشاعرك. والشخصية المستقلة هي القادرة على أن تكون ( Assertiveحازم) دون عدوانية ودون سلبية.
– وهذا يعني أن :
تقول “لا” بقوة إذا كان هذا رأيك.
تحل مشكلاتك بطريقة رابح – رابح.
أن تفكر بحلول جديدة لمشكلاتك.
المبدأ الرابع :
بناء الهوية، والهوية المطلوبة هي هوية تنويرية تتم من خلال :
أن تميز بين ذاتك وبين ما تعتقد أنها ذاتك.
أن تكون حداثياً غير مقيد بأي تراث لم يسهم أو لا يسهم حالياً في تطوير ذاتك.
أن تكون مغيِّراً لا مجرد قابل للتغيير أو داعم له.
أن تحافظ على إرادة حازمة وضمير عادل حي.
وهذا يعني أن تعيش في سلام داخلي، خالٍ من تناقضات العقل والعاطفة، والأنا والآخر، لتحقيق الثبات والتغيير.
المبدأ الخامس :
أن تكون مبدعاً، بمعنى ألا تقيد نفسك بافتراض ما، أو مسلّمة ما، وأن تُخضع كل هذا للشك والتأمل والاختبار والفحص.
والابداع يعني :
أن ترفض المسلمات، لا بل وتنفيها.
أن تجرب وتعكس بعض مسلماتك.
أن تشوِّه بعض مسلماتك.
أن تقدم إنارات عشوائية للبحث عن روابط جديدة بين أشياء لا تبدو أنها مترابطة.
ولذلك يقول سلامة: انهض ولا تعش مأسوراً لأزهار غيرك، لئلا تنمو بك أشواكها.
المبدأ السادس :
الذكاء العاطفي، والذكي عاطفياً، عند سلامة، هو من يمتلك كاريزما، بحيث تنبع منك جاذبية الثقة واللطف، لتجعل الآخرين يصلون إليك. والكاريزما تشمل الذكاء العاطفي والتوازن العاطفي وتلقائية المشاعر، وحب الآخر، والثبات أمام التوترات، فمن خلال الذكاء العاطفي نكتشف شخصيتنا ومهاراتنا وقوانا، وبتقديري، فإنّ الذكاء العاطفي هو تكامل التفكير ونضجه، فلا تفكير دون طاقةالعاطفة الإيجابية، فهو مكون رئيس للتفكير لدى الاْفراد والمجتمعات المدنية والمتمدنة.
______________________________
*باحث في شؤون التربية ودراسات المناهج والنهضة التربوية/الأردن