رافقتكم السّلامة

خاص- ثقافات

*نبهان يونس

كلّ شيء كان عاديّا في محطّة نقل الرّكاب في المدينة المتّكئة على البحر هذا الصّباح حتّى أنّ اليمامات كانت تحطّ بين أقدام المارّة المسرعين على الأرصفة تنقر شيئا ثمّ تعود إلى أعشاشها في أفاريز النّوافذ السّاهمة نحو أفق أزرق تزقو فيه النّوارس و تتهادى قوارب الصيّادين عائدة نحو الشّاطئ ..

كلّ شيء كان عاديّا حتّى أنّ مطرا ناعما بدأ يهطل في المحطّة المكتظّة بالمزيد من الرّكّاب الذين يفدون تباعا .. نساء و رجال و أطفال يتجمّعون تحت سقف رصيف طويل ينصّف باحة المحطّة اتّقاء لوابل ما لبث أن اشتدّ هطله ..

الباعة الصّغار يسرعون بين الحافلات لاقتناص الزّبائن الطّارئين تختلط أصواتهم بزعيق الأبواق و صيحات ” الوشّيشة ” المنتشرين في أرجاء المحطّة ..

جاء رجل يحمل حقيبة ابنته المسافرة .. حجز لها مقعدا مريحا ثمّ ودّعها بابتسامة شاحبة : ” كوني بخير يا ابنتي ” .. لمعت دمعة في عينيه حين استدار ملوّحا لها عند باب الخروج من المحطّة ..

أمّ و أطفال ثلاثة ينتظرون على مقعد حجريّ فيما مساعد السّائق منهمك بترتيب الحقائب في الجيوب الجانبيّة لحافلتهم .. الأطفال يمضغون قطع البسكويت بتلذّذ و هم ينظرون إلى وجوه النّاس الغرباء .. الأب واقف يجري مكالمة : ” بعد دقائق ستغادر رحلتنا .. سنصل بخير إن شاء الله ” قال لمحدّثه قي الطّرف الآخر ..

شابّ وسيم يعلّق حقيبته على كتفه و يستند إلى الحائط مكوّرا يديه أمام فمه ليبعث شيئا من الدّفء فيهما من أنفاسه السّاخنة ثمّ يعيدهما إلى جيبيه و هو يبتسم للفتاة التي تورّد خدّاها  فأخفضت رأسها و هي تسترق نظرة خجلى إليه .. كلّ منهما راح يخطّط لقصّة حبّ بدأت للتوّ ..

بين فينة و أخرى كان يعلو صوت أنثويّ من إدارة المحطّة يدعو المسافرين عبر مكبّر الصّوت للصّعود إلى الحافلات التي ستنطلق حثيثا متمنيّا لهم  الوصول بالسّلامة ..

كلّ شيء كان عاديّا .. حافلات تغادر في أوقاتها المحدّدة يزيح ركّابها ستائر النّوافذ ليمسحوا المكان بنظراتهم الأخيرة ملوّحين بأيديهم لمن بقي على أرض المحطّة .. ” رافقتكم السّلامة ” يردّد هؤلاء في سرّهم ..

حافلات أخرى تصل متأخرّة يترجّل ركّابها بنشاط يسرع إليهم سائقو سيّارات الأجرة و الحمّالون و المستقبلون الذين أعياهم قلق الانتظار  فتشتبك الأجساد بعناق حارّ و تعلو بين الجمع عبارة واحدة : ” الحمد لله على السّلامة ” ..

كلّ شيء كان عاديّا في هذه البقعة من الأرض و في الحدّ المألوف لسير حياة هؤلاء البشر الذين يصلون أو الذين سيغادرون بخير لولا أن أحدا ما كان قد قرّر ألّا يحدث ذلك ..

أحد ما لا يعجبه أن تمضي الحياة على طبيعتها كان قد رتّب صفقة ما مع إله ما كي يسافر كلّ هؤلاء البشر العاديّين إلى جهة واحدة ..

كلّ شيء غدا مضطربا هذا الصّباح حتّى أنّ اليمامات فرّت مذعورة من أعشاشها نحو سماء سوداء حين ارتجّت جدران البيوت و تحطّم زجاج نوافذها ..بعد أن دوّى انفجار هائل في محطّة نقل الرّكاب اهتزّت له أركان المدينة البحريّة ..

هرعت إلى المكان سيّارات الإسعاف و عربات البثّ الفضائيّ و كميرات الصحفيّين و هرع رجال الإنقاذ و الأمن و مسؤولو المدينة و الفضوليّون  ..

هرعت كلّ الأنظار و الأفئدة و التّعاويذ و الصّلوات و الأدعية و النّذور .. إلّا أنّ السّلامة لم تعد ترافق أحدا من سكّان هذه البلاد …..

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *