أولغا توكارتشوك هل هي أعظم كاتبة مجهولة

(ثقافات)

أولغا توكارتشوك هل هي أعظم كاتبة مجهولة

*تحسين الخطيب

 

على الرغم من وجود ترجمة إنكليزية لروايتين سابقتين لها، “منزل النهار، منزل الليل” (2002)؛ “أزمنة بدائيّة وأوقات أُخَر” (2010)، لم تحظ أولغا توكارتشوك، الشاعرة والروائيّة التي طار صيتها في موطنها بولندا، والتي سبق لها أن ترشحت لجائزة نوبل للأدب في العام 2012، باهتمام القارئ الإنكليزي إلّا بعد أن أدرجت روايتها السادسة “رحلات” ضمن القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر العالمية لهذا العام.

وها هي بعد نحو أكثر من شهر على إعلان الترشيحات النهائيّة تفوز بالجائزة المرموقة عن جدارة واستحقاق؛ فشعريّة السرد الشذريّ الطاغية في هذا العمل “غير التقليديّ” كفيلة بتبديد أيّ ريبة أو شكّ حول هاته المسألة.

ولا أجدر من الإشارة، في هذا المقام، إلى أن مجلة “ذا بوك سيلر” العريقة، المتخصصة بكل ما يتصل بصنعة الكتاب منذ العام 1858 قد خاطبت الجمهور البريطانيّ حين كانت روايتها، هذه، على وشك أن تصدر بالإنكليزيّة سنة 2017، قائلة “قد تكون ‘توكارتشوك’ أعظم كاتبة حيّة لم نسمع بها من قبل”؛ فيما قالت الروائيّة ليزا أبيغنانيسي، رئيسة لجنة تحكيم الجائزة لهذا العام، إنّ توكارتشوك “تحلّق بنا عبر مجرّة من الرحيلات والحضورات، الحكايا والاستطرادات، تستبطن طيلة الوقت مسائل لصيقة بالمأزق الإنسانيّ المعاصر”.

اختيرت الرواية من بين ستة أعمال ضمتها القائمة القصيرة، على رأسها رواية “فرانكشتاين في بغداد” للعراقي أحمد سعدواي. ولم يكن الاختيار سهلا، بحسب أبيغنانيسي، خاصّة وأنّ أسماء من العيار الثقيل كانت حاضرة بقوّة كالكورية الشمالية هان كانغ والهنغاريّ لاسلو كراسناهوركاي اللذان سبق لهما الفوز بالجائزة من قبل، والإسباني أنطونيو مونيوث مولينا، الحائز على جائزة أمير أستورياس في الأدب للعام 2013.

وبالرغم من أنّ عنوان الرواية، في النسخة الإنكليزيّة، ليس ترجمة للعنوان الأصلي، وعلى الرغم من أنّ مترجمي العمل إلى اللغات الأخرى كالهنغارية والروسية على سبيل المثال، قد حافظوا على العنوان الأصليّ كما هو، دون تغيير، إلّا أنّ العنوان الإنكليزيّ، الذي اختارته المترجمة الأميركية جينڤر كروفت، لم يبتعد عن “جوهر” ما يكتنفه المعنى الثاوي في الأصل. ونشرت الرواية باللغة البولنديّة سنة 2007 تحت عنوان“Bieguni”؛ وهي لفظة تطلق على طائفة سلاڤيّة غامضة، دائمة الترحال، تعتاش على صدقات الآخرين، وبذلك يكون المعنى أقرب، في العربية، إلى “الدراويش” السّائحين في أرض الله. فازت الرواية، في السنة اللاحقة، بجائزة “نايكي الأدبيّة”، التي تُعدّ بمثابة “البوكر” البولنديّة.

تنهمك الرواية عبر شذراتها المترابطة في “المشاغل الوجوديّة.. للجسد الفاني”، بحسب الشاعرة والروائية البلغاريّة كاپكا كاسابوڤا في مراجعتها المنشورة بصحيفة الغارديان، في منتصف العام 2017. “إنّها رواية حدوس بقدر ما هي رواية أفكار، تنافر أصوات وحكايات تبدو للناظر بأنّها غير مترابطة عبر الزمان والمكان، ولكنها تتعرّج بين البليغ والظريف، والمبهم والعاديّ، فتظلّ مدوّنتها الحقّة ذات غموض مجيد”.

وبهذا الفوز تكون توكارتشوك أول كاتبة بولنديّة تحصد هذه الجائزة العريقة التي تمنح، منذ تأسيسها في  2004، لأفضل كتاب قَصصيّ ينشر مترجمًا بالإنكليزيّة.

ستتقاسم توكارتشوك قيمة الجائزة، البالغة خمسون ألف جنية إسترليني مع مترجمتها جينڤر كروفت التي درست الترجمة الأدبية في جامعة أيوا الأميركية، وتترجم عن الإسبانية والأوكرانيّة، إلى جانب البولنديّة، وترأس هيئة تحرير المجلة الأدبيّة “بوينس آيرس ريڤيو”.

وتاليا ترجمة عن النسخة الإنكليزية لشذرات مختارة من هذه الرواية، الجديرة بالقراءة والمديح – شذرات قائمة بذاتها، كوحدة سرد مستقلّة لا تبتعد كثيرا عن “مناخات” قصيدة النثر؛ ولكنها لا تنفصل في جوهر وجودها عن بقيّة شذرات الكتاب، فمثّة رابط يجمع بينها لتنتظم في آخر المطاف في نسيج السرد الجامع للرواية برمّتها.

*ها أنا ذي

بضع سنينَ عُمريَ الآن. أجلسُ على حافّة النافذة، محاطة بلُعبٍ متناثرة وأبراج مقلوبة ودمىً بعيون متورّمة. ها إنّها العتمة في البيت، والهواء يبرد في الغرف، على مهله، ويعتم. لا أحد إلّايَ هنا؛ لقد رحلوا، لقد ذهبوا، ولكنّ المرء يستطيع سماع أصواتهم تتلاشى، وذلكَ المشي الوئيد، أصداءَ وقع أقدامهم، وبعض ضحك قصيّ.

فارغ، خارج النافذة، الرّيف. والعتمة تُرخي سدولها، بهدوء، من السماء، وتهبط فوق كل شيء كنَدىً أسود. أسوأ شيء هو السّكون، الواضح والكثيف – غسق بارد والضوء الواهن لمصابيح بخار الصوديوم قد تلطّخ بالعتمة، للتوّ، على بُعْد بضع أقدام من حيثُ أتى.

لا شيء يحدث – زحف العتمة يتلكّأ عند الباب المفضي إلى البيت، وصخب الخفوت يسقط صامتًا، ويغلف كل شيء، بغشاء غليظ، كالذي يتكوّن حين يبرد الحليب الساخن. معالم البنايات المنعكسة على خلفية السماء، تمتد بلا نهاية، فاقدة زواياها الحادة وأركانها وحوافها، رويدًا رويدًا. ثم يأخذ الضوء الخافت الهواء معه – فلا شيء يبقى للتنفس. ها إنها العتمة تتسرب إلى جلدي الآن.

والأصوات قد تموّجت في داخل أنفسها، واستردّت عيونَها الحلزونَ؛ لقد غادرت أوركسترا العالَم، وتلاشت في الحديقة العامة. ذلك المساء حدُّ العالم، ولقد عثرت عليه، صدفةً، في أثناء لهوي، وليس بحثًا عن شيء. لقد اكتشفته لأنّني تُركت بلا مراقبة لوقت قصير.

لقد وقعتُ في شرَك الآن، ولا أستطيع الخروج. عمري بضع سنين، وأجلس على حافة النافذة، ناظرة إلى الباحة الباردة. لقد أطفأت أضواء مطبخ المدرسة؛ وغادر الجميع. كلّ الأبواب موصدة، والكوى مغطّاة، والستائر مسدلة. أرغب في المغادرة، ولكن لا مكان أذهب إليه. فلا شيء إلّا وجوديَ واضح المعالم الآن، هيئة ترتعش وتموج، ولكنّها تُوجِع حين تفعل ذلك. ولكنني أعرف على حين غفلة: لا شيء يستطيع أحد أن يفعله الآن، ها أنا ذي.

*مبارك الآتي

أبريل على الطريق السريع، شرائط الشمس الحمراء عبر الإسفلت، والعالَم مُنمنَم بغشاوة كالزّجاج من المطر الأخير – كعكة عيد الفصح. أقود سيّارتي يومَ جمعةِ الآلام، عند الغسق، من هولندا إلى بلجيكا- لا أعرف في أيّ بلد أنا الآن، فالحدود تلاشت؛ لقد اندثرت.

إنهم يعزفون موسيقى قدّاس الموتى في المذياع. وعند “ترنيمة نشيد زكريا”، تنير الأضواء على طول الطريق السريع، كما لو أنّها تحصّن البركة التي أنالها من المذياع، رغمًا عنّي. بيد أنّ المسألة، في الحقيقة، لم تعن أيّ شيء أكثر من أنني قد نجحت في الوصول إلى بلجيكا، حيث جميع الطرق السريعة -لحسن حظّ المسافرين!- مضاءة على نحو جيّد.

*شقة مهجورة

لا تفهم الشقّة ماذا حدث. تظنّ الشقّة بأنّ مالكها قد مات. فمنذ أن صُفقَ الباب، وصَرَّ المفتاحُ في الترباس، وجميع الأصوات قد كُتمَتْ، وغابت ظلالها وحدودها، كما في البقع الباهتة. الفراغ يتكثّف، جديدا، لا يعكّر صفوه تيّار هواء، ولا تكدّره الستائر، وفي هذا السكون، تبدأ أشكال أوليّة بالتبلور، أشكال تدلّت لبرهة بين الأرض وسقف المدخل. لا أشياء جديدة تخرج إلى الوجود الآن بالطبع – أنّى ذلك؟

فليست هذه إلّا محاكاة لأشكال مألوفة، تنخلط في كتل فوّارة ومنفّطة، تحافظ على معالمها لثانية فحسب. هذي حوادث فرديّة، إيماءات معزولة، كأثر قدم على سجّادة ناعمة وُجدَتْ في البقعة ذاتها، دائمًا وإلى الأبد، ثم ها إنها تتلاشى. أو يد على طاولة، تكابدُ حركات الكتابة، رغمَ أنّ الحركات صعبة وملتبسة، فهي تحدث بدون قلم، وبدون ورقة، وبدون كتابة، وبدون بقيّة الجسد.

*تعليمات

حلمتُ بأنني كنت أتصفّح مجلة أميركية تضمّ صورَ بركٍ ومسابح. لقد رأيت كلّ شيء، بالتفصيل. وصفت الأحرف، ألف وباء وتاء، كلّ الأجزاء المكوّنة للخطط والمخططات التفصيليّة، بحذافيرها. شرعت، متلهّفة، في قراءة مقالة بعنوان “كيف تشيّد أقيانوسًا: التعليمات”.

(تر: ت. خ)

__________
*المصدر: العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *