عبده وازن «صياد اللامرئي» يواجه أسئلة الوجود


محمد مظلوم *



ثلاثةُ مناخاتٍ شعرية بارزة يقدمها ديوان عبده وازن «الأيامُ ليستْ لنودِّعَها» (دار الجمل – 2015) الأوَّل: مناخُ التأمُّل الصوفيّ والعُزلة المركَّبة، وهي المناخُ الأوسع في الديوان بحيث يشغل أكثرَ من نصف الكتاب تقريباً، والثاني: مناخٌ ذو نزعة عشقية بمزيج من الإروسية المخفَّفة والطهرانية الشجيَّة، يتجادل فيه «إروس» مع «آغابي»: الحب مع المحبة. أما المناخُ الثالث فهو: مناخُ الموت الذي يعبِّرُ عنه بقوَّة في قصيدة واحدة طويلة هي «النائمة » آخر قصيدة في الديوان.

هذه المناخات الثلاثة في الديوان، على رغم تنوِّعها الظاهر، هي غير منفصلة تماماً بعضها عن بعض، فهي متداخلة ومتفاعلة في أبعادها العميقة، إذ تجمعُها روحٌ كليَّةٌ واحدة، وثمة عناصر مشتركة نلمحُها بانتشارِها على مجمل تضاريس هذه المناخات الثلاثة، عناصر قوامها مَثنوياتٌ مُتجادلة شعرية وشعورية جوَّانية لدى وازن: الشخص وظله، الأنا والآخر، المرأة والنساء، إروس وآغابي، المرآة والإغماض، العين المفتوحة التي لا ترى، النوم واليقظة، والموت بصفته حياة أخرى، والشمس والليل في وقت واحد… هذه المثنويات كناية عن التباسات دلالية عن عوالم متداخلة تدور فيها أشغال عبده وزان وانشغالاته في القصيدة والعالم.

وحين نَصِفُ المناخَ الأوَّلَ بأنَّه مناخٌ صوفيٌّ، فإننا هنا لسنا حيال صُوفيَّة دينية، بل أمام صوفية فنية شعرية، بمعنى أنها ليست صوفية الخرقة، والزهد والرياضة الروحية، وكرامات الأولياء، إنما رحلة في التيه معراجها الصمت، وحالُها التأمُّل في هذا الاشتباك المزمن للعوالم الكثيفة من حولنا، وحلولها مقامات في مسالك التيه والحيرة، وهو ما يعني أنَّ شعراً على وفق هذا الافتراض ليس هو الشعر الذي ينشغل كثيراً بتفاصيل تلك العوالم المرئية، بل يعنى بالمحجوب منها، وهو شعرُ كشفٍ وشَطحات، يتَّسمُ بالشمولية في النظر إلى الأرض بوصفها جسد السماء! أنه شعر رؤيوي، يستعين بالبصر والبصيرة معاً، لكنَّ الجملة تستقرُّ في النهاية، على ما استبطنه الدَّاخل، بمساحة محوٍ واضحة لما جرت رؤيته بالنظر العابر.

وفي الواقع ليس هناك معجم صوفي معهود، لا في هذا الديوان ولا في ما سبقه من دواوين عبده وزن الشعرية، فمعجمه أقرب إلى جوهريات الطبيعية ورموزها العامة، إنه إذن ألصق بفلسفة وحدة الوجود أو الحلولية في التراث العربي والتراث المشرقي عموماً. حيث كلُّ التجليات للأشجار والأنهار، الليل والنهار، الضوء والعتمة، الصخرة والغيمة، هي رموز مستعارة لحقيقة واحدة وربما وحيدة. وهو أقرب إلى تأملات «جورج باتاي» الحسية في المقدَّس حيث يغدو الشعر نوعاً من «التضحية والكلمات هي القربان لإرضاء التجربة الداخلية»

بَيدَ أنَّ هذه الطبيعة السرية، أو الطبيعة الصامتة كما يستعيرها من الشاعر والفيلسوف روجيه مونييه لها منافسها وتوأمها: الزمن، وهو صلة الوصل غير المرئية بين الأرض والسماء، ولهذا لا يتجلى الزمان في مجمل القصائد، زمناً فيزياوياً تراتبياً وتراكمياً، بل يغدو أحياناً عَوْداً أبدياً وأحياناً تسلسلاً دائرياً: «فالزَّمنُ الذي يترامى أمامَنا/ لعلَّهُ الغَدُ الذي عرفناهُ قديماً/ وهو الذي كان، والذي يكون ( قصيدة «حفرة الضوء») و«الأيام ليست لنعدَّها كما راعٍ خِرافَهُ «( قصيدة أيَّام). إذاً فثمة أزلية مركَّبة ليس للزمان وحده، فالطبيعة والزمان هما توأمان يتقاسمان الأزلية، وربما يتنافسان عليها.

رموز الطبيعة

على أنَّ هذا التأمُّل في هذه الأزلية المثنوية، يستلزم قدراً كبيراً من العزلة والانقطاع في المشاهدة، والهدوء في استدعاء النائي، وهجر القريب، والاستغناء عن الآخرين، بالتواصل معهم عن طريق الرموز المكثفة للطبيعة: البحر، السماء، الغيمة، القمر، الأشجار… لذا لا شخوصَ يوميين يحضرون بقوة في قصائده، وهم أن حضروا – نادراً – فهم رموز وأشباح لأرواح أخرى، يحضرون بقوة غيابهم، لا بوجودهم الفعلي، وهذا الإعلان نقرأه في أوَّل صفحة في الكتاب حيث جاء بإهداء «إلى أنسي الحاج الساطع بحضوره أبداً!»

ثمة هدوءٌ يقارب السكون في شعره، لكنه السكون المكتنز الذي يسعى الى خلق الصفاء الضروري لقصيدته وهي تمضي إلى جدل إيمائي مع مرآة «بيسوا» ومع برزخيات «هولدرلين» وجحيم «رامبو» و»مركبه السكران» وكل ما من شأنه أن يرسِّخَ تلك العزلة الشاسعة ويجعلها ملكوتاً، فهي الحلم الذي يصعب أن يسكنه أحدٌ من بعدنا «فالأماكنُ التي نتركُها في الحُلمِ لا يزُورُها أحدٌ».

كذلك فإن هذا المعتكف واسع ومليء بالرموز التي تشغله عن العالم العادي عالم ما وراء العالم، بل إن الشاعر ينسحب أحياناً حتى من نفسه، لكي يراها بوضوح أكثر، وعلى غير ما تعكسه المرآة وقصيدة «هو» و قصيدة «لا أحد» نموذجان مثاليان لهذا الانسحاب الصوفي الصعب: «يدخل المرآة ويخرج لا يبصر نفسه». أما قصيدة «عبث» المؤلفة من جملة واحدة فيغدو الانسحاب معها غير مسيطرٍ عليه بالمرة، إذ سيغدو هو التيه البعيد « وجدني ظلي أما أنا فلا».

هكذا تبدو مَصادر الشاعر ومراجعه الثقافية، التي لا يخفيها، متوافقة إلى حدٍّ بعيد، مع تكوينه الروحي المعبَّر عنه في المضامين داخل القصيدة، وعلى هدي ما فعله «بيسوا» في خلق أنداد وأشباه غيبيين لمحاورتهم، يستدعي وازن نصوص شعراء أثيرين لديه لخلق جدليات حَيرة معهم عبر هذه الأزلية الممتدة: «بيسوا» نفسه، «هولدرلن» «رامبو» وسواهم.


الوجد المادي

في المناخ الثاني من قصائد الديوان، نقرأ مجموعة من قصائد الحب، لكنَّها في الواقع، مقطوعات من «الوجد المادي» تمزج بين العذري والإروسي. في المستوى الأول من هذا المناخ نقرأ نماذج تمثلها قصائد: «كتاب» «اشتياق»، «فراق»، «امرأة»، «لأنك في الحب»، «ريحان»، «مجنون»… فيما نقرأ في المستوى الإروسي قصائد: «غرق»، «سرة»، «يدان»، «الحالمة»، «سر»، «تشبيه موسيقي»… وهي إروسيات أقرب إلى الغزل الأوفيدي منها إلى الأدب المكشوف المتهتِّك.

في المستوى الأول ثمة طاقة شعورية موغلة في الرقَّة، ففي قصيدة «كتاب» نلمس شحنة سيَّابية لها تلك النكهة التوثينية/ الفيتيشية، فالمرأةُ التي تنام وفي يديها كتاب، واحدة من الموتيفات الواضحة في كثير من قصائد هذا المناخ: «أقلِّبُ كتاباً قلَّبتهُ أصابعُكِ قبلَ النومِ بقليل/ عسى عينايَ تأسران ضوءاً سقطَ من عينيكِ عليها عِندما كنت تقرأين»… امرأة بهذه المواصفات المهوَّلة، كفيلة بأن تكون لها معجزات الأقطاب وكراماتهم، بل انها تقترب من الأساطير، لذا فإننا سنلمح بنية أسطورية مضمرة مقلوبة «لميدوزا» في قصيدة «لأنكِ في الحب»: «إذا لمستِ حجراً أصبحَ وردة/إذا نظرتِ إلى السماءِ تتساقطُ غُيوم/ إذا فتحتِ يديكِ يهبُّ نَّسيم»، وهي كفيلة كذلك بأن تجعل من العاشق «مجنونها» فيستعير في «قصيدة مجنون» شغف قيس ابن الملوَّح رغم أن محبوبته ليست ليلى، وهو ليس شاعراً بقواف وأوزان – الملاحظ هنا أن هذه القصيدة من بين قصائد قليلة في الديوان مسطرة بطريقة الشكل الكتلوي المتصل لقصيدة النثر- فهو يعتذر لها عن ذلك، لكنه مجنونها على كل حال، وهذا يكفي لكي يبكي كلما قرأ عبارة ابن الملوَّح: «ليلى في العراق مريضة…». بيد أنَّه في قصيدة أخرى (تشبيه موسيقي) وهي مقطعة على طريقة السطر في الشعر الحر، يعيد تشكيل الجسد نغميَّاً، على درجات السلَّم الموسيقي، ويغدو هو عازف النايات والكمنجات والعالم بمفاتيح الأرغن، وأوتار القيثارات!

هذا النوس بين العذرية، والإروسية، واحد من تلك المثنويات، وما أكثرها في الديوان، وهي تعبر عن حيرة الذات إزاء كل شيء من حولها، بل حتى عن حيرة الشاعر في مونولوغه الداخلي أمام التجلي الصاعق للجمال. وهنا تعود ثيمة «وحدة الوجود» للظهور بقوة، فقصيدة «سرَّة» ذات النبرة الشهوانية المخفَّفة تعبر على نحو واضح عن توحُّد المتعدِّد، واستحالة تفريق المتشابهات. إنها ديالكتيك الحبُّ من تعاشق الحسي بالقدسي، وتلبّس اللاهوت بالناسوت. فبقدر الاتصال مع المحبوب حدَّ التماهي فيه أحياناً، فإنَّ ثمة استشعاراً موجعاً بأنَّ كلَّ هذا الحلول المفترض ينطوي في جوهره على انفصال يقارب القطيعة والهاوية، إنها علاقة الأرض بالسماء فعلى قدر ما هما مستحيلا التماهي في الظاهر الفيزيقي، فإنهما بُعدٌ واحد في التَّفكير الصوفي وفلسفة وحدة الوجود: أنت لي/ مثلما لست لك/ مثلما كلانا لكلينا أم لا/ لكن حياتك ليست لي/مثلما حياتي ليست لك/ مثلما حياتُنا ليست لأحد (قصيدة «مثلما»). كاف المخاطب وياء المتكلم هما حرفا الشيفرة لتلك العلاقة المتلبسة بين الأرض والسماء، ومثلما الحال مع مناخه السابق فإنَّ الضمائر في غالب قصائد هذا المناخ لا تخرج عن تلك المثنويات في الديوان، فالمنفصل منها يتصل ويتداخل دلالياً حدَّ الالتباس، أنا /أنت ، هو /أنا، هاء الغائب /تاء المخاطب كذلك، مثلما تلتبس المسافة وتتداخل بين البعيد والقريب «الهنا» و«الهناك». إذاً أين يمكن أن يجد الشاعر طريقه في الحيرة إلا بتلك البصيرة الفريدة؟

«الجميلة النائمة»

المناخ الثالث في الديوان يتكثَّف في قصيدة «النائمة» آخر قصائد الديوان وأطولها، إنها نشيد متصل باطراد العبارة والتكرار لتراكيب مقصودة، على غير ما درج عليه الشاعر في سائر قصائده القصار. لكنَّ القصيدة هنا ليست جنازاً أو تأبيناً ظاهراً أو حتى مرثية تقليدية، أنها تنتمي الى تلك «المراثي الغزلية» المعروفة في الشعر العربي، أعني تلك المراثي التي لا تتفجَّع على الميت بأنساق إنشائية معهودة، كما هو في رثاء الذكور عادة، وإنما تتمتَّع بقدر كافٍ من التغني بالجمال المفقود الذي خسرتْ سحرَه الأرض، وهي وإن استعارت بنية الندب في تكرار تراكيب معينة في أماكن كثيرة من القصيدة، فإنما لتحيل الغياب الأبدي، بأجواء أورفيوسية، مُنَاسبةً لاستعادة الجمال الذي حُرمتْ منه الحياة وليس العكس، ومن هنا أهميته. لذا جاءت القصيدة / النشيد أقرب إلى «ترنيمة» لتنويم طفلة في الأربعين، وفي الواقع أن عبارة «الجميلة النائمة» تتكرَّر عشرات المرات في القصيدة على نحو أسلوبي مسهب لخلق تلك الترنيمة، حتى أن مفردة «الموت» تنحسر إزاءها بطريقة لافتة في القصيدة، لتحلَّ محلها أفعال أخرى: غادرت، سافرت، نامت، أو نسيت أن تستيقظ، … إنها مسافرة في هاوية بعيدة، وإلى الآن لم يعثر لها على قرار طالما أنها سفرة في الأبدية. وكنَّا رأينا كيف ينحرف الموت من معجمه التقليدي إلى نقيضه منذ إهداء الديوان «إلى أنسي الحاج الساطع في حضوره أبداً». وما دام موتا بلا احتضار، بل هو سفرة أبدية في تلك الهاوية، فإن الشاعر يعود إلى تلك النزعة الإنكارية الإغريقية للموت، ومحاولة أنسنته بوصفه الشقيق التوأم للنوم، قصيدة تذكّرنا بجون دن في المرثية التاسعة والعشرين ( السيدة التي تذهب للنوم) حتى وهي بجوِّها الأوفيدي المخفَّف:«ترقد في ظل شجرة/ في هواء من رذاذ الفجر/ تحت شمس تسطع بألفة/ في ضوء قمر ينسكب على شفتيها/ لا مخدة لها ولا سرير/ لا قميص نوم يشفُّ كالصبح». ولأنَّهُ موتنا الذي لا نفكِّرُ فيه إلا بوصفه موتَ الآخرين كما يقول فرويد، فإن هذه النظرة البدائية للموت امتدَّت في لا شعورنا حتى قلقِ اللحظة الحاضرة، من دون تغيير، لذلك نقرأ عبارات جمالية لوصف الموت كتعويذة للتغلب على شبحه: تهاوت كشال من حرير/ لم يتسنَّ لها أن تعطَّر نهديها كعادتها قبل أن تنام/ التي سيظلُّ الأطفالُ يبحثون عنها في الغابة/ العروسُ الأشدُّ بياضاً من العتمة/ التي لا تتوقَّعُ قدومَ أحدٍ/ المقيمة في صميم اليأس…».

في مجمل قصائد الديوان يمكن ملاحظة أنَّ القصيدة لدى وازن ليست مقهورة في بيانها، بل متشبثة بوضوحها البلاغي، وجملته مختزلة في التركيب، مختزنة بالدلالة، في علاقة طردية من البساطة العميقة. فحتى الجناس البلاغي شبه التام بين «القَتَلة» و«القَتْلى» ليس مجرَّد هفوة لغوية كما قد يُظَنُّ، بل هو «مفارقة» تهكمية ودامية في القصيدة التي تحمل الاسم ذاته، «مفارقة» مزدوجة في التشابه البنائي اللغوي وفي التباس الفعل في الواقع، إنها تحريض على اكتشاف ذلك السياق الغامض خلف العبارة. وحتى «الصيَّادون» وهم يرمون شباكهم في الماء ويعودون…، فإنَّ الماء نفسه سرعان ما يغرق في مجازٍ آخر بعيد، ليغدو تمويهاً استهلالياً للعبارة، فهم يرمونها في«أزرق المستحيل»، أنهم الشعراء «صيادو اللامرئي» الذين يكتفون بالنسيم والظلال والحصى!

لغة عبده وازن في «الأيَّام ليستْ لنودِّعَها» تبدو صافية، ومعمار قصيدته يتجلى واضحاً، على أنَّ خلف كلٍّ من الصفاء والمعمار في الشكل، ثمة يقيناً حائراً في المحتوى، والكثير من التعثُّر في الإمساك بالمعنى النهائي، وهو تعثُّر يتضارع مع محنة الوجود الإنساني وهلاميَّة المعنى في ما حولنا. إنَّه الشعرُ الذي لا يعنى كثيراً بأن يقدِّم جواباً، عن ذلك، لكنَّهُ يعمِّقُ الأسئلة حوله بترسيخ الشكوك. لهذا كان لا بدَّ من الاحتيال على وجودنا وفنائنا بالاحتماء خلف تلك الأثيرية الحلولية: «يمكننا أنْ نمشي في الهواءِ كما يفعلُ الملائكةُ عندما يفقدونَ حصى الطريق» أو: « وحدها عيونُنا تحملُنا إلى صورٍ لم نسكنها مرَّةً».


* الحياة 

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *