“ما التفكير؟”… سؤال الأسئلة

*سعيد ناشيد

ما التفكير؟ لنترك الإجابة جانباً ولو لبعض الوقت أو إلى حين &ndash مع أننا سنترك شيئا لا نملكه ــ ولنكتف الآن بمساءلة السؤال من حيث هو سؤال. غير أن سؤالا آخر يعترضنا: هل يكفي أن نضيف ما الاستفهامية إلى كلمة «تفكير» حتى نصبح أمام سؤال فلسفي؟ لو كان الأمر كذلك لكان السؤال الفلسفي مجرّد إجراء تقني على طريقة ما «س»؟ بحيث نكتب مكان «س» أي مصطلح نريد! طيب، ثمة تدقيق قد يقترحه البعض، يجب أن تدلّ «س» على المفاهيم حصراً من قبيل مفاهيم الإنسان والدولة والوجود والزمان وما إلى ذلك. لكن، ما المفهوم؟ قد يكون المفهوم في منشئه مصطلحا أو شخصا أو حدثا، ثم تحوّل فيما بعد إلى أداة نظرية للتفكير. مثلا لقد تحولت كلمة الدولة من مصطلح في العصر الوسيط إلى مفهوم في الزمن الحديث؛ وأصبح المسيح في الأزمنة الراهنة أقرب إلى المفهوم منه إلى الشخصية التاريخية؛ وكذلك انتقل الهولوكوست خلال النصف الثاني من القرن العشرين من مجرد حدث إلى مفهوم نظري؛ إلخ.

كيف يتم هذا التحول؟ إن كانت وظيفة الفيلسوف هي إنتاج المفاهيم كما يرى جيل دولوز، فالأمر لا يتعلق في الغالب بخلق المفاهيم من لا شيء، بل عملية تحويلية تتخذ اسم المفهمة. المقصود بها تلك العملية النظرية التي بموجبها يقوم الفيلسوف أو مجموعة من الفلاسفة بتحويل بعض المصطلحات أو الشخصيات أو الأحداث إلى مفاهيم نظرية توجه العقل وتؤطر التفكير. لكن لا يكفي أن يقوم أي شخص بإضافة سؤال ما الاستفهامية إلى أحد المفاهيم حتى يكون قد طرح سؤالا فلسفيا. ثمة مرحلة لا يمكن القفز عليها، يحتاج السؤال الفلسفي إلى بناء فلسفي للسؤال.

البناء الفلسفي للسؤال

ما المقصود بالبناء الفلسفي للسؤال؟ المقصود ألا يبقى السؤال مجرّد موضوع للتفكير، وإنما يمثل أفقا جديدا للتفكير. مثلا، لا يكفي أن أطرح الآن سؤال «ما الزمان؟» حتى أكون أمام سؤال فلسفي بالفعل. ليست الفلسفة مجرّد قدرة على طرح السؤال طالما أن طرح السؤال مسألة تقنية، لكن الفلسفة هي القدرة على بناء السؤال بناء فلسفيا بحيث يصبح فاتحا لأفق جديد للتفكير. إذا ما توخينا الدقة فالسؤال الفلسفي ليس مجرد سؤال تقني، بل تساؤل تأملي. بهذا المعنى يكون السؤال «ما التفكير؟» سؤالا مركبا، سؤالا يجعل من التفكير نفسه أفقا للتفكير، ما يعني التفكير في التفكير. غير أننا قد نكتشف بسهولة بأن التفكير في التفكير هو الموضوع الأساسي للفلسفة. هذا ما يجعل من السؤال الفلسفي ليس مجرّد تفكير في موضوع خارجي محدّد، وإنما بالأولى تفكير في طريقة تفكيرنا في ذلك الموضوع، أي تفكير في المفاهيم التي بها نفكر، الوجود، الزمان، العقل، التاريخ، إلخ.

سؤال ما التفكير؟ هو السؤال الذي تبناه الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر في أحد عناوينه الشهيرة. التبني يعني إعادة البناء أيضاً، يعني في مقامنا هذا تحويل السؤال من سؤال لا مفكَّر فيه أو لا يفتح أفقا للتفكير إلى سؤال هو أقرب ما يكون إلى سؤال الأسئلة إذا ما استلهمنا الأسلوب الهيدغري نفسه.

ما التفكير؟ سؤال يختزل تاريخ الفلسفة برمته. وهل كان تاريخ الفلسفة شيئا آخر غير تاريخ التفكير؟ ثم أننا بقليل من التأمل الهادئ قد نراه المدخل الأساسي إلى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة. المفارقة هنا أننا ما أن نطرح السؤال ما التفكير؟ حتى نكون بصدد ممارسة ليس التفكير وحسب وإنما ممارسة التفكير في التفكير، أي الفلسفة. بهذا المعنى نفهم كيف أن موضوع الفلسفة هو الفلسفة نفسها، ولا موضوع آخر للفلسفة غير الفلسفة. بمعنى أن الفلسفة هي المجال الذي يكون فيه موضوع التفكير هو التفكير نفسه، سواء تعلق الأمر بالتفكير السياسي، أو التفكير العلمي، أو التفكير الديني، أو غير ذلك.

دعنا نوضح بمثال أقرب ما يكون إلى الأفهام – وهل تكون الفلسفة شيئا آخر غير القدرة على التوضيح؟ – قد أفكر في الحياة مثلا، بل كلنا نفكر في الحياة ولو في بعض الأوقات، لكن قد لا يكون الأمر دائما وبالضرورة تفكيراً فلسفياً. التفكير الفلسفي في الحياة هو التفكير في كيفية التفكير في الحياة، بمعنى أنها التفكير النقدي في آليات إنتاج «الحقيقة» التي تؤطر كلامنا عندما نتكلم عن الحياة. وكذلك القول عن التفكير في الزمان، أو الإنسان، أو الموت، أو الجسد، أو العدالة، أو غير ذلك. لا تبدأ الفلسفة عندما نقرر أن نتأمل في بعض الأمور، لكنها تبدأ في اللحظة التي نقرر فيها أن نتأمل في طريقة تفكيرنا في الأمور. وإذا علمنا بأن نمط تفكير الشخص يحدد طبيعة سلوكه وأسلوب حياته أدركنا بأن إصلاح نمط التفكير هو المدخل الأساسي إلى إصلاح نمط الكينونة. بهذا المعنى يمكننا إعادة التفكير في مسألة الكوجيتو الديكارتي على النحو التالي: إن عبارة «أنا أفكر» ليست مجرّد دليل منطقي على عبارة «أنا كائن»، وإنما هي محدد وجودي لها، بحيث أنني كما أفكر أكون. بمعنى أن نمط التفكير هو المحدد الأساسي لنمط الكينونة. ذلك أن التمثلات التي أحملها في ذهني سرعان تصبح محدداً لسلوكي وتصرفاتي. مثلاً، عندما أعتقد بأن قيمة المرأة أدنى مرتبة من الرجل، أو أن المواطن أقل قيمة من الحاكم، أو أن حياة الكافر أرخص ثمنا من حياة المؤمن، أو عندما أعتقد بأني أنتمي إلى مجتمع لا يمكنه أن يتقدم أبداً، أو لا يمكنه أن ينتج فيلسوفا مثلا، فعلى الأرجح ستنعكس هذه التمثلات الخطرة على سلوكي وردود أفعالي وطموحاتي، وستؤثر على طاقتي الحيوية بالأساس، ومن ثمة سأنشر العدوى من حولي سواء بنحو واع ومباشر أو بنحو غير واع وغير مباشر. إن تمثلاتي للهوية والحقيقة والدين والجنس والموت والحرية هي المحددات الأساسية لسلوكي وأسلوب حياتي. أكثر من ذلك، وأخطر من ذلك، إن تمثلاتي للذات هي المحدد الأساسي للذات.

يبقى السؤال بالطبع، كيف تتم عملية التفكير في التفكير؟
عندما أفكر في أسلوبي في الجري فأنا أعرف بالضبط كيف يكون التفكير في فعل الجري، أعرف ما الذي يحدث في ذهني وأنا أتصور نفسي في حالة جري. لكني لا أعرف بالضبط ما الذي يحدث في ذهني وأنا أتصور نفسي في حالة تفكير. أثناء التفكير في أسلوبي في التفكير هل أحاور أفكاري بنفسي وبدون صوت؟ هل أشكّ في الحقائق القائمة في فكري؟ هل يتحرّك الحدس والمشاعر والخيال والجسد واللغة والسلطة والقوى اللاشعورية وغير هذا مما لا أعلمه؟ لقد أقام ديكارت الدليل على أن بداية التفكير في فعل التفكير هي الشك. الشك هو الفعل الأهم داخل عملية التفكير في التفكير. «أنا أشك» ليست مجرّد قضية مستقلة عن «أنا أفكر»، بل الشك هو الفعل الأساسي ضمن عملية التفكير. كيف لا والتفكير هو إعمال الشك في الأفكار الموجودة في الفكر، سواء أكانت أفكارا قبلية، أم أحكاما مسبقة، أم آراء شائعة، أم بداهات أولى، أم غير ذلك.

وهم التفكير

سبق لمارتن هيدجر أن نبّه إلى أن أسلوب تدريس الفلسفة في الجامعات الحديثة أصبح ينتج وهم التفكير بدل فعل التفكير، ينتج أشخاصا يتوهمون بأنهم يفكرون لكنهم في واقع الأمر لا يفكرون. وبلا شك يبقى وهم التفكير أشدّ ضررا من عدم التفكير. لا ندري ما الذي كان سيقوله هيدغر عن تدريس الفلسفة في مجتمعاتنا المتأخرة اليوم، غير أننا تستطيع القول بالنيابة، لقد أصبحت الفلسفة في مجتمعاتنا مجرّد مادة تقنية لا يتعلم فيها المتعلم أدنى قدر من التفكير.

على أننا نستطيع أن نبسط الاعتراف التالي: إن كانت الفلسفة «علم لا يمكن تعلمه»، طالما أن التفكير في التفكير انفتاح الذات على نفسها على طريقة «اعرف نفسك»، تلك العبارة التي هي منطلق التفكير الفلسفي وقد استلهمها سقراط من معبد قديم، فإن هدف الدرس الفلسفي لا يجب أن يكون شيئا آخر غير إتاحة الفرصة لانفتاح الكينونة على نفسها، على العالم من حولها، وعلى قدرها الخاص بها. بهذا المعنى أيضاً تحتاج الفلسفة إلى إصلاح حتى تساهم في إصلاح التفكير وإصلاح الكينونة.

منذ سقراط إلى غاية مشيل فوكو، كانت الفلسفة ولا تزال هي الجهد الذي يبدله العقل على ذاته، لمساءلة ونقد ومراجعة وتفكيك بنياته. ذلك هو الجهد الذي شهد أوجه مع المشروع النقدي لكانط: «نقد العقل العملي»، نقد العقل الخالص»، «نقد ملكة الحكم»، إلخ. التفكير الفلسفي مواجهة نقدية دائمة مع الأفكار التي يحملها العقل. القدرة على التفكير مع سقراط هي القدرة على التحرر من الأفكار المسبقة، وهو القدرة على التحرر من الأفكار الحسية مع أفلاطون، ومن الأفكار البديهية مع ديكارت، ومن الاغتراب مع فيورباخ، ومن الاستلاب مع ماركس، ومن الميتافيزيقا مع هيدجر، ومن آليات الدعاية مع حنا أرندت، ومن آليات السلطة مع فوكو، إلخ.

حسناً، يقوم مشروع مشيل فوكو النقدي على أساس نقد الخطاب الذي نواياه المعلنة تحرير الإنسان، وذلك لغاية الكشف عن بذور معاودة إنتاج آليات القهر بأقنعة إنسانية. وفق القراءة السطحية قد يدفعنا هذا النقد إلى حافة اليأس طالما ليس بوسعنا أن نحلم بأي خلاص نهائي لا يعيد إنتاج القهر، لكنه وفق القراءة العاقلة يفتح أمامنا فرصة تحقيق اختراقات جزئية ومثمرة أيضاً. بهذا المعنى كان فوكو يترجم عملية التفكير في التفكير إلى فعل سياسي إنساني وتحرري. إن تاريخ التفكير نفسه هو تاريخ صراع طويل بين العقل والأوهام التي ينتجها العقل ذاته تحت مسمى «الحقائق»، حتى ولو كانت تلك الحقائق تتخذ صفة العلم أو الحرية أو الحداثة. الهدف من كشف جسامة التحديات ليس الإحباط والتراجع وإنما تحقيق اختراقات قد تكون جزئية لكنها واقعية ومثمرة في الأخير. أما الإحباط فهو ثمرة الإيمان الطفولي بالوعود الكبرى. الاستمتاع بالأفراح الصغرى معناه عدم انتظار أي سعادة كبرى في الأفق. ذاك هو درس الفلسفة منذ سقراط إلى غاية اليوم.

كيف تسأل؟

لم يكن سقراط يشير إلى أي حقيقة كامنة هنا أو مكتملة هناك، ولا كان يبشر الناس بأي وعد خلاصي. كل ما يفعله أنه كان يكشف عن زيف القناعات الراسخة في الرؤوس والنفوس. لم يكن يكتفي بنقد مسلمات الناس، وإنما كان يعلم الناس كيف ينتقدون مسلماتهم بأنفسهم، وكيف ينتهكون برشاقة كل المحرمات القابعة في أذهانهم والتي تشل قدرتهم على مواصلة التفكير. لقد أبدع سقراط بدوره أسلوبا حواريا ساحراً، من خلاله يدفع محاوره إلى أن يسخر بنفسه من أفكاره. لحظة السخرية من الحقائق الذاتية هي لحظة بداية تحرر العقل من سلطة «الحقيقة» والتي لا سبيل لها إلى الإقناع سوى بارتداء قناع الجدية. لذلك كان كبار الفلاسفة الذين انتقدوا خرافات شعوبهم ساخرين كبار، من سقراط، وفولتير، وديدرو، وكركجارد، ونيتشه، وغيرهم. العقلانية الساخرة هي العقلانية الأكثر إزعاجاً بلا شك؛ لأنها تمثل النقد الأكثر جذرية أيضاً. إنها تحرر العقل في نفس الوقت الذي تحرر فيه الوجدان.

قبل دخول المعبد يطالبك الحراس بأمرين: لا تفكر ولا تضحك. لماذا؟ التفكير يحرر عقلك من وهم الحقيقة، والضحك يحرر روحك من غريزة الخوف. لذلك، كان أبيقور يقول «علينا أن نتفلسف ونحن ضاحكين».

أن نتفلسف بمرح وفرح.. ذاك هو الوعد الجميل الذي قد تمنحه الفلسفة لأولئك الذين حملوها على محمل الجد، بمعنى مارسوها كأسلوب حياة.

سخرية تحرِّر العقل

أبدع سقراط أسلوباً حوارياً ساحراً، من خلاله يدفع محاوره إلى أن يسخر بنفسه من أفكاره. لحظة السخرية من الحقائق الذاتية هي لحظة بداية تحرر العقل من سلطة «الحقيقة» والتي لا سبيل لها إلى الإقناع سوى بارتداء قناع الجدية. لذلك كان كبار الفلاسفة الذين انتقدوا خرافات شعوبهم ساخرين، من سقراط، وفولتير، وديدرو، وكركجارد، ونيتشه، وغيرهم. العقلانية الساخرة هي العقلانية الأكثر إزعاجاً بلا شك؛ لأنها تمثل النقد الأكثر جذرية أيضاً. إنها تحرر العقل في نفس الوقت الذي تحرر فيه الوجدان.

كشف أقنعة الخطاب

يقوم مشروع مشيل فوكو النقدي على أساس نقد الخطاب الذي نواياه المعلنة تحرير الإنسان، وذلك لغاية الكشف عن بذور معاودة إنتاج آليات القهر بأقنعة إنسانية. وفق القراءة السطحية قد يدفعنا هذا النقد إلى حافة اليأس طالما ليس بوسعنا أن نحلم بأي خلاص نهائي لا يعيد إنتاج القهر، لكنه وفق القراءة العاقلة يفتح أمامنا فرصة تحقيق اختراقات جزئية ومثمرة أيضاً. بهذا المعنى كان فوكو يترجم عملية التفكير في التفكير إلى فعل سياسي إنساني وتحرري. إن تاريخ التفكير نفسه هو تاريخ صراع طويل بين العقل والأوهام التي ينتجها العقل ذاته تحت مسمى «الحقائق»، حتى ولو كانت تلك الحقائق تتخذ صفة العلم أو الحرية أو الحداثة. الهدف من كشف جسامة التحديات ليس الإحباط والتراجع، وإنما تحقيق اختراقات قد تكون جزئية، لكنها واقعية ومثمرة في الأخير.

بؤس تدريس الفلسفة

سبق لمارتن هيدجر أن نبّه إلى أن أسلوب تدريس الفلسفة في الجامعات الحديثة أصبح ينتج وهم التفكير بدل فعل التفكير، ينتج أشخاصا يتوهمون بأنهم يفكرون لكنهم في واقع الأمر لا يفكرون.
____
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *