خاص- ثقافات
*بشرى بن فاطمة
تلازم تاريخ الفن المفاهيمي مع فن الصورة الفوتوغرافية بمراحلها الحداثية من حيث التركيب البصري والابتكار المفهومي للرؤى التشكيلية التي تبعد حركة الإنجاز عن التشيؤ وبالتالي تفتح منافذ الفهم والتصور على ماورائيات دلالية في عمق المستوى الادراكي للصورة.
وذلك العمق في التصور عكس مراحل النضج في تجربة الفنان التشكيلي والمصور الأمريكي ويل كلوغلي الذي اختزل تجربته في الألوان والاشكال والملامح التي بدأت من سنة 1938 أول الادراك إلى سنة 2018 النضج المكتمل.
بدأ ويل كلوغلي مساره الفني منذ انبهاره الأول بحضارة الشرق وخصوصا الهندسة والمعمار للحضارة المصرية القديمة التي حفزته على دراسة الهندسة، وبالتالي خلقت له توازنات مرئية بينه وبين الفضاء والمساحة والكتل والفراغات وجمالية القيم التي جعلته يتحكم في كل ذلك.
ومنذ تلك اللحظة فتحت له منافذ التعبير الفني والتشكيل والتوغل في غرائبية الأبعاد التي تخزنها الصور والخامات وتوظيفها للتحكم فيها.
يقول كلوغلي “لقد فتحت مواهبي على الرسم بالكلمة أولا، بالإحساس ثم بالتعبير الفني ومنها انطلقت تجربتي ومساراتي الفنية التي تنوعت في خلق الخيال وترويضه وتطويعه مع الصورة حتى يتناغم مع الفكرة ويتوازن مع أبعادها في التقاط كل الخيال الموجه علميا وعقليا بمرونة تتحكم في المساحات والزوايا وتلك مراحل نضجت بالمعرفة والتجريب، في رحلة الرسم الأولى بدأتُ في تجسيد المؤثرات التي لامست المحيط الطبيعي كأن أرسم بخارا متصاعدا من قاطرة لكن ما لبثت كل تلك السذاجة أن تحولت إلى نضج يحمل في الفن مفاهيمه كصورة مكتملة تتحمل فوضى البحث والسؤال وتلك دلالة الفن وتوجيه الموهبة”.
في الخمسينات توغّل كلوغلي في تجربته مع الصورة في ثنايا التصورات التي تحكمت بالسطح بالمشاهد الطبيعية لتقتحم العمق وتتمازج مع التطور التقني والتحولات التي دفعت المتلقي نحو إدراك أهمية الصورة كأداة تعبير فنية لها مستوياتها.
فالاسكتش الواقعي الذي كان ينقله إلى الملامح العميقة في اللوحة تحوّل به إلى الصورة ليكثف الوعي فيها نحو تجليات الفكرة ومداعباتها المضمخة بالإحساس الدفيء الصاخب والمتعالي إلى مشارف التعبير تجريدا.
اعتماده على التصوير المفاهيمي تشكيليا بفوتوغرافيا تحاور الفلسفة والخيال إنسانيا للوصول إلى تكوين لقطات وحالات تجسد الفكرة التي تكتب التفاصيل وتوجهها نحو ألوانها وأضوائها وتفاعلاتها الحسية التي من الصعب أن تفسر بعبثية لأنها لقطات موظفة في بناء فوضى الفكرة والمفهوم المتحرر من قيود الشكل.
فهو يطرح تجربته مع الرسم والفوتوغرافيا بكثير من العمق حيث يعتبر من خلالها أن هناك الكثير لقوله إبداعا وابتكارا، حيث يوظف التعبيرات الروحانية في التحول من الصورة الواقعية إلى الرسم ليس كنقل عادي من فوتوغرافيا الى اسكاتش تصويري للبورتريه ولكنه يقتحم الإحساس والحالة والنفسية ويركز على أبعادها فيحوّلها إلى عمق يتجاوز النقل نحو التشريح ومنها تحوّل إلى تجربة التعبير بالصورة نفسها والعمل على البحث عن مفاهيمها الخفية التعبيرية التي تخضع لفكرة صامتة تحتاج الاستنطاق.
من خلال المزيج والدمج بين فكرة الصورة الفوتوغرافية والرسم اعتمد كلوغلي على الضوء والحبر في تركيب التفاعلات بين الأبعاد من خلال الأبيض والأسود خلق ما عبّر عنه بالفوضى الحسية تلك التي تعمق الرؤى والانفعالات التي تتدرج عبر الاحاسيس نحو الألوان والخطوط لملأ المساحات والفراغات.
ذاك المزج العميق بين فكرة الصورة والرسم سكن مخيلة الفنان ومنه تعمّد أن يروض المفاهيم خاصة عندما قادته تجربة تصوير الأفلام الطبية إلى اكتشافات إنسانية للجسم والتشريح فخلص إلى فكرة الموت والتشويه وفكرة تجاوز الشكل، حيث أخضع أعماله لفلسفة الوجود والصراع والبقاء والفناء ومنها رتب تلك الفوضى على إيقاع موحّد اعتمد فيه الجسد كعنصر خاضع للتحولات الضوئية واللونية والحركية والشكلية ومنه تجاوز مورفلوجيات الطبيعة إلى ماورائياتها العبثية ليطوّعها فكرة تراوغ الموت.
ساعدته التقنية الفنية من كاميرا وآلات تصوير وأسلوب المزج والكولاج والتجميع التركيبي على دمج الصور معا أو إخضاع الصورة نفسها إلى مبدأ اللوحة والألوان ما يعتبر تطويرا لتجربته ولفنه برؤاه المعاصرة بالدمج الداخلي لعنصر الصورة والرسم.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections