يوميات عابر بين هجْرَتَيْن

*أدونيس

ــ 1 ــ

تتّجهُ الهجرةُ، عنده، إلى أن تُصبحَ شِعراً.

يتّجِهُ الشّعرُ عنده، هو الشّاعر، من الصّورة ــ بالكلمة والعبارة، إلى الصّورة ــ تخطيطاً وتشكيلاً.

يعترف، هو النّاقدُ المُؤرِّخ، أنّه لا يعرف كيف يصفُ هذا الاتِّجاهَ أو تلك الهجرةَ، ولا كيف يفسِّرُ أيّاً منهما.

ــ 2 ــ

للأرض، كما يقول هذا العابر، أثداءُ لا تُحْصى. وليس للبحر الذي لا يهدأ حتّى حين يرضعها، غير شفتين اثنتين.

ما أوسعَ صدرَكِ، وما أمَرَّ صبرَكِ، أيّتها السيّدةُ المُرضِعةُ العاشقة، أيّتها الأرضُ ــ الأمّ.

ــ 3 ــ

تاريخٌ ــ غربٌ شرْقٌ، أمواجٌ من تماسيحَ ذائبةٍ، تسيلُ في ناووسٍ عتيقٍ للفتْكِ والقتْل، ناووسٌ تحفره المُحيطاتُ وشطآنها.

وها هو الزّمنُ لا يزالُ حارساً أميناً، يلهو بِرَمْيِ نرْدِه بين أشلاء المَوتى.

ــ 4 ــ

تسْألُ عنهم؟

إنّهم يَقِظون دائماً، يُصْغون لهدير الفؤوسِ تتدَلّى على أكتاف المُحاربين.

ــ كأنّهم يريدون، إذاً، أن يُواصِلوا حياتَهم راقصين على إيقاعات هذه الموسيقى؟

ــ 5 ــ

ننسى غالباً أنّ النّهارَ في هيكَلِ الوقت العربيّ جثَّةُ ليلٍ تنامُ على جثّةِ ليلٍ ينامُ على جثّةٍ هي نفسُها المكان.

تريدون برهاناً؟ ليقرَأْ إذاً كلٌّ منكم، بدقّةٍ، كتابَ حياته.

ــ 6 ــ

قال الحبُّ: أستطيع أنا أيضاً أن أقطعَ رأسَ الكراهية.

لكن، ألَن أخسرَ اسْمِيَ نفسَه، آنذاك؟

ــ 7 ــ

سيقول التاريخ يوماً: «كان أهلُ هَيِّ بْنِ بَيّ، بين قِلَّةٍ من أهل الثّقافاتِ البائدة «يفهمون» دون أن يقرَأوا. وقد سُخِّرَ لهم، مسَبَّقاً، الرّوبوت (الإنسان الآليّ) لكي يقول لهم كيف يكونون السبّاقين في اقتناء الثّياب الخاصّة بهذا الإنسان، وبمشتقّاتها الصّناعيّة، والثّقافيّة، والسياسيّة، وكيف يتفوّقون في استخدام ذلك وفي استهلاكه، بين شعوب العالم كلِّها. وكيف يُسَخَّرُ الرّوبوت نفسه لخدمتهم».

ــ 8 ــ

يجلس في مكانٍ يسمّيه «ذروة المدنيّة».

ولا يتوقّف لسانُه عن الرّقص في حلْبة الكلام على الحريّة، فيما لا تتوقّف قدماه عن الرّقص تحت راية العبوديّة.

ــ 9 ــ

هوَذا تعريفٌ حديثٌ يدور حول «الحروب الحديثة وأصحابها»، يقدِّمُه مؤَرِّخٌ حديثٌ صديقٌ، أوجِزُه لقرّاء هذه الزّاوية:

«يحاربون بجيوشٍ ليست جيوشَهم، بأسلحةٍ لم يصنعوها وإنّما صُنِعَت لهم، لأهدافٍ ليسوا هم الذين يرسمونها، في إطار خططٍ وإستراتيجيّاتٍ تتخطّاهم، على أرضٍ يمكن أن يُطرَحَ حولها هذا السّؤال: هل هي أرضُهم حقّاً؟».

ــ 10 ــ

يعودُ صديقُنا الشّاعِرُ بين شرودٍ تاريخيّ وآخر حربيّ، إلى الحديث عن الشعر. قال عنه مؤخَّراً:

«كلُّ شعرٍ عظيمٍ جزءٌ لا يتجزّأ من أوركسترا ثقافيّة عظيمة، ومتجدِّدة، دائماً. وهو، إذاً، يستدعي انقلاباً معرفيّاً متواصِلاً في الثقافة التي ينتمي إليها ــ انقلاباً جذريّاً وشاملاً.

اللحظة الحضاريّة الرّاهنة تقتضي، تبعاً لذلك، ما يلي:

1 – كتابة التّاريخ الفنّيّ في العالم، انطلاقاً من العلاقات الحميمة بين الجسد والجسد.

2 – كتابة التّاريخ الاجتماعيّ انطلاقاً من العلاقات بين الحلال والحرام، المكبوت والمُعلَن، المقدَّس والمُدَنَّس، الممنوع والمُباح.

3 – كتابة «الوحدة» بين الذّات والآخر، انطلاقاً من العلاقة بين الذّات ــ الأَمَة ــ الجارية ــ العبدة من جهة، والذّات ــ العبد ــ المَوْلى ـ الخادم من جهة ثانية.

4 – كتابة تاريخ الثّقافة والتقدُّم، استناداً إلى الصّراع داخل الحياة نفسِها بين ثقافة الحرّيّة وثقافة العبوديّة.

5 – كتابة تاريخ الفتوحات الكونيّة انطلاقاً من العلاقة بين «الدّم» و«الذّهَب».

6 – كتابة تاريخ سياسيٍّ ــ دينيّ للحقيقة وللواقع.

ويختم الشّاعر حديثه قائلاً:

«من الضّروريّ قبل البدء بأيّة كتابة، أن يعرِّج هؤلاء المؤرِّخون على «الأطلال». أن ينظروا كيف يتمّ الهربُ منها، والخوف من ذكرها.

وكيف يتمّ البحث عن كلمة تحلّ محلّها، كلمة لا تزالُ في «المّخْبأ»!

ــ 11 ــ

ينشأ محاربون جددٌ بقيادة البلدان التي تُهَيْمِن عليها التقنية.

محاربون يلبسون حروفَ أبجديّاتهم الثّقافيّة، ويتنقّلون بين صفحات الكتب التي يقرأونها خاشعين مؤمنين، على أحصنةٍ خياليّة هي نفسها نوعٌ من الأسلحة، لا يُقهَر ولا يُغلَب.

ــ 12 ــ

تَصادِياً مع هذا «النّشوء» و «ارتقاءً معه، يتكوّن شيئاً فشيئاً «مَجمَعٌ» علميٌّ جديد، على مستوى الكون، لا يدخله إلاّ أولئك الذين تطهّروا من تقاليد الأسلحة القديمة بمختلف أشكالها، والذين يعرفون كيف يبتكرون الأسلحة الحديثة الشابّة وكيف يستخدمونها. ويُقال إنّ الاسم الذي يُطلَق عليه :هو المَجْمَع التّقنيّ في فنّ اْلإبادة بالطّرُق الذّرّيّة».

يبشِّر هذا «المَجْمَع» بثقافة خاصّةٍ لبلدان البحر المتوسِّط في ضفافه العربيّة، ترتبط بعصور ما قبل «عصر الأنوار» الأوروبّيّ، اعتزازاً بها وتوكيداً على أنّ تلك العصور كانت بفضل العرب كونيّةً أو بلغة العصر الحاضر «عَوْلَميّة».

ــ 13 ــ

لم يقدرْ صديقي الشّاعر أن ينام أمس الجمعة إلاّ عندما أخذ يتخيّل نفسَه طفلاً يعلِّمه سريرُه كيف يمتطي حصانَ الهواء.

ــ 14 ــ

أين يدُك أيُّها العربيّ ــ تمدّها لكي تُصافحَ الزّمَنَ الذي يكاد أن يُديرَ ظهره لك؟

وماذا يقول الدّمُ الفلسطينيُّ الذي يسيل فوق تراب أرضِه ــ الأمّ، تطوِّقُه ثُكنةٌ عسكريّةٌ غازية اسمها السّماءُ الأميركيّة؟

بلى، تولَد من جديدٍ خطواتٌ كثيرةٌ على هذه الأرض، لا عتبةَ لها.

وما أكثرَ المدُنَ العربيّةَ التي تكادُ، اليومَ، أن تنوءَ حتّى بحَمْلِ أسمائها.

ــ 15 ــ

قال العابِرُ، خاتِماً رسالتَه إلى صديقه :هذا بيانٌ لي ولمن يريد، قلتُه وأكرِّره:

«1 – لا وَسَطِيّة، ولا اعتدال، بل الحقّ.

2 – لا تسامُح، بل المساواة.

3 – لا أكثريّة ولا أقلّيّة، بل المواطنيّة.

4 – لا «تَعايُشٌ»، بل العيشُ الواحد المُشتَرَك.

5 ــ لا الواحديّة، بل التعدّدية.

ــ 16 ــ

يقظة الإنسان رمزٌ ليقظة الوجود في أعلى صورها.

لكن، انظروا كيف تنشأ عندنا ثقافةٌ لإبادة ما يسمّيه أصحابُها:

«خطرَ اليقظة».

ــ 17 ــ

«كلّا، لا أريد أن تخطو النّجوم على كتفيّ!»

يقول العابر.

ــ 18 ــ

ليس في الأباريق التي حملَتْها جَعبَةُ الرّيح، هذا الصّباح، غير بُخار الدّمع.

ألهذا، لم تبْكِ الشّمس معك، أيُّها الفجر؟

ــ 19 ــ

تكادُ الحياةُ في عَصْرِنا أن تتشرَّدَ هي نفسها، بحثاً عن مأوى.

ــ 20 ــ

«تحويل الإنسان نفسه إلى حجابٍ على نفسه»: ذلك هو «التّمَدْيُن» الذي يمارسه الغزْوُ الثّقافيُّ ــ العسكريُّ على العالم.

ــ 21 ــ

نعم، إنّه الزّمَنُ «الجديد»، يقول العابر.

لكن، انظروا إليه كيف يُصِرُّ على السّير بقدَمَين من الأبديّة.

ــ 22 ــ

– مَن ذلك الصيّاد الذي ستقتله فريستُه نفسُها؟

– «سؤالٌ لم يَحن بعد الجوابُ عنه»،

يقولُ العابر.

_________
*المصدر: الحياة اللندنية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *