خاص – ثقافات
* سعيد بوخليط
يعترض بوبرعلى التصور؛الذي ينطلق من مبدأ :” أن العقلاني، وحده من بوسعه مقاربة المجتمع ككُلٍّ ولا يبحثبالتالي سوى للتأثير في هذا الكل. يحيل أصل هذه الفكرة على الوعي بأنه قياسا إلى مجتمع ما ومع كل حقيقة، يعتبر مغفلا و مخدوعامن لا يرى غير أجزائهما المتباعدة”(1).خاصة مع التحليلات الهيغيلية؛التي أكدت على واقعية مبدأ وحدة الأجزاءداخل الكُلِّ.ثم النظرية الماركسية بعد ذلك،التي تصورت المجتمع كحصيلة للصراعات الطبيعية وتمظهراتها الاقتصادية.
لذا، جرى الاعتقاد بأن التغير المجتمعي؛لا يتم إلا برؤية نسقية على مستوى المجموع. و مصير أي إصلاح جزئي الإخفاق والفشل.
ينتقد بوبرهذا المخطط “الطوباوي”؛ساعيا أيضا إلى إظهار وهمية توخيه العقلانية، بحيث لا يمثل على أرض الواقع سوى انحدار عند مستوى العمى الذاتي.
دلائل بوبربهذا الخصوص :
– لايمكننا معرفة هذا الكلّ أو التأثير فيه. وكل قصد يتطلع نحو ذلك يلاحق أساسا الزيف:” الاعتقاد بممارسة علم يلامس الكلّية الاجتماعية أو القيام بفعل كلي مسألة وهمية : الشخص الكلياني غير مدرك للطبيعة الانتقائية بخصوص تدخله في الواقع ، لذلك يتفاعل بطريقة غير نقدية .مايفسر خطأه خلطه بين فكرتين : كلمة “كل” تحيل سواء إلى كلية خصائص الشيء أو “بعض مميزات الشيء موضع التساؤل، أي التي تجعله يبدو بالأحرى يبدو كبناء منظم أكثر من كونه مجرد تراكم”. وحدها الكليات بهذا المعنى الثاني يمكن دراستها. لكن ينبغي رؤية إذا أمكنها، أن تكون أقل فورية أو أكثر تجريدية، فهي في العمق جزئية كذلك مثل الخصائص الأخرى”(2).
يجب أن تكون علاقتنا بالواقع انتقائية، مادامت تستحيل كل إمكانية للضبط الكليانيللمجتمع.أيضامن الناحية المنطقية، يؤدي ثانية كل ضبط دقيق للعلاقات الاجتماعية نحو خلق علاقات اجتماعية جديدة، وهكذا دواليك؛أي أن عملية الضبط ترتد إلى اللانهائي .
كما أن عملية المراقبة الكلية،حسب هذا المنظور الكلياني تنتهي بالتأكيد عند اختزال تعدد العلاقات و إلغاء الاختلافات .
– الدليل الثاني الذي جاء به بوبر؛يشير إلى:”استحالة تهيئ معرفة ضرورية قصد إيجاد مخطط كلي لمجتمع مثالي. تتأتى المعرفة الوحيدة التي بحوزتنا من تجارب متفرقة. أما بخصوص المجسمات الطوباوية التي يمكننا إعدادها، فلا نملك الوسائل لاختبارها وكذا معرفة قيمتها”(3).
يستسيغ الطوباوي العنف بسهولة، ويفترض أسوأ الديكتاتوريات وأفظع الأنظمة السياسية. من الناحية البيداغوجية التعليمية، يتحول المفكر الطوباوي حتما إلى شخص دوغماطيقي، لأنه يحرم نفسه إمكانية اكتشاف أخطائه وبالتالي التعلم والنجاح. يكون المجرب الطوباوي،مجبرا على إسكات انتقادات الآخرين بالقوة إن لزم الأمر .
مقابل كل ذلك، يدعو إلى تبني منهجية” تجزيئية ” أو بشكل من الأشكال” انتهازية”. مما يتحتم،امتلاك الشخص عقلانية تقنية. لذلك سيتكلم بوبر؛كمصلح سياسي عن” الذهنية التكنولوجية “و” التكنولوجية المجزأة”. محددا خلال الآن نفسه؛هدف كل سياسة في حماية الناس، قصد التخفيف من المعاناة وتحقيق قدر كبير من المساواة عن طريق مجموعة من المؤسسات السياسية، كي تحمي الناس أولا ضد أنفسهم:”إنهم حقا طيبون، لكنهم حمقى ومتقلبون”(4).
وقد وجد في الليبيرالية السياسية؛ مميزات تمنحها أفضلية لديه.يقول:”أعتقد بأنهفي وسعنا،العمل بالنسبة لكل جيل تقريبا، كي تصبح الحياة شيئا ما أقل خطرا وجورا”(5)،فالمهم أن نسعى إلى محاربة الآلام الفعلية و الواقعية .
لذلك يشبه بوبر المؤسسات السياسية بالمعاقل:”لا تكون فعالة إلا إذا توفرت على جنود ملائمين”(6).من الضروري امتلاكها قدرة جعل الأفراد أحرارا في الاشتغال تحت كنفها،مع التعود على تحمل سهام النقد؛لأنه الوسيلة التي تمكن تلك المؤسسات من تحسين أدائها.
أما قضية السيادة انطلاقا من سؤال :” من الذي يجب أن يحكم “؟ فلا تهمه،لأن الشيء الضروري يتمثل بشكل خاص في مراقبة الحاكمين .
تلك إذن بعض أفكار بوبرالسياسية،وتصوراته لكيفيات تنظيم العلاقات بين الناس. ثم نضاله الفكري؛ قصد تشييد أسس مجتمع منفتح،يؤمن بالاختلاف والتعدد وتكريس لبنات المؤسسات الحرة .
غير أنه تبقى أساسا لنظريته العلمية،أهمية قصوى ضمن جغرافية إبستمولوجية القرن العشرين. فقد غيرت مجموعة من الثوابت والأفكار السائدة حول فهمنا للعلم والممارسة العلمية. ولاشك،أن تأطير بوبرمعرفيا لما يسمى بقابلية التكذيبثم وقوفه على قابلية النظرية المعرفية باستمرار للخطأ؛سيشكل قطيعة مع كل دوغماطيقيةعلموية : “تجعلنا نعتقد بأن العلم ينفتح و ينتهي على معارف مطلقة ،وتخلق توهما بخصوص طبيعة العلم الحقيقية ”(7).
أشاد بوبردائما،بالمقولة السقراطية :”أعرف أني لا أعرف شيئا ” وأعلن تأثره بالمسار أينشتاين،معارضا في المقابل ماركسوفرويد . لكن تنبغي أيضا، الإشارة إلى ضرورة تمييز قابلية التكذيبلدى بوبرعن الشكية، حتى وإن تداخل المفهومان المنتميان إلى التراث الثقافي للقرن العشرين .
إذا كانت لا أدرية سقراط شعارا،اختزل بوبر وفقه تبسيطيا نظريته وكذا مفهومه للمعرفة.فقد انتقد،في إطار تسمية”الماهوية”التصور الأرسطي الذي أكد بأن العلم يمكن السعي إلى تفسير نهائي يعمل على إدخال الماهيات. واضعا نفسه، في موقع ثالث بين الموقف الوسائلي أو الأداتي،وانحيازه لجانب من المفهوم الجاليلي للعالم . بعد أن قام بحذف جوهريته والإبقاء على العناصر التي تؤكد النقد الأداتي .
يستهدف برفضهللماهوية، التصدي لتلك النظريات الجازمة بقدرتها على صياغة نظرية للتفسيرات النهائية:”لايمكننا داخل ماهية العلم (…)أن نعرف أو نقف على الماهية أو الطبيعة الجوهرية للأشياء”(8).فكل نظرية حسب بوبر،عليها أن تتضمن وتحيل منذ البداية على استراتيجيات دحضها. ولاينبغي التطلع نحو، توخي أو ادعاء إقامة نماذج تفسيرية نهائية. قد لا تعطي لذاتها؛إمكانية أن تصير بدورها قابلة للتفسير.
يرسم بوبرلمفهومهعن” الماهوية “مسافات تطول أو تقصر،ارتباطا بالبعد الإبستمولوجي الذي يريد الاشتغال عليه. يقول :” أسلم … إراديا بالماهوية لأن أشياء كثيرة تختفي عنا وبالتالي فإن قسما منها قابلاللاكتشاف” أرفض إيحاء القولة المأثورة لفتجنشتاين: ” اللغز لا يوجد أبدا، ولا أتوخى أبدا انتقاد الذين يبحثون بخصوص فهم ” ماهية العالم ” (9).
كل نظرية ليست إلا فرضية، يؤكد بوبر؛ وبشكل دقيق، قد تكون النظريات مفيدة تقريبا، ثم أيضا على وجه التقريب؛ لايمكنها أن تكون صحيحة أو خاطئة.
مايؤكد قطعه مع التصور الأحادي الكلياني لجدلية الصواب و الخطأ؛ كما ساد الاعتقاد مع النظرية المعرفية للتيارين الأساسيين في تاريخ الفلسفة : العقلانية والتجريبية. إيجاده لموقع ثالث يدافع عن الحقيقة/ التطابق،أي الحقيقة التي تطابق الوقائع. بعد أن وظف أعمال ألفريد تاركسي حول الحقيقة وحساب الأنظمة.
هكذا اشتق بوبرسنة 1960مفهومهحول “الاقتراب من الحقيقة”؛حتى يظهربأنه ليس من باب افتقاد المعنى،إن نزعنا نحو اعتبار نظرية خاطئة” أكثر قربا من الحقيقي” مقارنة مع أخرى. بإمكان قول خاطئ عندما يتيح الفرصة أمام استخلاص نتائج أكثر دقة، أن يتضمن محتوى من الحقيقة أكثر إفادة وغنى من قول يعتبر صحيحا. لكن ذلك لا يعني ضرورة الاكتفاء بالأقوال والنظريات العلمية الخاطئة،فالمسألة ليست بهذا المعنى.
يحدد بوبرتعريفه للنظريات العلمية قائلا: “النظريات شبكات موجهة للقبض على ما نسميه بالعالم “(10). مهمة العلم تفسيرية أساسا، بحيث تموضع وبشكل قصدي : “ضمن المنظور الذي جاء به أمثال : ماكس بلانك و إميل ميرسون،الذين توخوا التركيز على الخاصية التفسيرية حقا للنظرية العلمية،في مقابل الاتجاهات الوضعيةأوالأداتية للإبستمولجيا المعاصرة”(11) .
نتحدث عن تفسير واقعة ما، عندما تُستنبط من قاعدة عامة؛ مع ربطها ببعض شروط الانطلاق التي يسميها بوبرب” الشروط الاولية “. مع ضرورة تحاشي التفسيرات السيئة؛المسماة ب” لهذا الغرض “ad hoc :” والتي ليس لها سوى الظاهرة التي تتوخى تفسيرها،وإلى حد ماالتفسيرات التعميمية من نمط : ” البحر هائج لأن مزاج نبتونNeptune سيئا. الوضع الذي يتأكد خلال كل مرة يكون فيها نيبتون سيئ المزاج، فتحدث إثارة البحر”(12).
تظل التفسيرات منفتحة على إمكانياتها باستمرار، غير مؤمنة بوضع نهائي.
قد نقف على بعض ملامح خطاطة بوبرللتفسير الاستنباطي في :
* تساعد على الفهم النظري للعلم،كما تفسر العلم في أبعاده التطبيقية .
*ننتقل من المقدمات المنطقية إلى الخلاصات.
*تستهدف إيجاد مجموعة من “الشروط الأولية”؛التي تمكن من الوصول إلى أهداف معينة بناء كذلك على بعض القوانين.
* إمكانية توظيف نظريات زائفة لعدم توفر الأفضل؛
* التأكيد على إمكانية أن تدحض ملاحظة واحدة النظريةبأكملها؛
* يمكننا الحكم على قيمة نظرية قبل اختبارها استنادا على غنى محتواها؛
*نحتاج إلى معلومات عن الكون،وليس لحقائق غير مفيدة: “نفضل محاولة تسعى إلى معالجة مسألة غير ذات قيمة بحدس جريء،حتى و لو ظهرت على الفور خاطئة. بجردها لوقائع حقيقية لكنها بلا أهمية”(13).
وماذا عن موقف بوبرمن إشكالية القضايا الميتافيزيقية؟
سعت روني بوفريس إلى تصحيح معلومة تكرست عن بوبر، ثم تحولت مع مرور الوقت خاصة عند غير العارفين بفكر الرجل إلى بداهة. يتعلق الالتباس بتصنيفه ضمن إطار المفكرين الوضعيين وربطه بحلقه فينا.بينما الصواب أن بوبرمفكر عقلاني؛ لم ينتسب أبدا إلى جماعة الحلقة بالرغم من علاقاته بمفكريها وعلمائها.خاصة إذا كنا نقصد بمفهوم الوضعية هنا ، كل مقاربة تفضل العلم وتحديدا العلم الطبيعي من أجل تدقيق نتائجها في تقابل مع أنواع الخطابات الأخرى .
تقول بوفريس:”في حين اتجه اهتمام الوضعيين إلى استبعاد ادعاءات الميتافيزيقا المعرفية،وقيمها الأخرى مهما كانت والتي يقبل بها بعض الفلاسفة باعتبارها نتيجة لا يمكن تجاوزها. هكذا شكل فشل الميتافيزيقا كمعرفة عقلانية،رهان الوضعيين. مقابل ذلك،توخى قسم من مجهود بوبر،رد الاعتبار إلى الميتافيزيقا و رؤيتها المعرفية “(14).
يميز بوبربين القضايا الفلسفية والميتافيزيقية. مع رده الاعتبار للميتافيزيقا ضد وضعيي حلقة فينا وكذا فثجنشتاين الذي نفى وجود القضايا الفلسفية، لكونها مجرد مُرْبكات لسانية، بينما دافع بوبرعن الوجود الحقيقي للقضايا الفلسفية .
دعا الوضعيون إلى معيار التحقق كفاصل بين العلم و اللاعلم.في حين جاء بوبربمبدأ قابلية الدحض مميزا بهذا الصدد بين الحقول المعرفية و النظرية التالية : “1- منطق و رياضيات، حقل ما يمكن البرهنة عليه أي الفكر. غير المعرفة( الحدسية ) كما تتجلى مع 2- المعرفة التجريبية و3- الميتافيزيقا”(15).
تتميز العبارة الميتافيزيقية عن النظرية العلمية، بأنها غير قابلة للاختبار و لايمكن التحقق منها أو دحضها، لهذا السبب يرفضها الوضعيون ، فهي فاقدة للمعنى و الحقيقة و كذا القيمة. على العكس، يؤكد تصور بوبرعلى قابلية العبارة الميتافيزيقية للتدليل والنقد. وقد ألهمت بعض النظريات الميتافيزيقية العلم، بعد أن أصبحت قابلة للاختبار.
تحدث كذلك، عن تبني بعض النظريات مثل الداروينية والفرويدية ل ” مخطط الأبحاث الميتافيزيقية “،حيث بتكملة من النقد قد تصبح خاضعة للاختبار.
هناك مسألة جوهرية كذلك، يتعلق الأمر تحديدا بنقاشه المستفيض لدافيد هيوم أو إعادته تقويم إشكالية هيوم!.
يسمي بوبرقضية الاستقراء؛بقضيةهيوم.لأن الأخير أول من شكك في صحة الاستقراء من الناحية المنطقية:”الاستقراء كانتقال بواسطة عدد معين من الملاحظات الجزئية إلى قاعدة عامة،مع استناده في ذلك على مختلف الحالات وليس مجرد عدد محدود،يعتبر أسطورة.لايقوم العلم التجريبي على الاستقراء،بل التخميناتو التفنيدات”(16).
ولأن بوبر يرفض الاستقراء، فقد وصف النقد الذي جاء به هيوم في كتابه :بحث في الفهم الإنساني للأسس المنطقية للاستقراء؛ بمثابة: “جوهرةلاتقدر بثمن فيما يخص نظرية المعرفة”(17).
ميز هيوم بين علاقات الأفكار، أي ميدان اليقين القائم على كل تأكيد يكون حدسيا أو برهانيا يقينيا، كما يتجلى في الهندسة والجبر وعلم الحساب،ثم علاقات وقائعية:” نؤكد بامتياز فيما يخص الوقائع،أن الشيء الوحيد بالنسبة للتجريبي يتجسد في الشهادة الفعلية للحواس و عند الاقتضاء الصلات اليقينية لذاكرتنا”(18).
و تنهض استدلالات الوقائع حسب هيوم،على علاقة السبب بالنتيجة والتي نصل إلى معرفتها عبر التجربة انطلاقا من العادة أو التعود ثم دور التكرار في تشكيله: “ليست العلية بمبدأ يدير الأشياء، بل تُختزل إلى” مبدأ للطبيعة الإنسانية “،و” الحتمية شيء يوجد في الفكر وليس في الأشياء “. ولا يمكن لمبدأ العلية أن يقوم بناء على عاداتنا الاستقرائية،لأنه هو ذاته ليس إلا تعبيرا لهذا العادات “(19).
لذلك،اعتبر راسل بأن : “فلسفة هيوم سواء كانت صحيحة أو خاطئة، مثلت إفلاسا للقرن الثامن عشر العاقل”(20).لأن إبراز هيوم لدلالة العلية في بعدها السيكولوجي الخالص،قوض بلا شك قيمة معرفتنا،وألغى كل اختلاف أو تمايز بين الفكر العلمي المضبوط و ظواهر الحياة الوجدانية حتى في أشكالها اللاعقلانية .
يتجاوز مشروع بوبرالوضعية العبثية والمنغلقة لنظرية المعرفة عند هيوم لأنه:”رمم العقلانية العلمية بحله قضية العلم التجريبي الأساسية وكذا علاقات التبرير بين نظرية عامة تم سلسلة تعابير الملاحظة”(21).
يفصل بوبربين العلية والاستقراء. لاتحيل العلية بالنسبة إليه كما الأمر مع هيومإلى قوة سيكولوجية بل توجد قياسا لقاعدة عامة،و ينظر إلى السبب كعلاقة استنتاجية، واضعا نصب أعينه الضرورة المنطقية وليست الطبيعية، مسترشدا في هذا الاطار باكتشاف ألفريد تارسكي لعلم الدلالة.
يدخل مفهوم ” القاعدة ” في مقاربته للعلية إضافة إلى مصطلحي: “السبب ” و ” النتيجة.” يؤدي التقاء ” القاعدة ” ب ” الشروط الأولية ” أو السببية إلى استخلاص النتيجة.
يقر بوبرمع هيوم باستحالة تأكيد كونية الظاهرة الملاحظة،حتى عن طريق سلسلة لانهائية من الملاحظات. فلا يمكنني:”الانتقال من:” هناك ن من الإوز الأبيض ” على قدر كبر ن إلى كل” الإوز أبيض””(22).لكن في نفس الآن يرفض الخلاصة الكبيرة ل هيوم التي تختزل الاستقراء إلى ظاهرة سيكولوجية .
تتأسس منهجية بوبرعلى جدلية : المحاولة/الخطأ. تنفي كون صياغة النظريات العامة يرتبط بتراكم الملاحظاتوالعلم،لا يقوم على الاستقراء لكنه يتأتى أساسا من التخمينات و التفنيدات:”لايمكن تأكيد عبارة عامة انطلاقا من عبارة أو عبارات خاصة بل يمكنها أن تدحض بواحدة منها.لاتبرهن مائة ألف إوزة بيضاء على أن كل الإوز أبيض، بحيث يكفي وجود إوزة سوداء حتى تصبح قاعدة “كل الإوز أبيض” باطلة”(23).
يمثل التزييف الأساس الصلب لمعرفتنا.نوظف الملاحظة قصد إبطال الحدوس النظرية، وتزيف الفرضية الموجودة سلفا. لذلك، توفق نظرية بوبر،بين التصورين العقلاني و التجريبي: التجربة تحسم النظرية، لكن إقامة النظرية لا يمكن أن يتم انطلاقا من التجربة.
بهذه التوليفة المنهجية ، يعتقد بوبرأنه حسم قضية الاستقراء. تقول بوفريس :” لقد تحاور بوبرمع هيوم بطريقة تقديرية ونقدية. إنه كانط القرن العشرين “(24) .
أيضا كيف عالج بوبرمسألة بحجم الطرح المعرفي للاحتمية ؟.
تقوم الحتمية على تصور معرفي، يؤمن بمعرفة مطلقة ويقينية بالمستقبل. مسألة أكدتها أبحاث بيير لابلاس (1749-1827)و شيطانه الروحي. فالحالة المستقبلية و كذا الماضية للكون تتضمنها حالته الحاضرة. لكن تطورات العوالم الميكروفيزيائية و الممكنات الجديدة التي جاءت مع الجسيمات الذرية،جعلت التكهن الدقيق مسألة مستحيلة.يقول بوبر:”أدخلت الميكانيكا الكوانطية اللاحتمية الجديدة،التي تفترض بأن الصدفة وحدها تقوم وراء إمكانية الوقائع الأصلية، ولا تقبل الاختزال لوجهة نظرعلِّية”(25).
هكذا،انحاز إلى منطق اللاحتمية وانفتاح العالم المستمر،لأن العلم غير مكتمل.و يتوخى أيضا فحص الإمكانية المنطقية للتنبؤ بالمستقبل،التي تظل مستحيلة: “منذ اللحظة التي نكتشف فيها بأن المتكهن يشكل جزءا من الكون الذي يتوخى التنبؤ به ”(26).مما شكل قطيعة مع الحتمية اليقينية للفيزياء الكلاسيكية، التي كانت تفترض إمكانية التنبؤ بكل واقعة فيزيائية على أساس إخبار أولي دقيق.
يؤكد التصور الجديد لأطروحة بوبر،على موضوعية اللاحتمية، وبأنها لا ترتهن بوجود الملاحِظ أو الذات العارفة. ثم لاحتمية سواء الفيزياء الكلاسيكية أو الكوانطية:”صحيح أن التطورات الفيزيائية التي تتضمنها الملاحظة تقود إلى صعوبات فقط في حالة الميكانيكا الكوانطية و ليس مع الفيزياء الكلاسيكية. غير أن مناهج التكهن التي تطبق في الفيزياء تتضمن حدوث تطورات فيزيائية ليس فقط بالنسبة للملاحظة، لكن كذلك لحساب وصياغة التكهنات. وإذا اخدنا بعين الاعتبار هذه التطورات الفيزيائية الأخرى نكتشف أنه حتى في الفيزياء الكلاسيكية تظل مختلف التكهنات ناقصة “(27).
ينفي بوبرعن نفسه،امتلاكه شيطان لابلاس،وبالتالي يريد التعامل مع مفهوم التكهن كحقل فيزيائي. لذلك،لاحظ مسألتين أساسيتين:
– حينما يسعى المتكهن إلى القيام بمهمته،يغير بالتأكيد سلوك الجسد الذي يريد معرفته.
– والعكس كذلك، يتأثر هو نفسه بتغير هذا السلوك. تفاعل كهذا،يجعل عملية التكهن مستحيلة .
من خلال تقديم بوبرلبعض الدلائل،التي تنفي إمكانية التكهن،قد نخرج ببعض النتائج :
-
صورة المعرفة كجوهر محدود،لا يمكنها ملامسة” الحقيقة الكلية “؛فكل تطور للمعرفة يبقى بمعنى ما تطورا للجهل، فالعلم لا يمكنه الإحاطة بكل شيء: “ليست نظرياتنا بتوصيفات للطبيعة، لكن فقط بعض الملامح التي انتقيناها بشكل طارئ تقريبا”(28).
-
العالم لا حتمي ، بالتالي تستحيل إمكانية التنبؤ الكلي.
-
الحتمية اليقينية والمطلقة، مثلما تتجلىعند بعض الفيزيائيين: “كابوس في كل الأحوال: تحطم بلا شك كل إبداعية و تختزل العالم إلى آلة”(29).
-
إذا تم تحديد مستقبل العلم بدقة، سيصبح من المحظور معرفة هذا المستقبل. لذلك من باب تحصيل الحاصل و الحشو الزائد، التأكيد في كل مرة بأن مستقبل العالم غير محدد ومنفتح على اللانهائي،والغريب أنه إذا: “ارتبطت الحتمية بإمكانية المعرفة – تتأتى اللاحتمية حسب سبينوزا، من الجهل بالأسباب – فإنها الآن مرتبطة بأطروحة حتمية الجهل”(30).
-
لا يرتبط الاحتمال حسب بوبر؛بجهل الموضوع كما نعتقد غالبا،لأن الفرضيات الاحتمالية تمكن من تنبؤات إحصائية. بمعنى آخر:” رؤية جديدة للعالم الفيزيائي. ستكون بحسبه إذا تم تبينها من قبل العلم المعاصر،سلطة كبيرة موحدة واستكشافية.تتمثل الأداة التي تمكن من برنامج كهذا في تأويل عبارات الاحتمال إلى مصطلحات ل” الميولات””(31).