الدمار الذاتي


*نجيب نصير


خاص ( ثقافات )

لم تعد هناك حاجة إلى أدلة تثبت أن الوضع في كيانات العالم العربي هو وضع غير مجتمعي، فالعنف ملأ الفراغات المتروكة أو المؤجلة إلى أجل غير مسمّى، عندما بدأت البنية الهشّة للتجمّعات السكانية بالتشقق، أمام أعين الشهود الصامتين أو المصمتين قسراً، لتنفجر عنفاً تحاقدياً غير ذي منفعة أو مصالح، وهو ما يشير بدقة إلى فاقة بالتحضّر، التي أعلن الجميع وعلى رؤوس الأشهاد، أنّهم ليسوا بحاجة إليه مهما كانت ضرورته، فلديهم من الحجج والذرائع والقوة، بما يكفي لتأجيل هذا الإستحقاق التأسيسي للعيش البشري المعاصر، حيث من البدهي أنّ على أي مجتمع مؤسس، أن يمتلك عوامل عدم فنائه على الأقل، والمتمثل أكثرها بملء تلك الفراغات بالتكنولوجيات الحقوقية المناسبة، التي تجسر الهوة بين التجمّع السكاني والمجتمع بمعناه المعاصر تحديداً، والذي يتميّز بهويّة إنتاجية واضحة ومعلنة ومعايرة حقوقياً، تنفع للعيش البشري المعاصر، إن كان في الداخل المجتمعي أو مع خارجه، ليبدو هذا الدمار الآن كدلالة ونتيجة في آنٍ معاً، عن مدى خطورة هاتيك الفراغات التي تأسست على ثقافة عنيدة، تعتمد في لبّها ونسغها على مفهوم الإنتصار بالغزو، الذي نخر عميقاً في ثقافاتنا، ليبدو واضحاً في خلفية أيّ أداءٍ ثقافي معاصر، حقوقياً كان أم سياسياً أم إقتصادياً، في تلخيص لموضوعة الآخر أيّ آخر، داخلياً كان أم خارجياً، ما هو إلا عدوّ يجب تطبيق مفهوم الغزو عليه، ولا يغربن عن بالنا أن هذا المفهوم يقصد بالغزو على أنه طريقة حياة متكاملة، متكررة ولا تنته.
مفهوم الغزو بمعنى إستخدام العنف في كل الممارسات المعيشية، هو ما شكّل الإنسداد الثقافي الأكبر في الثقافات الناطقة بالعربية، كما أنه العامل الأكبر في فكرة الوحدة الثقافية العربية، حيث أنها لا تمتلك عملياً، إلا ذاك الفخار الناتج عن الإنتصار في هذا الغزو أو ذاك، حتى لو كانت الممارسة من نوع آخر كإنجازات إبن سينا أو ابن رشد وغيرهم، فإنها تقرأ عبر هذا المفهوم كانتصارات على آخر، وإلا فقدت قيمتها الثقافية، تماماً كما فقد الشعر قبل الفتح العربي لأي إعتراف، مع أنه جزء من منجزاتنا الثقافية عبر التاريخ. 
ترى هل الفناء الذاتي على هذه الطريقة الوحشية هو حل؟ أم أنه مجرد نهاية إختيارية لا يمكن الرجوع عنها؟ طالما أن المجتمع بمعناه المعاصر، لم يكن واحداً من خيارات هذه الشعوب، حيث لم يعد خياراً منذ مدة غير وجيزة، لأنه لزوم ما يلزم.
الجواب الأقرب للحقيقة هو أن ساعة الفناء قد أزفت، وربما بدأت منذ منتصف القرن الماضي، حيث الفرص كانت متوفرة لاستحقاق إجباري، لا يختلف عليه إثنان، وتم تطنيشها والتنازل عنها، مقابل ضمان نتائج الغزو بين طرفين من السلطات يتبادلات جولات الغزو، وذلك حصل أثناء كل الصراخ والنداءات التي تمثلت بالمنتجات الثقافية، ومنها الأدبيات السياسية التي تحولت إلى مذكرات تهريجية، فكل الدساتير العربية إن كانت شفوية أو مكتوبة، والتي وضعها ثوريو المنطقة على كافة مشاربهم، كانت مهزوزةً حقوقياً أو منقوصةً أو حتى ظالمة، ومع هذا تعرضت للتكييف والمواربة في الإستخدام، خضوعاً لمتطلبات الإنتصار المتضمن في مفهوم الغزو، الذي تأسست عليه سلوكياتنا بما فيها التعاملات اليومية الحياتية، لتستقر على أداءات عنفية متبادلة، استطاعت أن تحجز لها مكاناً مرموقاً في الثقافة الجمعية المتداولة، صانعةً أنماطاً أخلاقية متعارف عليها، وسالكة على الرغم من كل العنف الذي تتداوله، وكل الحنق الذي لا يلبث أن يتحول إلى حقد وثأر وحشي بطاش، عبر تكييف مضامينها في خدمة مفهوم الغزو، فمن الرشوة، والمحسوبية، وسرقة المال العام، وفساد القضاء، وإرساء مؤسسات غير دستورية، واكتناز القوة خارج إطار احتكار الدولة (إن كانت معها أو ضدها)، حتى ممارساتنا السلوكيّة اليوميّة بما فيها قيادة السيارة برعونة، ما هي إلا تمظهرات لثقافة الغزو العنفية، حيث يقبع التجمع البشري خائفاً على فوهة بركان العنف، كرهينة عنده محاولاً تأجيل انفجاره قدر الإمكان.
ثقافة الغزو، تشترط إالغاء ثقافة الإرادة الجمعية (والمجتمعية افتراضاً)، هذه الثقافة لا تأت من فراغ بل من الإمتداد الطبيعي للفعل النهضوي الإرتقائي، التي يفترض اكتشاف وتشخيص الإنسدادات الثقافية التي تحول دون تأسيس المجتمع، والدعوة إلى معالجتها، فالتحول إلى مجتمع هو عملية مستمرة، (وهذا ما يفترض وجود علماء اجتماع مثلاً!) فالظواهر الاجتماعية ناتجة دوماً عن ثقافة ما، تجب إعادة النظر فيها دائماً، وإصلاحها أو إعادة تشكيلها و(ليس مجرد تجديد خطابها)، وهذا ما يحتاج إلى إرادة جمعية تجتمع على المصلحة، ما لا تقبل به ذهنية الغزو المتأصلة في الأداء، فالمصلحة تفترض المساواة حقوقاً وواجبات، وهذا مما لا يستوعبه العقل الغزووي، وهذا تحديداً ما يمنع تأسيس المجتمع، ما يحسر عن العنف قناعه الواهي، لتمارس الناس فضيلة العنف الفالت، في وفاء عزّ نظيره للمفهوم المؤسس.
لقد أثبت الواقع الملموس أن التشققات الثقافية الظاهرة، ليست تشققات سطحية، بل إنّها إنهدامات عميقة الغور، تعود إلى ثقافة تعانفية بلا أفق، سوى الحاضر وما يمليه من أولويات، بينما صار زمن المجتمعات هو المستقبل واستراتيجياته، وقد أظهرت هذه الإنهدامات سابقاً، الكثير من الدلالات والأمراض المميتة، ولكن الذي حصل هو تجاوز هذه الدلالات أو التعمية عنها، أو التخفيف من شناعة تأثيرها، وربما الدعاية لها وتشجيعها، أو حتى تشريعها بحجج واهية وغير مجتمعية، ولم تتم معالجتها أو الحدّ من تأثيراتها، عبر التكنولوجيات المجتمعية المجربة، وثقافتها ذات الأهداف الواضحة والمعلنة، ما أدى إلى ما نحن عليه من واقع.
الفارق بين البلاد والوطن، هو فارق في التحضّر، فالهمج لديهم بلاد، والمتحضرون لديهم أوطان، الأول موجود بالإسالة الطبيعية للثقافة، والثاني موجود بالإرادة، والتعاقد الناتجين عن ثقافة مشغولة، واحد قابل للإزالة والفناء بحكم الطبيعة، والثاني لا يمكن إزالته إلا بالإرادة، أو إذا تراجع إلى مجرد بلاد، حيث تظهر حاجة الوجود الإجتماعي كحاجة إنسانية راقية، قوة قادرة على تنظيم الإمكانيات والموارد واستثمارها بأحسن صورة ممكنة، وهنا يظهر المفهوم الغزووي كثقافة تعاني من إنسداد مزمن، تحاول منع الإقتراب من ثقافة الوطن/المجتمع، حتى لو استخدمت هذه الثقافة أحدث التكنولوجيات المتوفرة (غزوة منهاتن مثالاً)، لقد تحولت أفغانستان والصومال إلى مجرد بلاد، وكذلك نرى ليبيا أمام أعيننا أثناء تحولها، وسنرى تونس ومصر وغيرها على هذا الطريق، على الرغم من كل ملامح الحداثة التي تعلنها.
للتحضّر مؤشرات وجذور ثقافية، وكذلك لعدم التحضر مؤشرات وجذور ثقافية، تتجمّع كلّها في أعاصير التغيير السلبي والإيجابي على حد سواء، فتحدّي التحضّر واجه الكثير من البلدان، منها ما تجاوزه إيجابياً مثل سينغافورة وكوريا الجنوبية، ومنهم من دفع ثمناً باهظاً كرواندا، ومنهم ينتظر كنيجيريا، ولم يعد “للبلدان” الناطقة بالعربية ترف الإنتقاء، فالمصير واضح وضوح الشمس، والطيور الجارحة تحلّق بهدوء فوق الجثث المدماة، في انتظار الأشهر الحرم.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *