الجمل الفلسطيني

*يوسف أبولوز

امتلأ الشعر الفلسطيني، والشعر العربي بالقدس.. مدينة الأديان والتسامح والمحبة.. وهي في الشعر أسيرة، ووحيدة، وفردوس ديني وتاريخي وجمالي مفقود، وهي في الشعر مدينة الحزن العربي المعتّق من فدوى طوقان، وهارون هاشم رشيد، ومحمود درويش، إلى نزار قباني، وحيدر محمود، ومعين بسيسو، وعلي الخليلي، ويوسف الخطيب، وإلى صف طويل من الشعراء من محيط الوطن العربي، وإلى خليجه بغنائية شعرية تراجيدية.. وحنين متزايد، وأمل لا يخلو من ألم.
هذه القدس في الشعر، والشعر الذي يؤرخ لأحزان المدن وتراجيدياتها التاريخية إما أن يبقى في الذاكرة، ويعيش طويلاً إذا كان من قلب الشاعر ومن قلب المدينة، وإما أن يتلاشى رويداً رويداً مع الزمن إذا كان شعراً مناسباتياً سطحياً تغلب عليه الانفعالية والشعاراتية المنبرية.. وبكلمة ثانية، حين تتماهى روح الشاعر مع روح المدينة، ويصبح جزءاً مكرساً من نسيجها الثقافي والمعنوي والنفسي والمادي فإن الشعر، في هذه الحالة، يدوم، ويعيش في الزمن وفي الذاكرة، ويتحول إلى ما يشبه الغناء الشعبي تتناقله الأجيال من زمن مادي ومعنوي.. إلى آخر.
سليمان منصور.. الرسام الفلسطيني الريادي تعامل مع القدس بطريقة مختلفة عن الشعراء، ومن الطبيعي أن تختلف لغته عن لغة الشعراء، فلغته بصرية لونية سردية أيضاً؛ ولذلك أنجز في العام 1973 لوحته الشهيرة «جمل المحامل» التي تمثل رجلاً عجوزاً بثيابه الفلسطينية التقليدية أو الشعبية، وقد حمل على ظهره مدينة القدس التي تظهر فيها قبة الصخرة مشدودة إلى ظهره ورأسه بحبل، واللوحة واقعية تماماً، ولم تتأثر بالتيارات التشكيلية الجديدة أو المعاصرة مثل التكعيبية أو السوريالية أو المفاهيمية؛ ذلك أن موضوع القدس في لوحة من هذا النوع لا يحتمل فناً غير هذا الفن الإنساني الشعبي؛ ولذلك، عاشت هذه اللوحة في الوجدان الفلسطيني أكثر مما عاشت بعض القصائد التي حملت القدس.. هذا من جانب.. ومن جانب آخر، فإن عبارة «جمل المحامل» تطلق في الثقافة الشعبية الفلسطينية على الرجل الصبور، والذي ينطوي على قوة بطولية يتحمل من خلالها الصعوبات والتحديات التي تواجهه، و«جمل المحامل» في هذه اللوحة هو عجوز فلسطيني، وليس شاباً.. القدس فوق ظهره يحملها كأنه يحمل بيته، ومتاعه، وعياله..

عاشت هذه اللوحة التي مر عليها الآن ما يقرب من نصف قرن من الزمن أكثر مما عاشت قصائد محتشدة بالقدس؛ وذلك نظراً للفرق بين اللغة الشعرية عندما يجري التعامل معها بخفة وسرعة واستعراضية، واللغة التشكيلية عندما يجري التعامل معها بواقعية ووعي وطني وإبداعي.. وفوق هذا وذاك: الصدق، ثم الصدق، ثم الصدق.. فالصدق والكذب في الإبداع له موضوع آخر ليس مكانه هنا الآن.
أصبحت اللوحة منذ السبعينيات من القرن العشرين، رمزاً وطنياً وسياسياً على المستوى الفلسطيني يشع بالأمل؛ وذلك، في ذروة ما، من ذرى الكفاح الفلسطيني على المستويين: السياسي والعسكري.. وبقيت هذه الروح الكفاحية الفلسطينية حيوية حتى أواسط الثمانينات، وبعدها دخلت فلسطين إلى معجم آخر مثل: الشتات، والخروج، والعودة، ونصف العودة.
عبر هذه التحولات من صعود وهبوط، ومن الرجاء إلى الفناء، ومن «الخندق» إلى «الفندق» ومن الوحدة إلى الانقسام.. وحتى الهرولة إلى سلام أو (حمام) تأكله بشراسة صقور الإرهاب «الإسرائيلي».. ظلت القدس على ظهر ذلك العجوز الفلسطيني أو الجمل الفلسطيني الذي لم يتعب حتى الآن.
___
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *