فصول من كتاب الحياة السّعيدة :البحث عن الاكتفاء في العالم الحديث للكاتب ديفيد معلوف (2)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدّليمي

                       طبيعة الحياة السّعيدة – تتمّة

 

   ولكن خلف البلاغة الكلامية لمونتين بشأن ( متجرنا الخلفي ) الذي نُمضي فيه تقاعدنا من أعباء الحياة وتخفّفنا من أحمالها الثقيلة ، ثمة تقليد يقبع في أعماق التراث الممتد في الماضي الكلاسيكي والموصول بسينيكا Seneca وشيشرون Cicero وإيبيكتيتوس Epictetus ؛ بل ويمتد حتى أبعد من الكتّاب المتأخرين ليشمل إبيقور Epicurus وأرسطو Aristotle وأفلاطون Plato في القرن الرابع قبل الميلاد – ذلك التقليد الذي نسمع شيئاً من صداه العصيّ على الإندثار في واحدة من أكثر القصائد الإنكليزية  للقرن السابع عشر مدعاة للإعجاب والإنبهار : قصيدة السير هنري ووتن(1) Sir Henry Wotton الموسومة ( طبيعة الحياة السعيدة ) وهي في الأصل نسخة من القسم الثاني من قصيدة هوراس الثنائية الموسومة ( سعيدٌ هو مَنْ –   Beatus ille qui )(2) :

 

     كم هو سعيدٌ مَن وُلِد أو تعلّم

      بأن لايخدم إرادة غيره

      ذاك الذي درعه المكين هو فكره النزيه

      والحقيقة الواضحة بذاتها هي أعظم مهاراته !!

   

       مَنْ تطلّعاته الشغوفة ليست تلك التي لأسياده ، من لازالت روحه مستعدة للموت

      طول الوقت ، غير المقيّد بوثاق العالم من خلال حبّ سخي أو نسمة هواء مبتذلة

      ؛

 

      مَن إصطفى لذاته حياة خالية من الإشاعات

      مَن ضميرُهُ متجسّد في إنكفائه العظيم ؛ حيث لايجد المداهنون المتملقون منفذاً

      لحدود مملكته وليس في قدرة مُدّعي الإتهامات أن يتسببوا بأي خراب عظيم لها

 

      هذا الرجل خلوّ من القيود الذليلة

      بشأن الأمل في الإرتقاء أو الخوف من السقوط ؛

      سيّد نفسه ، لاسيّد الأراضي الشاسعة

      وفي الوقت الذي لايملك شيئاً ، فقد ملك كلّ شيء !! (3)

 

      ووتن ( الذي كان صديقاً حميماً للكاتب جون دن John Donne في أكسفورد ثم صار لاحقاً صديقاً مقرباً لأستاذ من أعظم أساتذة العصر ، إسحق كاسوبون Isaac Casaubon ) يعدّ من أوجه كثيرة النموذج المثالي لرجل النهضة ، والحياة التي يحتفي بها في قصيدته هي الحياة التي عاشها وليست حياة أخرى متخيلة ، وقد إبتغى فيها تحقيق ضربة أستاذ متمرّس يرمي لتخليق موازنة بين الإمكانيات   المتعارضة ( بحسب رؤية عصره ) بين الحياة الفاعلة والمتأملة . قضى ووتن ثلاثين سنة في الخدمة الدبلوماسية وامتلك ظرفاً وخفة دم جاءت له أحياناً بمشاكل غير متوقعة ، ويعرف عنه بأنه هو من وضع ذلك التعريف الصفيق ( بعض الشيء ) للدبلوماسي بأنه    ”  جنتلمان نزيه أرسِل ليكذب في الخارج تحقيقاً لمصلحة بلده ” ، وقد عمل لأكثر من عشرين سنة سفيراً لبريطانيا في فينيسيا ، ثم بعد تقاعده صار مديراً لمدرسة إيتون البريطانية الأرستقراطية الشهيرة وقضى حياته ” من غير إيذاء أي أحد ” ( كما عبّر بكلماته هو ) وفي صحبة حميمة مع كتبه وبعض أصدقائه الخُلّص ، كما كان يقضي بعض الوقت أحياناً في الصيد من فرع صغير من فروع نهر التيمس المسمّى ( بلاك بوتس Black Potts ) ، وكان يصحبه في جولات الصيد تلك صديقه إيزاك والتن(4) Izaak Walton الذي وصف لاحقاً صحبتهم تلك في عمله المسمى ( الصياد المثالي بالصنّارة Compleat Angler ) .

   ينبؤنا ماذكرناه بشأن ووتن أنه كان رجلاً منغمساً للنخاع في الشؤون الدنيوية التي خبرها وعرف كل أساليبها بدراية عظيمة ، ولكن كيف يمكن للمناصب الرفيعة أن توقع في فخها المتملقين الجوّف وكذلك الرجال الذين جعلوا همّهم الأكبر هو التشهير بمواقعهم والحطّ من شانها ؟ كيف يمكن للكلمات التي قُصِد منها القتل أن تتخفى في قناع المديح ؟ كيف يمكن لرجل ذي مكانة وحظوة وحتى القليل من السلطة أن يخسر روحه بشأن السلطة الأعظم التي يحوزها الخوف من السقوط ؟ يمثل ووتن بحقّ نموذجاً لتأكيد مونتين بأن ( العزلة تغدو شيئاً فشيئاً أمراً أكثر عقلانية بالنسبة لكلّ من منح العالم الأوقات الأكثر فعالية وجموحاً من حياته )(5) ؛ إذ عندما تشابكت حياة هذا الرجل مع العالم الدنيوي وشؤونه بكل الطاقة التي تعتمل في دواخله فقد نجح ذات الوقت في الحفاظ على نفسه بعيدة عن إغواءات الفساد – عامة كانت أو خاصة – ولم يعتمد على حظوته لدى الأمراء ولاتزلّفه من الغوغاء ، وهكذا ظلّ للخاتمة ( سيّد نفسه ، لاسيّد الأراضي الشاسعة ، وفي الوقت الذي لايملك شيئاً ، فقد ملك كلّ شيء ) . لاأرى أننا إمتلكنا في أوقات لاحقة قطعة أدبية مثل هذه تكتنز  جمالاً أعظم وإجماعاً بشأن أعلى مراقي السعادة ( وكذا الحكمة ) يمكن أن تتفق بشأنه كل المدارس الفلسفية الكلاسيكية سواء كانت أرسطوطاليسية أو إبيقورية أو رواقية .

   ولكن ماذا بشأن أيامنا هذه ؟

   ثمة إختلاف واحد في الأقل لدى مجتمعات متطورة مثل مجتمعنا – وهو إختلاف جوهري في أهميته –  ذلك هو أن مايدعى ( السعادة ) بات حالة يتطلع لها الجميع ويطمحون إليها بصرف النظر عن موقعهم في المجتمع ، كما يرون فيها حقاً ينبغي لهم التمتع بمباهجه لأقصى الحدود المتاحة : نحن نعتبر المجتمع سعيداً ( وكذا الدولة )   بالقدر الذي يكون فيه أفراد ذلك المجتمع ( أو تلك الدولة ) أحراراً وسعداء ، وكذلك بالقدر الذي تساهم فيه كل مؤسسات المجتمع ( والدولة ) في إمكانية تحقيق متطلبات السعادة والحرية للأفراد جميعاً ، وتنتصب أمامنا بكل شموخ مواضعة جيريمي بنثام(6) Jeremy Bentham الواردة في كتابه ( مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع ) ( 1789 ) حيث يصرّح بمقولته  ” السعادة العظمى لأعظم عدد ” – تلك المقولة التي غدت ركناً اساسياً في أية منصّة إنطلاق سياسية جدية ومسؤولة .

   ولكن في لجة مجاهدتنا لفهم المفردة ، ماالذي تعنيه السعادة حقاً ؟ وكيف إنتهى الأمر بها لتُعدّ حقاً ينبغي أن يكون متاحاً للجميع ؟ وكيف يمكن لمفهوم ( الحياة السعيدة ) كما نفهمه اليوم أن يتعشّق بشكل ما مع الطريقة التي فهمها بها كلٌّ من أرسطو أو سينيكا أو حتى مونتين ، أو كما تبدّت للسير هنري ووتن ، بخاصة ونحن في خواتيم العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حيث بتنا نعيش في أزمنة صارت  فيها ” حبوب السعادة ” تباعُ بوصفة طبية أو تكون متاحة في أية حفلة أو نادٍ للرقص ، أو في كل حانة من حانات المدن حيث تتوفر ساعة من السعادة يُراد منها أن تكون علاجاً فورياً لمنسوب السعادة الواطئ – شيء شبيه بحالة يمكن وصفها ( العلاج بالتجزئة ) في مقابل العلاجات الجمعية السائدة ؟

   الحياة السعيدة بالنسبة إلى ووتن هي الحياة الكفيلة بالإستخدام الكامل للمواهب التي مُنِحت للفرد ، والتي لاتخيب في إنجاز وعدها الصادق لتمام غايته : أولاً في أيام النشاط المديدة ، ثم في قضاء الأيام والليالي التالية في سكينة كاملة ، وستكون الحياة كريمة وطيبة  معه مثلما خدمها هو في الأيام الخوالي ، وإذا ماسُئل ووتن بشأن الحياة ” الطيبة ” فلعلّه سيشير إلى مفردة ( البعيدة عن التسبّب في الأذى ) – عمل الرجل كل مابوسعه عمله لخدمة العالم ولم يتسبّب بأي أذئ لأي شخص في العالم .

                               الهوامش

                          ——————

 

  • هنري ووتن ( 1568 – 1639 ) : كاتب ودبلوماسي وسياسي إنكليزي عمل عضواً في مجلس العموم للفترة من 1614 وحتى 1625 ، ويُعرَف عنه قوله الشهير ” السفير هو جنتلمان نزيه أرسِل ليكذب في الخارج تحقيقاً لمصلحة بلده ” . ( المترجمة )

  • لطالما ظلّ نص هوراس هذا واحداً من أكثر النصوص المفضّلة للمترجمين ومقلّدي النصوص الشعرية الإنكليزية لما يقدّمه من ذخيرة غنية بالمتع والمباهج التي ينطوي عليها العيش في الأجواء الريفية والتقاعد من أعباء العالم . يُقدّم نص ( بن جونسن Ben Johnson ) الموسوم ( بركات الحياة الريفية ) التي أكملها الكاتب عام 1616 نسخة قريبة في روحها من نص هوراس وبخاصة في حركة السخرية المضمّنة في المقطع الختامي . بعد سبعين سنة سيكتب ألكساندر بوب Alexander Pope البالغ حينذاك إثني عشر عاماً نسخة جديدة يقتفي فيها أثر تلك القصيدة ويقول :

            سعيدٌ هو الرجل الذي كلّ رغبته ومُناه

            بضع إيكرات من الأرض الموروثة من جهة أبيه

            يتنشّق هواءها غير الملوّث وهو مسكون بالرضا والقناعة

            ماكثاً في أرضه هو ،،،،،،، الخ

            وقد غدا نصّ بوب هذا النص الإنكليزي الكلاسيكي الذي يهلّل تمجيداً لحياة

            الريف المثالية التي تعتمد مثال البساطة والخيرية في أجلى صورها .

)3) Wotton’s poems, with a Life by Izaak Walton, were published as Reliquae Wottonianae in 1651, twelve years after his death .

  • إيزاك والتن ( 1594 – 1683 ) : كاتب إنكليزي عُرف عنه – بالإضافة لعمله المذكور في المتن – كتابته لعدد من السّير القصيرة التي جمعت في مجلّد تحت عنوان ( حيوات والتن Walton”s Lives ) . ( المترجمة )

(5)  Montaigne, Essais, ibid.

    (6)    جيريمي بنثام ( 1748 – 1832 ) : عالم قانون وفيلسوف إنكليزي ومصلح قانوني واجتماعي ، وهو المنظّر الأكبر لفلسفة القانون الأنكلو- أمريكي كما اشتهر بمناداته بمبدأ ( النفعية ) والفردانية وحقوق الحيوان وفصل الدين عن الدولة والليبرالية الإقتصادية . ( المترجمة )

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *