أمثولة نيتشوية في النقد الذاتي


*خيري منصور


لم يكن نيتشة الفيلسوف الأوروبي الوحيد الذي اختزلته الترجمة غير الممنهجة إلى كتاب واحد لعدة عقود، وشذرات من سيرة ذاتية لها وتر مشدود بين العُصاب والجنون، فمن استنطق زرادشت واستدرجته المانوية القائمة على الثنائيات لم يكن ملاكا أو شيطانا، رغم أن القراءات المتعسفة والتقويلية شيطنته وقدمته في صورة وحش أشقر لا يغمد مخالبه على الإطلاق ولا يغفو إلا إذا باغتته نوبة صرع.
لي كقارئ حكايات لا تخلو من طرافة مع نيتشة، منها أنني أقمت عشرة أيام في منزل أكاديمية فرنسية متقاعدة عن التعليم ومتفرغة للدفاع عن البيئة في الجنوب الفرنسي، وكان لديها كلب أسود ضخم اسمه نيتشة، قد يتصوره من يراه في شارع شحيح الإضاءة أسدا، وحين لاحظت السيدة أنني شعرت بالفزع منه ضحكت وقالت: إنه مسالم ووديع، وربما كانت ضخامته ولونه مجرد حيلة للدفاع عن الطفل الذي في داخله. وكانت تتحدث وهي تنظر إليه باشفاق كما لو أنها تجد فيه المعادل الحيواني لفيلسوف تعرض لإساءة فهم مزمنة، وكما يحدث دائما، ما أن أوشكت على إقامة علاقة إليفة مع الكلب حتى أزف موعد الوداع، فنحن في هذا العالم كما يقول الشاعر ريلكة نموت قبل أن نتقن عادات تعلمناها.
من يقرأ نيتشة بعيدا عن الأفقية أو ما يمكن تسميته القراءة الســياحية قد يكتشف لماذا جعلت الطبيعة مــن المحارة بيتا صلـــبا ولا يكُسر لأنها تؤوي في داخلها لؤلؤة، فهو شاعر بمقياس غير غنائي ومحرر من ظلال الرعوية وأصدائها، وصوفي ووثني وأسد يخفي تحت جلده غزالا يجيد استخدام قرونه لأنها ليست فقط للزينة، أو على موعد مع صيادين يجتثونها لبيعها للهواة.
ما استوقفني في كتابه «غسق الأوثان» الذي ترجمه علي مصباح وصدر عن دار الجمل ليس تلك التنويعات على الوتر النيتشوي المشدود، فهي مبثوثة في العديد من كتبه وقصائده وسيرته، ما استوقفني هو نقده اللاذع لألمانيا في عصره، حيث يندر أن نجد من أعلن العصيان على النرجسية القومية كما فعل، وللحظة شعرت بأنه يكتب عن واقعنا العربي وثقافتنا في هذه الآونة الرمادية التي تحوّل فيها الواقع إلى حفلة تنكرية، ولم يعد فك الاشتباك ممكنا بين الغسق والشفق، وبين الحضور والغياب. سأختار عيّنات مما يقوله نيتشة عن الألمان بقدر ما يسمح لي الحيّز المتاح: يقول إن هذا الشعب قد أسلم نفسه طواعية إلى التبلّد منذ ما يقارب القرن، وما من بلد في الدنيا عرف مثل هذا الإسراف الداعر في تعاطي المخدرات، ويقول إن الموسيقى الألمانية في زمنه تصيب الإنسان بالانقباض، ثقيلة وكئيبة ويضيف أن العقل الألماني يغدو أكثر فأكثر فجاجة، وما يفزعني هو أن الجدية الألمانية، وكذلك العمق تتراجع وتتقهقر، وحين أتجول بين الجامعات الألمانية أشعر بالجدب، وليس هناك من شيء تعاني منه الثقافة الألمانية كهذا الفائض من حشد سماسرة الرصيف الأدعياء وكسارات الإنسانيات المتشظية.
ويقول أيضا إنه يبحث بدون جدوى عن ألماني واحد يمكنه أن يتعامل معه بجدية، ثم يجزم بأن الثقافة الألمانية في حالة تدهور وانحطاط، لأنه ما من أحد يمكنه أن ينفق أكثر مما يملك. لكن أقصى ما يبلغه النقد العنيف يشمل الدولة، باعتبارها طرفا نقيضا للثقافة، ويرى أن الدولة هي أداة من الصنف الأدنى للثقافة، لأن التعليم الذي تتولاه الدولة لا يعلم التلاميذ التفكير، بدءا من المدارس حتى الجامعات. وأخيرا فإن الأصابع الألمانية ليست مُرهفة بحيث تميز الفروقات! 
كتب نيتشة هذا النقد اللاذع لبلاده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولو عاش نصف قرن آخر ورأى ما حلّ ببلاده لقال ما نحتاج إلى خيال جامح لتصوره.
ولا أدري لماذا شعرت فور قراءة هذا النقد الذاتي بأن فريدريك نيتشة هو اسم مستعار لمثقف عربي في القرن الواحد والعشرين، لأن الانحطاط الذي شمل الفنون والثقافة برمتها أصبح يصيب المثقف الجدير بهذه الصفة بالغثيان على مدار الساعة، بحيث يضطر إلى أن يلوذ بعزلة تحميه من حفلة تعذيب لحواسه الخمس.
لكن هل يعدّ ما كتبه نيتشة عن ألمانيا ومن بعده ما كتبه هنري ميلر عن أمريكا ضربا من الماسوشية التي تنتج ذاكرة آثمة، واستمراءً لهجاء الذات؟ 
بالتأكيد ليس الأمر كذلك، لأن ميلر الذي لم ينافسه أحد في هجاء أمريكا قال في إحدى رسائله، إنه يفعل ذلك لأنه أمريكي مئة في المئة، ولأنه أيضا يحلم بأمريكا أخرى قد لا تكون يوتوبيا لكنها بالتأكيد ليست ديستوبيا.
وفي مراحل الانحطاط يتراجع النقد الذاتي لصالح التواطؤ والتسابق المحموم إلى إخفاء الحقائق أو تجميل ما هو قبيح منها، لهذا تتفاقم المشكلات ويتنامى التخلف، بحيث تصبح عقارب الساعة تدور إلى الوراء بانتظام معكوس، لأن التخلف أيضا له قوانين نمو وديناميات مضادة وليس مجرد ركام لا يحصى. وقد يكون أحد أسباب شحة وضمور النقد الذاتي في عالمنا العربي هو فائض النرجسية التي تسعى إلى التعويض عما هو مفقود، وهنا أتذكر ما كتبه كونديرا عن الأناشيد الوطنية التي تطول وتتطرف في مديح الذات كلما تناقصت سيادة الدولة وقلّت أهميتها.
بعد حزيران/يونيو عام 1967 صدرت عدة كتب مكرسة للنقد الذاتي وكان في المقدمة منها كتاب صادق جلال العظم بعنوان «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، لكن سرعان ما تصدى المتنطعون من سماسرة السلطات لهذا التحول الواعد بتدارك ما تبقى وكانت ذريعتهم أن الأعداء يستثمرون هذا النــقد لصالحهم، والحقيقة ليست كذلك، فالدافع لهذا التنطع هو الدفاع عن النفس وتبرير المكاسب، التي طالما اقترنت بتبرير أخطاء السلطات، ومن كتب عن غسق الأوثان لم يفعل ذلك على سبيل التبشير بآلهة سماوية بقدر ما أراد البوح عن اختناقه بالمحيط الذي يحاصره.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *