رواية عبده وازن “البيت الأزرق”.. الوجودية بثيابٍ فلسفية وبوليسيّة
يوليو 29, 2017
*عمر شبانة
ابتداءً، وقفة على العتبة الأولى في الرواية، إذ يختار عبده وازن “البيت الأزرق” عنوانًا لروايته الأولى، التي يدور جزء كبير منها في فضاء السجن. والبيت الأزرق، أو السجن الاحترازيّ، كما يرد في متن الرواية، قسم في السجن يختصّ باستشفاء ذوي الأمراض العصبيّة، يختار عبده العنوان متكئًا على دلالات هذا اللون ورمزيّته، حيث هنا سوف يُمضي بطل الرواية السجين “بول” فترة الحُكم عليه.
واللون الأزرق، بحسب بعض المختصّين، هو لون التعبير عن الذات، ويدلّ على الوحدة، والانسجام، والهدوء، والثقة، وهو يعطي إحساسًا بالاسترخاء، والطمأنينة، والتوازن، ويقلّل من مشاعر الغضب، ويُستخدم في بعض الثقافات لإبعاد الأرواح الشريرة، وتحاشي سوء الحظ…الخ، وهذه بعض من مواصفات “البطل” الذي تكمن بطولته في خياراته الصعبة، وفي المضيّ فيها كما شاء له المؤلّف، على نحو مقنع واقعيّا ومنطقيّا وفنيًّا. هنا قراءة انطباعية في عالم الرواية.
رواية عبده هذه (منشورات ضفاف والاختلاف، 344 صفحة)، هي روايتان في واحدة، فثمة رواية بطلتُها “جولييت”، يكتبها روائيّ محترف- ولنلاحظ أنه يبقى بلا اسم- ولا يعرف كيف يُنهيها، فهو حائر في أن يجعل بطلتَها “جولييت” تنتحر، وإذا كان هذا هو الخَيار، فكيف يختار لها طريقة انتحار “رحيم”، لكنّه، وبعد أن كتب ثلاث صوَر/ احتمالات لتمرينات على الانتحار، قرّر مسحَها (ديليت) من جهاز الكمبيوتر. وهذه الرواية تتداخل مع الثانية، ولنسمّها “مخطوطة السجين بول”، من خلال المؤلّف، وبدلَ انتحار جولييت، يدفع الروائيّ بالبطل “بول” إلى الانتحار، جوعًا وهزالًا، في إضراب عن الطعام، داخل سجنه الذي أدخل إليه محكومًا بجريمة قتل “لم يرتكبها”، حسب ما يعتقد كُثر ممّن يعرفونه، ولم يرغب هو في دفع التهمة، أو توضيح ملابسات تورّطه فيها، رغم براءته، أو توكيل محامٍ للدفاع عنه.
تتوفّر الرواية على مجموعة عناصر، تجعل منها رواية جديدةً، في معنى خروجها على مألوف الرواية العربية، وهي حداثيّة وتجريبيّة بامتياز. فهي على مستوى تقنيات السرد، توغل في استخدام تقنية “رواية داخل الرواية”، وتداخل الأصوات، على نحو يجمع المغامَرة والانضباط، وهي تقنية قلّما يجيدها روائيّون كبار، وتخدم الرؤية النهائية والخاصة بمؤلف العمل، بعد أن تكون قامت بدورها في ربط عوالم وشخوص مختلفة، كما هو الحال في هذا العمل المركّب.
يتّخذ الروائيّ من مخطوطة السجين “بول” ذريعة فنية وموضوعيّة، لخلق شخصيّات وحوادث وعوالم يبني منها هذا “المبنى” الفنيّ المركّب. مركّب من حيث شكله ومضمونه وخطابه ورسائله التي يرسل بها في اتجاهات متعددة. وهذه المخطوطة، هي ملفّ “يضمّ أوراقًا شاحبة اللون، غير موضّبة، وكأنّها جمعت على عجل”، وهي تعود إلى السجين بول أندراوس، كتبها أثناء قضاء محكوميّته في “البيت الأزرق”، وتركها مع صديق سجين معه (جورج/ المتحوّل جنسيّا إلى جورجينا)، ليسلّمها إلى “الأب/ الراهب جورج نادر”، الذي يسلّمها بدوره إلى “ندى”، المتخصّصة بإحياء “محترَفات للكتابة الدرامية، غايتها مساعدة المساجين والمهمّشين والمرضى النفسيّين..”، التي توصلها إلى قريبها وصديقها الكاتب الروائيّ المشغول بإنهاء روايته، كي يجعل من المخطوطة كتابًا، فندخل في رواية جديدة، هي حياة “بول”، وانتحاره البطيء.
تراجيديا وجوديّة
ليس من تلخيصٍ يمكنه اختزال “البيت الأزرق”، فهي تضجّ بالشخوص والحوادث والتجارب والتقلّبات، تبدأ من القبض على “بول” وهو ينحني فوق جثّة سامية “فتاة تعمل في حانة” (يختار الكاتب أن تكون فلسطينيّة، ولم أجد سببًا لهذا الاختيار، إذ من الممكن أن تكون من أي “تابعيّة” في لبنان، وهذه مسألة تتطلب قراءة خاصة)، وفي يده سكّين ملطّخ بالدم، بينما حقيقة الأمر أنّه، وأثناء المشي في المكان، سمع أنين الفتاة، ووجد السكّين مغروسة في صدرها، فانتزعها منها، وفي هذه الحالة تمّ إلقاء القبض عليه. من هذه اللحظة تبدأ تراجيديّة الرواية، بالنسبة إلى “بول”. لكنّ هذه ليست هي اللحظة التراجيديّة الوحيدة في الرواية، فثمة الكثير من هذه اللحظات، وإن بدتْ أقلّ تراجيديّة منها.
لعلّ اختيار شخصية بمواصفات “بول”، كشخص تعرّض لليُتم المبكر، بموت والدته أولا، وبهجرة والده إلى أستراليا، تاركًا إياه في رعاية خالته، واختفاء هذا الوالد نهائيًّا، هذا الاختيار الذي أسهم في خلق الطابع التراجيديّ في شخصيّته، أضفى طابعا تراجيديًّا على الرواية عمومًا. فمن خلال “التحقيق” الذي أجراه الروائيّ عن شخصيّة “بول”، ومن خلال المخطوطة، نجد أنّنا أمام عمل روائيّ ينطوي على أبعاد بوليسيّة، تختلط بالأبعاد السيكولوجيّة للشخصيّة، فضلًا عن البعد الثقافيّ، الفلسفيّ والأدبيّ، الوجوديّ والعبثيّ، وهي في الوقت ذاته تلقي أضواء ساطعة على ظواهر اجتماعية وسياسية في المجتمع اللبنانيّ.
فنتيجة صدمات عدّة، تحوّل “بول” إلى شخص مشّاء، يجوب الأمكنة مفكّرًا ومتأملًا في الطبيعة والوجود والعدم، هو الذي درس الفلسفة على رجل دين (الأب ألبير)، واكتشف أنّ هذا الراهب يعشقه، لا كصديق وأخ أو ابن، بل كما يعشق الذكر الأنثى. وجاء التحوّل الثاني في حياة “بول” بالتوقّف عن الكلام، أي الخلود إلى “البكم/ الصمت”، في ردّة فعل- ربّما- على سلوك البشر، رغم تعاليم الأديان والفلسفات. وترتبط عادة المشي، كما نعلم، بفلسفة/ مدرسة المشّائين التي أنشأها أرسطو على أساس أن التفكير يرتبط عميقًا بالمشي.
شخصيّة جولييت هي أيضًا ذاتُ طابع مأسويّ، من جهة حالة الاكتئاب المرَضيّ الذي يجعلها تفكّر في الانتحار، فهي امرأة في الأربعين، تعرّضت لخيانة من حبيب عاشت معه علاقة حبّ عاصفة، من جهة، وهي روائيّة فاشلة تحاول أن تنهي روايتها فلا تستطيع، ومن هنا تأتي حالُ تعاطف، بل تماهي الروائيّ معها إلى درجة الحيرة في اختيار مصيرها، وهو الدافع وراء انتقاله للاشتغال على مخطوطة “بول” ليصنع منها رواية. وبالوقوف على “حكاية” جولييت، فربّما نجدها وقد حملت ملامح من أسطورة “بيغماليون” وتمثال جالاتيا كما جاءت عند الروماني أوفيد تحديدًا.
وعلى صعيد حواراتها ونقاشاتها ومناظَراتها، تخوض الرواية ومؤلّفها في “قضايا” وأفكار تتسم بالراهنيّة، بقدر ما تتميّز بطرح الجوهريّ، من خلال العابر واليوميّ، حينًا، وعبرَ الأسئلة الفلسفيّة حينًا، وعلى نحو شديد الجُرأة والعمق معًا. وسواء تعلّق الأمر بالدين/ الأديان عمومًا، أم بالفلسفة، أم بالمجتمعات، من خلال المجتمع اللبناني في ظروف محدّدة، فالنقاشات تغوص في عمق القضايا المعروضة.
يكتب عبده وازن عن حياة السجن، كتابة عارف مطّلع، حتّى يكاد القارئ يقع في وهم هذا التخييل الذي لا شكّ أنه يتكئ على مراجع تؤهّله لمثل هذه الكتابة الآسرة. ففي “سجن عبده وازن”، إن جاز التعبير، تقرأ مواصفات سجوننا العربية، بمن فيها من فئات مختلفة، من أصحاب القضايا السياسيّة والجنائيّة، من الثريّ الذي يحتفظ لنفسه بحيّز خاص، فيأتيه طعامه وشرابه (مشروبه الكحوليّ، بل الحشيشة حتّى)، إلى الفقير البائس الذي يلتقط أعقاب السجائر، حتّى الشابّ الذي يؤجّر جسده ليحصل على الفُتات.
وكذلك الأمر في ما يتعلّق بمظاهر اجتماعيّة مرَضيّة، خصوصًا ما يتعلّق بحياة المقاهي والحانات والملاهي الليليّة (البوب)، حيث يصوّر وازن ما ينشأ في هذا العالم وحوله من عصابات وقوّادين يعتاشون من العمل في هذه “المهن”، ويتصارعون ويَقتلون ويُقتلون، كما هو حال “فتاة الحانة سامية” التي كانت ضحيّة واحد من هؤلاء الذين يهيمنون على “سوق العمل” هذا، وكان مقتلُها ذريعة للقبض على “بول”.
ثقافة المؤلّف
ولا يتورّع وازن عن الدخول إلى عالم المثليّين، مجسَّدًا بجورج/ جورجينا، الذي قُبض عليه في قضية قتل “عشيقه”، ويُزجّ به في سجن الرجال (الذكور)، لأنه يجمع بين الذكر والأنثى، ويعيش في السجن بشخصيّة أنثويّة، وتظهر علاقته مع “بول” بوصفه الأقرب إليه، لكن من دون علاقة جنسية معه، بل بعلاقة على مستوى عالٍ من الإنسانية، وهو يحمل مقدارًا واضحًا من تعاطف الروائي- شخصية الروائيّ في الرواية، التي لا تعني مؤلّف “البيت الأزرق” نفسَه- مع هذا النمط من البشر الذين يحملون مواصفات الجنسين، ويرغبون في “التحوّل”، وممارسة حياتهم بحُرية، وهو “حقّ” تحميه وتدافع عنه جمعية لبنانية تسمّيها الرواية.
لكنّ رواية عبده وازن هذه، وفيما تنطوي على هذا القدر الكبير من التعاطف مع “بول”، الطيّب والبريء والمعذّب، والذي يكاد يخلو من أيّ ملمح من ملامح الشرّ، فإنها في المقابل تحمل طيفَ إدانة لشخصية الأب “ألبير” في ما يخصّ علاقته مع “بول”، خصوصًا على لسان “غادة”، حبيبة “بول” التي هجرته قبل دخوله السجن، فهي تنظر بعدائيّة إلى الأب الراهب الذي يبادلها العداء، ويستطرد كلاهما، وكلّ منهما بطريقته، في تقديم ما يراه هو/ هي من صورة “بول”.
وغادة هذه، التي يقابلها الروائيّ لمزيد من التعرف على بطل روايته، هي ذات “حكاية” تراجيديّة مختلفة، فهي تعيش علاقة مع هذا الروائيّ، تمتدّ شهورًا، لكنّ ظروفًا أسَريّة تدفعها للهجرة إلى كندا، للالتحاق بأسرتها هناك، فتخسر علاقة عاطفية وجسدية عميقة، بعد أن كانت فقدت حبيبها الأول “بول” الذي تعتقد أن الأب الراهب كان المحرّض على خسارته.
وفي الحقيقة، إنّنا في هذه الرواية، أمام شخصيّات تتّسم بالضياع، بدءًا من شخصيّة الروائيّ نفسه، فهو يصف شخصيّته بالعبثيّة والفوضويّة، لكنّهما عبثيّة وفوضويّة ذاتا طابع وجوديّ/ فكريّ يتبدّى في ثقافة الروائي، ثقافة تشتمل على قراءات واسعة في الأدب العالميّ، والفرنسيّ خصوصًا، وغيره من الآداب والفنون. بل إنّه روائيّ ذو أسلوب يستطيع التنظير له، ومن ذلك حديثه عن الرواية البوليسيّة التي لم يكن من عُشّاقها، ثمّ يروح يستعرض صوَرًا منها.
أو حين يعرض لروائيّين مثل فلوبير وروايته الشهيرة “مدام بوفاري”، فهو يعرض لها بأدوات الناقد والروائيّ المتعمّق في عالمه. وإلى ذلك، وأثناء تفكيره في إعادة صياغة “المخطوطة” روائيّا، يتطرّق “الروائيّ” إلى ما يسمّيه الفرنسيّون “مهنة الزنجيّ”، والمقصود “الكاتب الغُفل أو السريّ الذي يكتب نيابة عن الآخرين ولهم مقابل أجْرٍ ماليّ”. وهذه مهنة منتشرة في العالم باسم “كاتب الظلّ” ربّما.
رواية عبده وازن هذه، لا تكفيها قراءة واحدة، فهي ذات محاور عدة، وحكايات متداخلة، رواية “مصنوعة” بمهارة، وبلُغة سلسة ورصينة في آن، هي لغة كاتب خبِر السرد على نحو مكّنه من خوض تجربة ناجحة، بعد تجاربه في القصيدة وكتاب السيرة وكتابة الأحلام على نحو مختلف.
___
*ضفة ثالثة.