*علي لفتة سعيد
كثر الحديث عن تسيّد الرواية في عالم الأدب والتلقّي معا، مثلما كثر الحديث في الجانب الآخر عن تراجع القصة وتلقّيها. وعلى الرغم من أن الصفحات الثقافية في أغلب الصحف اليومية تنشر نصوصاً قصصية بشكلٍ يومي ورغم أن شبكات التواصل الاجتماعي لا تخلو من نشر القصص القصيرة وليست القصيرة جدا فحسب، إضافة إلى استمرار النقاد في الحديث عن التجارب القصصية أو تناولهم لمنجزٍ قصصي في شكل كتابٍ أو القراءة المستمرة لإصدارات بعض دور النشر للمجاميع القصصية، رغم كل ذلك ثمة من يعتقد أن هناك تراجعاً في الفن القصصي وخاصة القصة القصيرة.
فكرة رواج الرواية وتراجع القصة القصيرة على اعتبار أنها لم تعد تعطي الدهشة للمتلقّي أو أنها جنسٌ يحتاج إلى تأملٍ في وقت يحتاج فيه المتلقّي إلى فسحة من الراحة والبحث عن التأمل من خلال فعل الدهشة. أمام هذه المقولات يتم طرح السؤال التالي: كيف تتم رؤية القصة القصيرة تحديداً هل هي في أزمةٍ بسبب هيمنة الرواية أم إن هذه الأزمة صنيعة الإعلام الثقافي؟
عروس السرد
يعتقد القاص والروائي علاء مشذوب الذي صدرت له قبل أيام مجموعة قصصية حملت عنوان “لوحات متصوفة” أن الأدب بصورة عامة في ازدهارٍ وتطورٍ ملفتٍ للانتباه ويرى أن الدليل على قوله أن المبدع أصبح غزير الإنتاج ويشارك في الكثير من المسابقات التي يقيمها الأشخاص على مستوى المواقع الإلكترونية، وكذلك المسابقات العربية ولهذا فهو لا يعتقد أن هناك أزمة في القصة القصيرة بل هي في تطورٍ يسابق تطور الرواية.
ويذكر مشذوب أن الكثير من كتاب الرواية بدأوا في كتابة القصة القصيرة وانتقلوا إلى كتابة الرواية وسيرهم الذاتية تفضح بداياتهم وأنهم لم يستطيعوا مغادرة حقل القصة إلى الرواية بل ظلّوا في فضائها المعقد والكثيف.
ويؤكد مشذوب على أن الأزمة تكمن عند القارئ وأنه يقسم الوسط الثقافي إلى قسمين هما المنتج/ المبدع والمتلقّي/ القارئ والسبب هو هذا السيل الجارف من الإبداع على مختلف النواحي الثقافية وما يخصنا هنا هو القص والروي لذا فإنه يتوصّل إلى أن قارئ النصوص الإبداعية يعيش عقدة الخواجة أو عدم الإيمان بالنص القصصي العراقي، ولو وضعنا ثلة من القراء في مختبر وقسمّناهم إلى قسمين، وأعطيناهم النصوص نفسها، ولكن المجموعة الأولى لأسماءٍ عراقية وأعطينا المجموعة الثانية النصوص بأسماء عربية أو أجنبية سنجد أن المجموعة الثانية ستشيد بالنصوص وعظمتها، بينما نجد أن المجموعة الأولى تزدري النصوص، بل إن بعضهم يستهزئ بها.
ويخلص مشذوب إلى القول إن “القصة عالم وفضاء يختلفان عن عالم الرواية وفضائها الواسع وبالتالي لا أعتقد أن الأخيرة تزاحم القصة بسبب هيمنتها العراقية والعربية، إضافة إلى أن القصة القصيرة عموما تجاوزت الكثير من المفاهيم الأدبية السردية الخاصة بالتكثيف والعقدة والاستهلال وغيرها من الحدود، كونها من وجهة نظري تطورت إلى قصة الفكرة وقصة الصورة بأسلوب السهل الممتنع وليس التعقيد باستخدام الأسلوب المفخّم الذي يعتمد على الألفاظ الرنانة والسجع وغير ذلك مما ورثته”.
وهو الأمر ذاته الذي يقر به الناقد حيدر العابدي بطريقة أخرى حين يقول “لا أزمة فنية في القصة القصيرة كونها تمتلك آليات العمل الروائي لكنها تفتقد إلى الزمن الممتد ومساحة السرد القابلة لرصد أشكال الحياة المختلفة بكل جزئياتها”.
ويبين العابدي أن هذا أحد أسباب استحواذ الرواية على المشهد الأدبي عموما. ويمضي بقوله إن الادعاء بفقدان القصة القصيرة لجاذبيتها من حيث التلقّي والإمتاع غير صحيح، ويستدرك بأن التأكيد سيكون أن كتابة القصة القصيرة تحتاج إلى وعيٍ وبناءٍ دقيقٍ خاص يعكس دقّة وفنية القصة القصيرة وهو ما يؤشر على هجرة روادها أو ضعف التلقّي كونها فضاءً محدوداً يعتمد الرشاقة والسرعة في رسم الأحداث بعكس الرواية التي تحتاج التأمّل والانسيابية في تشكيل الأحداث.
ويعتقد العابدي أن بقاء القصة القصيرة في موقعها المتميز يعود إلى كونها جنسا أدبيا رصينا إذا ما توفرت للكاتب أدواته الفنية والموضوعية في إنتاجها، وهو ما يستدعي من النقاد ضرورة تفعيل الجوانب الإيجابية والسلبية في رسم الفارق ما بين جنسين أدبيين لهما حضورهما الفاعل والمؤثر في الساحة الأدبية. ويعطي العابدي رأيا آخر مفاده أن القصة القصيرة غُيّبت بفعل صعوبة تقنياتها ودقّتها أكثر من كونها جنسا أدبيا قديما لا يتسع لرصد أحداث الواقع كالرواية التي استحوذت على المشهد الأدبي بفعل تنوع واتساع مساحات تمثلها للواقع.
من جانبه يعتبر الروائي والقاص والفنان التشكيلي عبدالرضا صالح محمد القصة القصيرة عروس الأجناس السردية لما تمتاز به هذه المدلّلة -بحسب وصفه- من خاصيات تؤهّلها لتكون كذلك، لجزالة اللغة المستخدمة فيها وسهولة نشرها في الصحف والمجلات وإمكانية قراءتها في مختلف الظروف.
ويستدرك بعد إقراره هذا بقوله إن القصة القصيرة لا ترقى إلى فخامة الرواية وسيادتها، بسبب أن الرواية مشروعٌ إبداعي متكامل البناء والرصانة وتشكل مساحةً واسعةً تمتد إلى زمنٍ قد يطول إلى أعوامٍ أو إلى عقودٍ رغم الوقت الذي تستغرقه في تشكيل بنائها وتشييد هيكلتها، وأنها، أي الرواية، أخذت حيزا كبيرا وخاصة في العقد الأول من هذا القرن وما تلاه من سنوات وخصوصا في العراق.
ويطرح محمد أسباب التفريق بين القصة والرواية، منها السبب الأول الذي يكمن في كون الرواية نفسها مشروعا ثقافيا كبيرا يقدّم في مضامينه أحداثاً ووقائع لمجتمعٍ أو مؤسسةٍ أو عائلةٍ أو أفرادٍ. والسبب الثاني يكمن في وسائل الإعلام وبالخصوص دور النشر والتوزيع حيث دأبت هذه الدور على تقديم الرواية في مسابقات كبيرة تؤطرها بهالة إعلامية واسعة في الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي.
فيما يرى السبب الثالث كامنا في نفسية كاتب القصة القصيرة نفسه وأنه يبقى يشعر بنقص في اكتمال ‘شخصيته الأدبية‘ ما لم يخض هذا المشروع الكبير وهو الرواية. لكنه يعود ليثبت قولا أنه لا يرى وجود انحسارٍ للقصة القصيرة وإنها لا تزال في نسقها الطبيعي.
إقرار بالتراجع
على النقيض من ذلك يقر الروائي نوزت شمدين بتراجع القصة القصيرة خلال العقدين الماضيين. ويوضح أنه بعد أن كانت الغلبة للشعر جاء دور الرواية التي باتت تمارس سحرها الخاص على عددٍ كبير من الكتاب الذين هجروا من أجلها صنوفاً أدبية أخرى عرفوا أو اشتهروا بكتابتها، وعلى رأسها الفن الأجمل والأصعب القصة القصيرة.
ويرى شمدين أن هناك أسباباً عديدة لتغيّر عوامل المزاج السردي نحو الرواية. ويشرحها قائلا إن أولها وجود الوجع الذي صار أكبر بأحداثٍ كبيرةٍ متلاحقة في مرحلةٍ زمنية قصيرة نسبيا مما يعني بالنسبة إلى الكاتب مساحة روي أوسع من قدرة النص الشعري أو القصصي.
ويرى ثانيها وجود إقبال من قبل الشباب تحديدا على قراءة الرواية ويمكن تلمس ذلك بوضوح في معارض الكتب أو المجاميع الخاصة والعامة في وسائل التواصل الاجتماعي.
ويواصل قوله إنه قد يكون لرواج الرواية سبب ثالث يتمثل في المسابقات والجوائز حتى أن العشرات باتوا يكتبون الرواية لمجرّد دفعها في هكذا أنشطة سواء عن طريق دور النشر التجارية بمعظمها أو القيام بذلك بأنفسهم.
ويتهم شمدين ما أسماه بغرابة التلقي كون القارئ بصفة عامة بات يعتمد على هذه الجوائز والمسابقات لإعداد لائحته القرائية، فالرواية التي تظهر في قائمة الجائزة الفلانية أو تفوز بها تعني بالضرورة بالنسبة إليه أنها الرواية الأفضل وصاحبها يحصد في جائزة واحدة شهرةً ومجداً لم يكن لينال غيره أيا منهما حتى وإن أصدر عشر روايات متلاحقة.
ويخلص الروائي إلى القول إنه على الرغم من الزحام الروائي لا يمكن العثور بسهولة على نصّ جيد وغالبية النصوص مجرّد مغامرةٍ وحيدة ينصرف بعدها كاتبها لشأنه الحياتي. ويستدرك قائلا إن الكاتب السارد بعد أن ينفض الغبار يعود إلى القصة القصيرة وبريقها القديم وإن خيرة كتابها مازالوا حاضرين بيننا وفي قبعاتهم السحرية الكثير ليخرجوه لنا.
وما يؤكده شمدين يؤكده القاص والإعلامي محمد الكاظم الذي يرى أن القصة القصيرة أصبحت جزيرةً نائيةً يعاني سكانها من وجود ثلاثة ضواغط.
وحسب الكاظم، أول هذه الضواغط إغراء الرواية ووهجها الذي صنعته الميديا مما ولد نزوحاً غير منضبطٍ نحو الرواية ما أنتج الكثير من التجارب الخديجة التي خسرتها القصة ولم تنتفع بها الرواية.
وثانيها بحسب وجهة نظره التحوّل في شكل القصة وبنيتها؛ فالقصة القصيرة في زمن تويتر وفيسبوك تحاول أن تعيد تعريف نفسها كفنٍّ أدبي يومي يتمتّع بالسهولة والمرونة لكنه يفتقر إلى الدهشة ورصانة الاشتغال الأدبي. ويفسر قائلا إنها تبتعد عن منطقة الفن إلى منطقة الاستهلاك. وعن ثالث الضواغط يقول إنه سقوط القصة القصيرة التقليدية في فخ أيقونية زائفة وأشكالٍ ومعالجاتٍ رتيبة جعلت حركتها تعيش حالة من الترهل. لذا يرى الكاظم أن هذه الضواغط وغيرها دفعت القصة القصيرة وكهنتها المخلصين إلى إعادة صياغة معادلات هذا الفن الأدبي وإعادة موضعته بين الفنون الإبداعية الأخرى.
____
*العرب