أمثولة قطّ عارف

*خيري منصور

اهتدى بعض الكتاب مبكرا إلى إسقاط ما يخشون من البوح به على الحيوان والطير، ومنهم من أفلح الوشاة في استعداء السلطة عليهم، كما حدث لابن المقفع في «كليلة ودمنة»، حيث أحرق جسده.
ولو جازف جورج أورويل في إصدار «مزرعة الحيوان» في زمن آخر لما استطاع النجاة بجلده، وأمثولة قط عارف لم ترد في كتاب «الحيوان» للجاحظ أو في «كليلة ودمنة» ولا تنسب أيضا إلى جُحا، فهي حدثت فعلا في إحدى القرى العربية، وهي باختصار أن رجلا اسمه عارف وقد يكون له من اسمه نصيب، اقتنى قطّا واعتنى به بحيث كان يقاسم أطفاله حصتهم من الطعام، وغالبا ما كانت زوجته تغضب وتصرخ في وجهه، لأنها كانت ترى في تربية قط والإنفاق عليه رفاهية لا مُتّسع لها في حياة ريفية متقشّفة.
وذات يوم رفعت زوجة عارف غطاء برميل الطحين لتغرف منه كعادتها ما يكفي للعجين، ففوجئت بأفعى تتلوى على الطحين، فأعادت الغطاء إلى البرميل وهرعت إلى حيث زوجها يعمل في حقل قريب من البيت لتخبره بما رأت، عندئذ ضحك عارف وكان شيء ما يشبه الشماتة يرشح من ضحكته، وقال لزوجته هل أدركت الآن لماذا اقتنيت ذلك القط، وأتحت له أن يقاسم أطفالي حصصهم من اللحم.
لم تفهم زوجة عارف ما سمعت، لأن الخوف من الأفعى أوشك أن يصيبها بالشلل، وعلى الفور قفز عارف من مكانه تاركا الفأس وراءه وراح يبحث عن القط، وأمسكه ثم رفع غطاء برميل الطحين ورماه على الأفعى، وأعاد الغطاء إلى مكانه وابتعد قليلا عن ساحة المعركة، لينتظر ما سوف تسفر عنه، فالرجل ابن قرية تداولت الأجيال فيها حكاية العداء المزمن بين القط والأفعى، فالقط غالبا ما ينتصر إلا اذا لُدغ من أنفه الأشبه بما يسمى في أساطير الأغريق عقب آخيل، وهو نقطة الضعف والمقتل، بعد ثلاث دقائق رفع عارف غطاء البرميل وصاح مهللا كما لو أنه انتصر على الأفعى وزوجته معا، فقد قتل القط الأفعى وانتهت الحكاية بخجل المرأة واعتذارها، وأصبحت هي التي تتولى رعاية القط بدلا من عارف.
وككل الحكايات التي ترد بلسان الحيوانات، أو تروى عنها، ثمة قابلية لتأويلات لا آخر لها، وربما لهذا السبب دفع ابن المقفع الثمن حين أحرق وتحول إلى رماد، وأذكر أنني كتبت يوما عن قط مالارميه، وهو قط مدلل، يقضي الوقت في التثاؤب أو التلذذ بالدفء، شأن قط بودلير الذي كان يجلس ساعات أمام مدفأة الحائط، وكانت القصيدة التي كتبها عنه، المدخل الذي أوصل غاستون باشلار إلى ما سماه جماليات المكان في أحد كتبه المهمة، قط عارف لم يظفر بقصيدة أو مقال شأن ملايين الحيوانات والطيور التي تعيش وتموت بصمت لأنها بلا مقابر، لكنه تحول بعد انتصاره على الأفعى إلى أمثولة في قرية ليس لديها الكثير من الأمثولات، لأنها تعيش حياة واقعية تنحصر في نطاق الضرورة، وإذا كان هناك من يستنكر على البعض تربية حيوانات لا تذبح، فالأمر يشبه النظرة السائدة إلى الورد الذي لا يؤكل وفي الحالتين ثمة تفوق على الضروري لصالح الحرية، وعلى الواقعية لصالح الرمزية، وأحيانا يذكرني قط عارف بقط جحا، ففي إحدى حكايات هذه الشخصية التي تحولت إلى مشجب لحكايات مجهولة المؤلف والنسب، يشتري جحا رطلا من اللحم، وأثناء غيابه تطهو زوجته اللحم وتلتهمه كله، وحين عاد وسألها عن رطل اللحم قالت إن القط أكله، فاحضر جحا الميزان ووضع عليه القط فوجد أن وزنه رطل، وسألها إن كان هذا هو القط فأين اللحم… وإن كان هذا اللحم فأين القط؟
ويعرف من لهم تجارب في تربية القطط، إنها تميل إلى الكسل وتنام طويلا فهي لم تمارس في حياتها أي وظيفة باستثناء تلك الوظيفة اليتيمة والنادرة التي عوملت فيها كإله وعُبدت، وحين ألفّ الشاعر ت. س. أليوت مجموعة قصائد عن القطط وجد أنها تعبر عن نماذج بشرية، لكنه لم يضطر كابن المقفع إلى استنطاقها كي تنوب عن البشر في الشكوى.
وبالعودة إلى قط عارف وأمثولته وقابليتها للتأويل، فإن هناك نماذج من البشر يكون اقتناؤهم والعناية بهم من أجل الدور الذي سيلعبونه عندما تأزف الحاجة، حيث لا بد من افتراض وجود الأفعى كي يكون إطعام القط مبررا، وغالبا ما يتم استدعاء القطط في مناسبات تذكرنا بقط عارف والأفعى التي كانت تتلوى في برميل الطحين، وقد يكون هذا القط كاتبا أو مثقفا يدرك أن الاهتمام به لا علاقة له بما يكتب أو يقول، وهناك حكاية تُروى عن صاحب كلب لم يكن يكف عن النباح، ما دفع الجيران إلى الشكوى، وحين عرض الرجل كلبه الثرثار على طبيب بيطري وجد أنه لا يشكو من شيء وأن صحته جيدة، وعندما تكرر الأمر عاد إلى الطبيب وطلب منه بإلحاح تحديد سبب الإفراط في النباح، عندئذ قال له الطبيب، الأمر لا علاقة له بالصحة أو الألم، فالكلب يدافع عن سمعته بالنباح ولا شيء آخر، فالكلب الأخرس لا أحد يقتنيه.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *