عيوننا الأخرى : هل هي نهاية شارع المتنبي؟


محمد الغزي *

على شارع المتنبّي الواقع في قلب بغداد يتردّد مثقفو العراق ومبدعوه ليتبادلوا الآراء، أو ليقتنوا الكتب ، أو ليجلسوا في مقاهيه يحتسون الشاي البغداديّ …أي إنّ هذا الشارع لم يكن مجرّد سوق لبيع الكتب.. بل كان.. ناديا كبيرا..فضاء ثقافيّا مفتوحا على شوارع بغداد وحواريها…وفوق ذلك هو رمز
العراق المثقّف وبداد المبدعة…كلّ الضيوف الذين يزورون بغداد لا بدّ أن يرتادوا هذا المكان إمّا بوصفه أحد الأماكن البغداديّة العريقة التي مازالت إلى اليوم صامدة رغم عوادي الزمان ، وإمّا بوصفه متحفا كبيرا للمخطوطات العربيّة القديمة ّ،وإمّا بوصفه الموقع الذي يحتضن تمثال المتنبّي المطلّ ‘ في آخر الشارع على نهر دجلة. وهذا الشارع الذي يقع في منطقة يطلق عليها اسم القشلة،يعود إلى أواخر العصر العباسي. وكان يعرف أولا باسم «درب زاخا» وقد اشتهر منذ ذلك العصر بازدهار مكتباته وبعراقة مؤسساته الثقافية. وقد أطلق عليه اسم المتنبي عام 1932 في عهد الملك فيصل الأول تيمنا بشاعر الحكمة والشجاعة أبي الطيب المتنبي.

في شارع المتنبي جالست عددا من شعراء العراق (خزعل الماجدي وفاروق يوسف وزاهر الجيزاني…). ومن مكتباته اقتنيت دواوين أبي تمّام والبحتري والرصافي..وفي بعض مقاهيه حاورت الشاعر الكبير يوسف الصائغ قبل أن يتولّى مسؤوليات رفيعة في وزارة الثقافة العراقيّة وكنت في ذلك الوقت مفتونا برائعته « انتظريني عند تخوم البحر» الذي استدعى فيها نشيد الأنشاد..وقد دار أكثر الحوار حول هذه القصيدة المطوّلة..التي جعلت من ترافد النصوص أسلوبا في الكتابة جديدا.
بعد الاحتلال الأمريكي .ظنّ الجميع أنّ هذا الشارع يمثّل جزيرة هادئة معزولة عن بقيّة بغداد التي كانت تشهد أعمال عنف كثيرة ..فتجارته ظلت نافقة ومرتادوه ظلّوا في تزايد مستمرّ لكن سرعان ما خاب هذا الظن إذ تعرض هذا الشارع إلى هجوم بسيارة مفخخة عام 2007 قتل فيه ثلاثون شخصا وأصيب أكثر من 65 آخرين بجروح. ويقال إنّ سحب دخان الحرائق قد بقيت لأكثر من يومين تغطي سماء الشارع بعد أن تحولت المكتبات إلى ركام وأنقاض.

لكنّ الشارع انبثق من رماده من جديد ومن جديد عادت الكتب تملأ ارصفته، ومكتباته، ومسطباته، وعادت الحياة إليه بعد طول غياب…واعتقد الجميع أنّ محنة شارع المتنبّي قد انتهت وأنّه استرجع عافيته..

لكن فوجئنا هذه الأيام بخبر يقول إنّ جرافات يحرسها جنود بأسلحتهم اقتحمت في وقت متأخّر من ليلة 17 سبتمبر الجاري شارع المتنبّي وحطمت الأكشاك والمناضد الخشبية التي يستعملها الكتبيون في عرض كتبهم وبيعها ضمن حملة أرادتها أمانة بغداد (بلديّة العاصمة العراقية) «لإزالة التجاوزات» التي شوهت جمالية هذا الشارع العريق وإجبار باعة الكتب على ممارسة نشاطهم يوم الجمعة من كل أسبوع فقط… تماما مثل بقيّة الأسواق البغداديّة..

..لكنّ المثقفين سخروا من هذه الادّعاءات وقالوا لماذا أغضت الأمانة الطرف عن شارع السعدون والشورجة والكرادة وهي من أكثر الشوارع فوضى في بغداد ولم تسع إلى إزالة التجاوزات فيها.مضيفين أنّ الهدف الحقيقي من هذه الحملة العنيفة هو إزالة شارع ظل يلمّ شمل المثقفين والمعارضين والغاضبين. وقد بدأت هذه الحملة تؤتي أكلها إذ انفضّ عنه عدد كبير من الأدباء بعد أن شهد هذا الشارع وجودا أمنيّا مكثّفا ومستمرّا .

يقول الكاتب أحمد جبار غرب في نصّ هو أقرب إلى الرثائيّة الطويلة :كلّ شئ يجري نحو تضييق الخناق..لكننا لن نسكت عن الإيغال في هدم بيت الثقافة العراقيّ…وقالت مثقفة بغدادية لوكالة الشرق الأوسط : جريمة أهل الشارع أنّهم يبيعون فكرا..وذنبهم أنّهم مصمّمون على أنّ بغداد ستبقى مدينة الثقافة رغم قسوة الزمن.
كلّ المقالات التي كتبها المثقفون العراقيون كانت طافحة بالشجن حينا وبالغضب حينا آخر..فهم يريدون لهذا الشارع المزيد من الحياة والمزيد من التطوّر..مجمعين على أنّ هذا الاقتحام يستهدف القضاء على هذا الفضاء الثقافي وطرد روّاده..

وفي الأخير نريد أن نسأل ماذا تكون بغداد دون شارع المتنبّي.؟

لا شكّ في أنّها ستكون مدينة أخرى مختلفة عن المدينة التي عرفناها.. فبغداد التي ترسخت في الذاكرة هي بغداد دجلة وبغداد شارع السعدون وشارع الرشيد وبغداد تمثال الحرية وبغداد شارع المتنبّي..فلا يمكن أن نتصور عاصمة الرشيد دون هذه الأماكن التي هي روح بغداد وعطرها وذاكرتها الذاهبة بعيدا في الزمن…
نرجو من وزارة الثقافة العراقية أن تعيد الاعتبار إلى هذا الشارع..ولعلّ خير ما تفعله لإعادة الاعتبار إليه تنظيم أمسيات شعرية في بعض مكتباته ومقاهيه بمناسبة الاحتفال ببغداد عاصمة للثقافة العربيّة.. فربّما أعادت هذه الخطوة الطمأنينة إلى نفوس المثقفين العراقيين..وإلى نفوس الكثير من الأدباء العرب الذين أحبّوا هذه المدينة وثقافتها..

* شاعر وأكاديمي من تونس

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *