الأمة العربية ضد الوعي الذاتي

خاص – ثقافات

*د.عزيز الحدادي

ما لم نصل الى بناء فلسفة الوعي بالذات ،فان العقل سيظل يتمتع باوهامه الى ان يغرب في شفق الاصيل ،ذلك ان افول العقل لا يتحقق  الابعد خوض تجربة الاوهام ، اذ من خلالها تتحدد ماهيته ، اي انطولوجيا العقل ،ذلك ان صراع العقل مع الاوهام شبيه بصراع الوجود مع العدم ، ومن خلال هذا الصراع يتدخل الفكر ليحرر العقل من سباته الدوغمائي .هكذا يتم بناء بناء النهضة الفكرية على اسس فلسفة الانوار التي ستعطي انطلاقة الثورات العلمية .ربما يكون هذا المسار المنطقي هو ما ينقص العقل العربي ،ولذلك ظل سجين اوهامه ،مما حكم على هذه الامة ان تعيش كل هذه القرون بدون عقل ، واضحى حال من ينتمي اليها كحال “اهل المدينة الضالة الذين يعتقدون في الشقاء بانه سعادة ،وفي العقل الفعال اراء فاسدة ،ويكون رئيسها ممن اوهم انه يوحي اليه من غير ان يكون كذلك ،ويكون قد استعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور”1 الفارابي ، اراء اهل المدينة الجاهلة ،دار المشرق ص133 .

  وبما ان هذا الرئيس يكون جاهلا ،لانه لم يتذوق نعمة العقل   ،فان تدبيره للمدينة الجاهلة رائعا ،مادام ان هذه المدينة ليست في حاجة الى تحرير العقل من اوهامه ،وبخاصة وان ”  المدينة الجاهلة هي التي لم يعرف اهلها السعادة ولا خطرت ببالهم ،وان ارشدوا اليها لم يفهموها “1الفاربي ،المصدر نفسه ص 131.ذلك ان الرئيس متى افتقد الى الحكمة ،قام بصياغة في سلامة الابدان واليسار والتمتع باللذات ،بل انه يضطهد الصنائع والعلوم والحكمة ،نظرا لافتقاده ملكة العقل ،ولذلك لن يقوم بتحويل مدينته الجاهلة الى مدينة فاضلة .لكن لماذا لا يستطيع ؟هل لانه لا يملك السلطة والثروة ؟ام لانه محروم من ملكة العقل ؟،ومن اين ياتي العقل الى الروح اذا كانت الحكمة  في المنفى ؟

 الواقع ان الفارابي قد تكلم بلغة  لم تفهم  الى حد الان في هذا الفضاء المقهور ،ولذلك يتم استغلال فلسفته المدنية من قبل تلك الفضاءات المبتهجة ،فثمة اثمن حكمة في هذا التراث العقلاني يتم اخضاعها للعبة الاقنعة ،وتضليلها بالخطاب الايديولوجي الذي تمارسه الهيمنة السياسية حين ترفض قول الفارابي في الرؤساء الافاضيل والجهال ،ولعل هدير حكمته قد حرك ذلك المجرى الثابت عندما قال “فمتى اتفق في وقت ما ان لم تكن الحكمة جزء من الرياسة وكانت فيها سائر الشرائط ،بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك ،وكان الرئيس  القائم بامر هذه المدينة ليس بملك ،وكانت المدينة تعرض للهلاك .فان لم يتفق ان يوجد حكيم تضاف الحكمة اليه لم تلبث المدينة بعد مدة  ان تملك”1الفارابي ،المصدر نفسه ،ص 130 .فباي معنى يمكن ان نفهم هذا الكلام ؟الايكون الزمان الذي يفصلنا عن الفارابي قد ضاع خلسة ؟الا يكون هذا العصر اسوا من عصره ؟الم يكون مشروع مدينة السعادة يتوقف على مشروع فلسفة الوعي التاريخي ؟والى متى ستظل الحكمة مبعدة والحكيم محروم من الحق في السلطة؟

   لم يكن قدر هذه الاسئلة حزينا , بل كانت هي نفسها خائفة من الانصهار حتى الذوبان في النسيان ,ما دام ان الفيلسوف الذي سينتزعها من يد النسيان قد اختفى ,واختفى معه الخليج و المحيط , وتوقف نهر الحكمة ,واضحى العدم قابلا للترميم ,و الوجود ينفلت ولا يمكن ترميمه كتلك الايام الجميلة التي سلبت منا ,وكلما اردنا استعادتها يواجهنا حراس العدمية الذين شردوا الفرابي وقاموا بهدم مدينته الفاضلة ,وهجروه الى المدينة الجاهلة ,وفرضوا عليه الحراسة الاجبارية الى ان خضع للطاعة و الهيمنة و اطلقوا عليه اسم المقهور ,بيد انه خاطبهم قائلا ” و اما المضطرون و المقهورون من اهل المدينة الفاضلة , على افعال الجاهلية ,فان المقهور على فعل شيء لما كان يتاذى بما يفعله من ذلك صارت مواظبته على ما قسر عليه لا تكسبه هيئة نفسانية مضادة للهيئات الفاضلة , فلذلك لا تضره الافعال التي اكره عليها . لانه اضطر الى ان يسكن في مساكن المدينة الجاهلة “؟

هذه الكلمات ينبغي ان تتسلل خلسة الى ارواح الاصفياء الذين يعقد عليهم الامل في تحرير العقل العربي من اوهامه , و المدينة من جهلها , و العمل على بناء نهضة الفكر والثورة العلمية .

لانه كلما تاخرت هذه النهضة , كلما ظل العقل يتمتع بسباته الدوغمائي ,و الامة بالانحطاط و الصراعات الايديولوجيا , فمن اجل الخروج من هذه الصراعات ينبغي فتح المجال امام الحوار الفكري و التعدد الثقافي و السياسي ,و السعي الى مجتمع المعرفة و العلم و التقنية . فثورة العقل على اوهامه معناها ثورة الانسان على نفسه ,و الرغبة في الحرية بعيدا عن تلك الاراء الفاسدة للعقل و الحكمة و السياسة المدنية .

لم نكن نتوقع بان العقل الفعال سينقطع نوره على المعقولات التي هي مصدر العقل و العدل و الحكمة لانه ” كيف يفيض عليها الضوء حتى تحصل المعقولات ,و الارادة و الاختيار و الرئيس الاول غير عاقل ” اذا لم يكن في وقت من الاوقات يهاجم العقل و العقلانية ,ولذلك فانه يحاصر المدينة الفاضلة و اهلها و السعادة التي تصير الها انفسهم ,بل يدفعهم الى الشقاء و العدم او يجعلهم يتحدثون عن اللذات الحسية ,اي الماكول و المشروب و المنكوح و الملبوس و المسكون ,وهذه هي حال اهل المدينة الجاهلة .

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *