أتذكر صوت الديك مع فجر جديد

خاص- ثقافات

*عمر شطة

أحاول أن أتذكر صوت الديك مع فجر جديد، وصوت الدجاج في بحيرة جارنا، ورائحة الماعز مع الصباح ، و هو يحلب معزته، و يجمع البيض الأبيض، ويمر على كرمة العنب، يأخذ منها عناقيد من العنب الأخضر والأحمر ، ويضعها في دلو حديدي ، كان هذا الدلو في السابق خاص بزيت المائدة، يقوم بتغطيته بقليل من الأعشاب، ويخرج من البحيرة والكلب ينبح، و ساقية الحي يجري فيها الماء ، تلامس حائط الطوب القالب ، وهو يتوكل على الله ، بظهر منحني، و تجاعيد على وجهه ، تصور تاريخ حياته، راجعا الى بيته ، أين يتظره أحفاده لشرب الحليب الماعز واكل البيض من يدي جدتهم، التي قامت باكرا، تحضر المسمن والقهوة لأولادها وبناتها وكناتها، كلهم يعيشون في بيت واحد، يأكلون من طجين طيني، و برمة وكسكاس، على منديل أحمر، وفي قصعة من خشب أحمر، يحتمع الجميع تحت شمعة تضيئ كل البيت ….

أتذكر أمي عندما كانت تضع لي الزبدة في قطعة خبز ساخنة، حتى تسيل من حواشيها، مع كأس من القهوة والحليب، والسكر الأبيض، في فصل صيف لا أتذكر أنه حار، لأن البساتين كانت من حولنا في كل مكان، وكانت تأتي بنت جيراننا واسمها زهرة وهي تحمل بيضا لأمي من دجاجاتهم، و تقعدها امي لجانبي ونشرب القهوة معا، والضجك ينتابنا بشكل جنوني، وأمي تبتسم ونحن لا نتوقف على الضحك مع بعضنا البعض، والقهوة لا تنتهي كأن الساعة توقفت في تلك اللحظة مع كل ضحكة…

…كانت أمنية جدتي أن أكون مدرس قرآن، وأمنية جدتي من أبي كانت أن اكون معلما في المدرسة، وكانت أمنية أمي أن أكون طبيا، وكانت أمنية والدي أن أكون مثل عمه الذي يسكن في فرنسا، والذي لم أره في حياتي، مؤخرا اكتشفت إنه كان يعمل طباخا في مطعم، المهم أنه كان في باريس، عاصمة الجن والملائكة، يعمل طباخا أو يعمل غسالا ….لا يهم، المهم كان في باريس، والمهم أن خالتي كانت تريدني أن أكون عطارا، ربما لأصلح ما أفسده الدهر فيها، أما أختي الكبرى سامحها الله، كانت تحبني كثيرا، كلما رأتني كأنها رأت شيطانا في البيت، ولحد الآن لا أعرف لماذا..كانت تتمنى أن تراني تحت التراب، ..ربما لأني مرة قلت لوالدي، أنها تريد وتتمنى أن تتزوج ابن الجيران، ومن ذلك اليوم، ابن جيراننا، تمنى ان يسكن بعيدا عنا، بعدما تلقى اصابات على مستوى جميع اعضاء جسمه، اما اختي المسكينة فتزوجت ابن عمي، الذي كانت أمنيته أن يصير اسكافيا، وهو الوحيد في العائلة الذي تحققت له أمنيته، اما زواجه من أختى لم تكن امنيته، فكانت امنية أمه، وأمه كانت تحبني وتريد أن تزوجني ابنتها التي كانت تتمنى ان تتزوجني ولكن لما عرفت اني اتمنى فتاة من خارج العائلة، لأن هدفي كان نبيلا، ولا أريد أن تتشت العائلات بسبب شقاق بسيط بيني وبينها، كم كنت مراوغا، فتهربت منها، وانسللت كالزئبق، ….آه نسيت ماذا كنت أريد أن أتمنى….

أحاول أن أتذكر حي الزبارة، أتذكر ” براقة” رحمة الله عليها، التي كانت تقطع السرّة، كنا لا نسمع للمرأة الحامل صراخا، إلا صراخ وليدها في لحظات يدوي بين تلك الغرفة الضيقة المبنية بالطوب بالقالب، المصنوع من تراب البساتين و ماتبقى من قبار الماعز والبقر و مع القرط ، كل هذا يخلط ويكون قالبا من الطين، يتفنن البناء بوضعه حبة حبة حتى يستوي الحائط، و توضع سيقان من الخشب العريض ويشد بالقصب من فوقه، فلا نعرف حرارة في فصل الصيف، …تلد الأم على يد براقة تلك المرأة الطيبة البركة، ;و تتعالى الزغاريد و تأتي التبريكات من الجارات ولكلهن فرحة وبهجة ، مسرعات بملاحف للقريبة من البيت والبعيدة عن البيت بالقنبوز، يحملن السكر الكيلو والقهوة الخضراء، وهناك من تطيب القهوة والمسمن، وتأتي لتطيب بخاطر جارتها و يتواصل جسر الطيبة بينهن، والأم من ثاني يوم لها، تقوم من فراشها وتواصل أشغالها وهي ترضع و الطجين بقربها، و المغزل على حجرها والزربية أوشكت على الانتهاء تحمل كل ألوان الحياة، معلقة في منسج خشبي ، مشدودة بعضادات و “خلالة” لاصقة بها خيوط الصوف المصبوغة ، و “قرداش” يمشط الصوف الأبيض..

أحاول أن أتذكر حي الزبارة، بين أزقته الضيقة، وبساتينها، بين حيوط الطوب والقالب، وأشجار الرمان، بأوراقه الحمراء، و نواره ببياضه، و نخيله المتعالي، وتموره على الأرض مع حبات القيوان، و طيور الزرزور في السماء، وبندقية الصيد على الأكتاف، وعصافير الخطاف في بيوتنا، و الحنة بأيدي أمهاتنا على صدور فال الخير من الخطاف، أحاول أن أتذكر صوت الجيران، وصوت الشيوخ والصبيان، وصياح الماعز ورائحة الطوب في فصل الشتاء، مع زخات المطر على التراب والوحل والغرقة، أحاول أن أتذكر العيد في الصباح، مدينة كلها صورة فرح وابتهاج، كنت طفلا، أشم رائحة القهوة ترسم ملامح زقاق ضيق، ممزوجة برائحة المسمن،……..تمر عليك المراة بقنبوز ابيض، وهي تنظر بعين واحدة، كل النساء تعرفني و أعرفهم ، كم مرة أنام في دار جارتنا و آكل عندهم ، ونلعب في زقاق ضيق، والغبار يتطاير من تحت أقدامنا الحافية، والكرة تطير في السماء وتسقط بالجنان، ويقفز أحدنا من أعلى الحائط، ويرميها لنا ، وهو نازل وفمه مليئ بالتين و البرقوق، …وكله خدوش ودم ينزف من اصبع قدمه، الذي يربطه بقطعة قماش، مزقها من ثيابه، ثم اكرمكم الله يبول على اصبعه كمطهر له ، و حبسا للدم… أحاول أن أتذكر يوم العيد بلباسنا الجميل وشعورنا السوداء ، بتسريحة واحدة، بخط على اليسار من الرأس، تدق الأبواب من الصغار لجمع النقود، بكلمة اعطيني عيدي، أحاول أن أتذكر النقود التي اجمعها والتي كانت صغيرة في حجمها وكبيرة في قيمتها، دراهم الدرورو و ربعة درورو وياسلام على العشرين دورو، تجد على طول الزقاق ، العاب متنوعه وكثيرة، اصحابها اطفال صغار مثلي، كنت احب أن العب لعبة الكأس في دلو الماء، اقوم برمي الدورو في الدلو و إذا سقط بالكأس الصغير، أفوز بدورو، وهناك بعض الغشاشين، يضعون الزيت بالماء حتى ينحرف الدورو عن الكاس و أخسر، وهناك لعبة الصحن الزجاجي، ترمي من بعيد الدورو فإذا سقط فيها فزت، و لعبة البوس، اي حجرة ترميها على النقود التي وضعت في التراب، ووو…أحاول أن أتذكر كيف كانت الجارات يلتقين و يتنقلنا من بيت الى بيت دون حجاب، إلا ملحفة على الوجه وبسرعة البرق، تدخل على جارتها وفي يدها طبق من الفواكه والبيض،….آآآآه من قصة البيض، بيض الدجاج الأحمر وليس بيض اليوم…أحاول أن أتذكر بنت الجيران وهي تعطيني كل يوم بيضة، أفطر بها في الصباح، بيض من دجاج عربي أحمر الريش و أسود،

أحاول أن أتذكر حي الزبارة، بين أزقته الضيقة، وبساتينها، بين حيوط الطوب والقالب، وأشجار الرمان، بأوراقه الحمراء، و نواره ببياضه، و نخيله المتعالي، وتموره على الأرض مع حبات القيوان، و طيور الزرزور في السماء، وبندقية الصيد على الأكتاف، وعصافير الخطاف في بيوتنا، و الحنة بأيدي أمهاتنا على صدور فال الخير من الخطاف، أحاول أن أتذكر صوت الجيران، وصوت الشيوخ والصبيان، وصياح الماعز ورائحة الطوب في فصل الشتاء، مع زخات المطر على التراب والوحل والغرقة، أحاول أن أتذكر العيد في الصباح، مدينة كلها صورة فرح وابتهاج، كنت طفلا، أشم رائحة القهوة ترسم ملامح زقاق ضيق، ممزوجة برائحة المسمن   وبلباس جدبد بمختلف الألوان…

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *