أسراري الصغيرة

خاص- ثقافات

*مريم لحلو

يُدَقُّ الجرس فينفرط العقد …تتبعثر حباته في الساحات والأزقة .. تهدر المحركات… في لمح البصر يصبح المكان الأليف مرعبا.. يزدحم مكان آخر بالباعة وبالمشترين في تبادل عجيب للأدوار…بشر يفرغون مكانا ليملأوا آخر..أحمل مقتنياتي وأنا في عجلة من أمري ،وأنا دائما في عجلة من أمري لا ساعات النهار ،ولا ساعات الليل تكفيني ٠٠٠ يهدر محرك سيارتي من جديد ومعه يهدر المذياع وفي رأسي ملايين الخطط ،والمشاريع ..أرمق في ضجر علامة منع مرور نبتت في الطريق المختصر المؤدي إلى بيتي ..يتغضن وجهي بسبب تساؤلاتي الداخلية .. رتل السيارات الطويل الظاهر على مرآتي العاكسة لا يترك لي فرصة للتمهل والتفكير .. فأنحرف يمينا لكي لا أغلق المسرب الوحيد .. فداخل كل مركبة كرات صغيرة من الشر بالغة الحساسية و في تمام الاستعداد للانفجار المدوي …فكل سائق يملأه يقين بأنه صاحب الحق والحقيقة ،وأنه العاقل الوحيد وسط رهط من المجانين…أما إذا كانت السائقة امرأة فتلك حكاية أخرى …ساكنة أتأمل الصوت الرخيم لصديقتي مذيعة الإذاعة الجهوية ،في أقل من ثانية أتذكر كيف حرمت من تحقيق حلمي في الالتحاق بالمعهد العالي للصحافة فقط لأنه لا يوجد بمدينتي الصغيرة.. أتنهد أما نظراتي  فتتابع تسلق الواجهات الزجاجية للعمارات الجديدة الشديدة العلو والنظافة ..من أين لنا بناطحات السحاب ؟ أتعجب بصوت مرتفع .. وأضيف: ويلي ! حتى الناس الداخلين والخارجين منها لا يشبهون أولئك الذين تعودت  على مصادفتهم في طريقي المعتاد.. إشارة ضوئية تأمرني بالتوقف ..أحدق في  شرطية المرور .. مدينتي أيضا بها نساء شرطيات للمرور ولكن هذه تختلف عنهن،ويثير استغرابي قرطها اللؤلؤي الشبيه بفكرة مشاغبة تلمع ثم تختفي …تحدثني نفسي بأن الشرطية نفسها ليست إلا قرطا ثمينا متأرجحا في مفترق الطرق هذا.. تقطع حديثي الداخلي أصابعها النحيلة الآمرة بحزم وقد ظهر وجهها الآسيوي بملامح باهتة كأن ممحاة عملاقة مرت فوقه …أتابع السير في الشارع الواسع وأتابع كذلك التحدث مع نفسي : انظري ! انظري ! هاهو العالم يتغير حواليك وأنت منشغلة في عملك/عماك اليومي الممل ..
تعترض سبيل موكب السيارات بقرة تقطع الشارع بتؤدة ووقار ..يجمع بعض المارة أيديهم كأنهم في صلاة .. يبتسم داخلي لخاطر أنني وصلت بلاد الهند .. أتابع مسيري وقد تصبب جبيني عرقا بفعل التوتر ،وهبات الحرارة المباغثة… تحين مني نظرة إلى لوحة المفاتيح فألاحظ أن شاشة الساعة الإلكترونية فارغة ..أرفع رأسي قليلا لأفاجأ باختفاء عقربي ساعة بيج بن .. وبصمت المذياع …يتابع سرب السيارات مسيره كأنه أسماك بزعانف ملونة تسبح بيسر ،وسلاسة في بحيرة زرقاء صافية.. أنتبه لنفسي وأنا أدور دورتين كاملتين على برج بيزا وأنفي مفغم برائحة صلصة سباغيتي..أنحرف قليلا ..أدور يمينا ثم يسارا ..أنظر إلى يديّ أشعر بالامتنان نحوهما فهما لحد الآن ،آلتا تواصلي مع العالم الخارجي. ولكن هذا لا يمنعني من رؤيتهما ككائنين منفصلين عن ذاتي لهما عقلهما الخاص وتدبيرهما الخاص للأمور. .فأحمد الله أنهما متفاهمتان وإلا كنت قد هلكت من زمان … تزداد وطأة الإحساس بأني في متاهة تشبه مصارين أبنائي الفارغة التي تنتظرني لأملأها بما لذ وطاب ..أعرف أن كل دقيقة تمر عن موعد وصولي المعتاد إلى بيتي تزداد فيها نظرة زوجي تجهما إلى أن يختفي وجهه الكبير المحبوب تحت غضون الغضب.

أنتبه  لوجود ممر ضيق يسع مرور سيارة واحدة فقط..لا أترك الفرصة تمر. أضغط بقوة على دواسة البنزين.. متخلية عن وقاري المزعوم ،حابسة أنفاسي كأنني سأغوص في المحيط … تمضي بي السيارة بسرعة فائقة إلى أن يبهرني ضوء ساطع ثم أجدها فجأة راسية كمركبة فضائية تحت شجرة الأترنج جنب داري …
ألاحظ غياب سيارة زوجي فأتنفس الصعداء لأنه لن يلحظ تأخري..تحين مني نظرة إلى عداد الوقود فأجده لم يتحرك قيد شعرة أما شاشة الساعة فقد عادت للسطوع  ..وصديقتي المذيعة لم تتم برنامجها الأدبي بعد …أفرك عيني ويلح علي السؤال :هل يمكن أن نغير الأمكنة دون أن يتدفق الزمان ،فتحل أجسامنا في أمكنة متعددة في الآن نفسه ضدا عن النظريات العلمية ؟ أعرف أنه من غير المعقول  أن أكون قد طويت جهات العالم الأربع في هذا الوقت الوجيز جدا..أستدرك ،ومتى كان هذا العالم معقولا؟ أو لم يقنعونا أنه أصبح قرية صغيرة ؟ ولكن،للأسف قرية من زجلج وحجر لاأحد يعرف فيها أحدا. فقد أصبحنا عبارة عن أوعية فزيائية خالية من الروح تأتي من مكان لتذهب إلى مكان آخر… أزيح ثلوج القطب التي امتلأ بها سقف عربتي لأخفي كل دليل على رحلتي الأولى الحقيقية البعيدة جدا عن محركات البحث الإنترنيتية…
فأنا أيضا يحق لي أن أحتفظ ببعض الأسرار الصغيرة؟أليس كذلك؟

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *