مع الموتى

خاص- ثقافات

*أحمد بنميمون

في أبهاء معتمة وضباب كثيف،  تشبثتُ
بأردان أكفانهم قبل أن تحجبهم، وصحتُ
دون أن يسمع صوتي كأنني في
أعماق بعيدة :
لقد اغتسلتم أيها الأحباب وأوغلتم
في طريق تمتنعون عن العودة منها،
بينا ما زلت أنتظر نصيبي من ماءٍ
تغسل به أطرافي من أثر صلصال وبيء،
وقطرات عطور أحب أن تضمخ جذعي
الذي لن تغادره بقايا عواطف أنكرها الجميع
وبقيت وحدي المؤمن بجدواها،
فأنا لم أرَ  ثمار  ما  زرعتُ،
أبنائي كثيرون و لا أحد إلى الآن
فكَّرَ في تشييعي،
لذا تأخر دفني حتى انتشرتْ
روائح ينفر  الجميع من عفنها
في أعلى صدري، لأضج   بدوري
من  أعضائي السفلى وما جرَّتْ عليَّ
من أعباء ، تشمت بي،  تحملتُ منها
فوق ما يقدر جسدي وروحي ،
طرقاتُ المدن، وسبل الغابات الآن
تضج ببكاء لا يليق بغير مقابر
لا تجد من يزورها،
وشاهدان فوق لحدين أطلتُ وقوفي عليهما
يذكِّرانَنِي دائماً بأصولي التي ذبلت
في هذه الغابات فروعها،
فمن يروي جذوراً ميتةً؟
فلا أزهار تتألق ضاحكة مني
في أي جانب حولي أو حتى بعيداً عني،
لتذكرني بأساطيرَ لم تذبل في غير قلبي ،
ولا تزال شفاهُ الناس تتغنى كلَّ فجرٍ
بأناشيد تمتدح رفات قوم فانين.

هناك بهو  آخر  صغير،
ضوؤه نسبيٌّ. الموتى يزدحمون على بابه  ،

وعظامهم تتقضقض في  رحمة نار هم بها متمسكون،
ما  أسعفتهم من برد ، لينصرف منهم
من شاء إلى دفء كفن أو نسيان
أن يبعث من عتمة بهو ناره تغري بالخلود بشراً هالكين..

أما أنا فباق في انتظار إشارة من ضوء مجهول:
أتأتيني من سُلَّم أستمع فيه إلى أصواتٍ لا أدري  أ تنبعث مني؟
أم مٍنْ أبعد أزمنتي الغافية في  عموض أغواري،
أصوات لم أعرفها في ما عشتُ
ولا  فيما رأيتُ من كوابيس.
نحو ماذا أحول عينيَّ أو أنقل قدميَّ اللحظةَ؟

فأنا في وحل الخوف أدعو أحلامي

أن تزرع طرقي بأزهار  تُعزِّيني

في من فقدت من أحبابي.
و على هذه الدروب
واجهتني خطاي بآلامي

وفراراً منها إلى أطراف بلدتي
كانت طرق ضيقة تنفتح لي
عن عوالم كنت أسمع  ما يدعوني

فيها إلى عناق مستحيلات  أشواقي ،
وما كنت أحسه قريباً في مدن الدنيا الأخرى،

لكني حين رحلتُ  ،
تملكني الشوق العنيف  إلى وضع دنياي في زجاجة،

والعودة إلى صَبِّ كؤوس منها ترويني

كلما احتجت إلى سكرة تطرد كلَّ همومي،

ما زلت واقفاً على نفس النقطة من طريقي

فلا مركبة من طفولتي تأتيني ،

ولا  أنسام من حاضري الشيخ  تحييني.

وأنا حبيس أعماقي صحبة الموتى تسير بي ، جيئة وذهاباً،

بين ما لا أرى مِمَّا أريد   ومِمَّن أهوى،

أرجع في حنين إلى قيدي،

وبضعةوجوه من أهلي:

أرى كيف امتدَّت كفي  إليهم تستجدي،

وفي الموت لا جدوى

ولا أصداء من موتَى تناديني.

***

تركتُ  أوهامي لدَى  موتايَ ،

لم ألف  مِنْ صُوَري

على أيامهم ماكان يفتنني ويحييني

وقد غامت بآفاقي

رؤى أشياء  تسحرني

بصوت داخلي باكٍ

صدى ما باتَ  يدعوني.

(02/01/2014)

ـــــــــــــــــــ

الفَرِحُونَ

***

بعد أن سُجُّوا في قبورهم

تنفسوا  الصعداء وفتحوا عيونهم

فرأوا أضواء جميلة  تغرقهم  في بحار سعادة

انعكست على مرايا وجوههم الساكنة كأعصابهم الميتة

هم الذين كانوا قبل قليل قلقين حقاً

من عذاب لوّحً به في وجوههم شياطين ما زالت تتكاثر

كانت تريدون العبث بسلام أحلام حياتهم التي

لم تعرف إلا جلبة تعالت ولم تعرف كيف تهدأ.

***
أنا الآن حين أمشي بين أجداثهم حزيناً،

تحت أشجار تهَدَّلت أغصانها في غير اكتراث

بما يجري تحتها من جنائز ،

أو حسابات ليل عصابات لصوص،

أسمع أصوات ضحكٍ هاديءٍ،

متبادلٍ بين كبارهم وصغارهم،

وبضعة أقوال يسخرون فيها

من خوف الأحياء  بعدَهُمْ، من عودتهم ،

هم الذين بعد أن استراحوا

وأصبحوا يعملون الان في صمت،

بينا يعضون على سعادة موتهم بالنواجذ،

حتى يُجنَّبُوا خطر اليقظة ، والزجِّ بهم  من جديد،

في طرقات حياة لا تهدأ

إلا بعد شبوب حروب.

***

لا تظلموا الموتى

فها هم يسمعون
هم يضحكون الآن

من بهجتهم
لكنهم إن مسَّهُمْ منا أذى
شدوا على أكفانهم

كفَّ الضنينْ
من خوفهم حملت رياح نحونا

أصواتَهم في كل حينْ
يتضاحكون إذا نسيناهم وإنْ

نحن ذكرنا هم بعطفٍ

يستجيرونا خفافاً يَنْشُجونْ.

***

يفرح الميتون

كلما امتدت الحياة

على وجه الأرض ، ويُطرَبون

لهزيم الرعد كأجمل ما توقِّعه طبولٌ
من موسيقى الروح

وتهتز أضأل ذرات أجداثهم في سكون

كلما قصفت صواعق أو انهمر مطرٌ
وكلما غُمِروا بأضواء علامات تأخُّر القيامة،

فوعيهم مخيف ألا حاجة بهم إلى نهوضٍ
يستفزهم إلى متاعبَ أكثر
مما عانوا، أو اضطهادٍ جديد

فهم يضحكون يضحكون

كثيراً حتى تدمع محاجرهم الفارغة،

من مزاعم جنات تزهر

بعد أن ترفتت عظامهم  في هدوءِ

قبورٍ ينظرون

ـ إلينا من تحتها وقد  نجوا من جحيمنا ـ
فرحين بما أوتوا ولا يحلمون

بشيءٍ ولا يستزيدون
___
*شاعر مغربي

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *